اتفق الفقهاء أن الحدود الشرعية الثابتة لحق الله تعالى مثل حد الزنا وحد الخمر وحد السرقة لا يجوز إسقاطها ولا تخفيفها إذا بلغت الحكام وثبتت بالبينة وحكم فيها القضاء، ولو عفا عنها من طالته إحدى تلك الجنايات من الآدميين، روى الإمام مالك في موطئه وأورده البخاري في صحيحه عن الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب قال: يا أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت لقطع محمد يدها . يستفاد من الحديث حِرص رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم على تأكيد مَبْدَأ العَدْلِ والمُسَاوَاة بين الناس.وأن كل إِنسان يَنَال جزاءَ عَمَلِهِ، خيرا أو شرا، دون النَظَرِ إلى الأنْسَاب والأحْساَب والمكانة والعلاقات والتدخلات والوساطات ونحو ذلك.كما يفهم من الحديث أن حدودُ اللّه تُقام على الجميع، فلا تَسْقُط لِقَرَابَةٍ ، ولا تُخَفَّفُ لهَوًى. قال ابن حجر في فتح الباري "وَفِي الحديث تَرْكُ الْمُحَابَاةِ فِي إِقَامَة الْحَدّ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ وَلَدًا أَوْ قَرِيبًا أَوْ كَبِير الْقَدْر" وقد ترجم البخاري - بباب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان. ويؤيد هذا ما ورد في بعض روايات هذا الحديث فإنه صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ لأسامة لما تشفع: (لا تشفع في حد، فإن الحدود إذا انتهت إلي فليست بمتروكة). وأخرج أبو داود حديث عمرو بن شعيب عَنْ أَبِيِهِ عن جده يرفعه (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب) وصححه الحاكم. وأخرج أبو داود والحاكم، وصححه من حديث ابن عمر، قَالَ: سَمِعْت رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يقول: (من حالت شفاعته دون حد من حدود اللَّه، فقد ضاد اللَّه في أمره). وأخرج الطبراني عن عروة بن الزبير قَالَ: (لقي الزبير سارقاً فشفع فيه فقيل: (حتى يبلغ الإمام) فقال: إذا بلغ الإمام فلعن اللَّه الشافع والمشفع). فلا يجوز للإمام العفو عن الحد، ولا تجوز الشفاعة فيه إذا وصل الأمر إلى الحاكم. ويؤيد هذا أيضاً ما أخرجه أحمد والأربعة، وصححه ابن الجارود، والحاكم، عن صفوان بن أمية رصي اللَّه تعالى عنه: أن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ لما أمر بقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه: (هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به)؟. ولا يجوز عفو الإمام والحاكم أيضا فيما يخص حقوق الآخرين المظلومين فهذا لا يكون إلا برضاهم .وفي هذا الباب يدخل إمكانية عفو الحاكم في الأمور التي تخصه كالقذف في شخصه وإذايته أو الخروج عليه أو تجاوزات المعارضين له. وأما ما كان من العقوبات من باب التعزير ولا يتعلق بها حق لآدمي فللحاكم العفو عنها إذا رأى في ذلك مصلحة شرعية.وهي التي يمكن أن تنظمها الدساتير والقوانين لمصلحة عليا راجحة. ومستند هذا ما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة، والقصة رواها البخاري عن عَنْ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - قَالَ: بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا مَرْثَدٍ وَالزُّبَيْرَ وَكُلُّنَا فَارِسٌ قَالَ: « انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ ، فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ » . فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْنَا : الْكِتَابُ . فَقَالَتْ: مَا مَعَنَا كِتَابٌ . فَأَنَخْنَاهَا فَالْتَمَسْنَا فَلَمْ نَرَ كِتَابًا ، فَقُلْنَا: مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ . فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ أَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا وَهْىَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ فَأَخْرَجَتْهُ ، فَانْطَلَقْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ ، فَدَعْنِى فَلأَضْرِبْ عُنُقَهُ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -: « مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ » . قَالَ حَاطِبٌ: وَاللَّهِ مَا بِى أَنْ لاَ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِى عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِى وَمَالِى ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلاَّ لَهُ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « صَدَقَ ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا » . فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ ، فَدَعْنِى فَلأَضْرِبَ عُنُقَهُ . فَقَالَ « أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ » . فَقَالَ : « لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ ، أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ » . فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. جاء في (الموسوعة الفقهية) التي أصدرتها وزارة الأوقاف الكويتية: يرى الفقهاء أن الحد الواجب لحق الله تعالى لا عفو فيه ولا شفاعة ولا إسقاط، إذا وصل إلى الحاكم وثبت بالبينة ... واختلفوا في العفو في التعزير: فقال الحنفية: إن للإمام العفو في التعزير الواجب حقا لله تعالى، بخلاف ما كان لجناية على العبد فإن العفو فيه للمجني عليه. وقال المالكية: إن كان الحق لله وجب كالحدود، إلا أن يغلب على ظن الإمام أن غير الضرب من الملامة والكلام مصلحة، وقال القرافي: يجوز العفو عن التعزير والشفاعة فيها إذا كان لحق آدمي، فإن تجرد عن حق الآدمي وانفرد به حق السلطنة كان لولي الأمر مراعاة حكم الأصلح في العفو والتعزير. وقال الماوردي في الفرق بين الحد والتعزير: إن الحد لا يجوز فيه العفو والشفاعة، لكن يجوز في التعزير العفو عنه وتسوغ الشفاعة فيه، فإن تفرد التعزير بحق السلطنة وحكم التقويم ولم يتعلق به حق لآدمي جاز لولي الأمر أن يراعي الأصلح في العفو أو التعزير، وجاز أن يشفع فيه من سأل العفو عن الذنب، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء". ولو تعلق بالتعزير حق لآدمي كالتعزير في الشتم والمواثبة ففيه حق للمشتوم والمضروب، وحق السلطنة للتقويم والتهذيب فلا يجوز لولي الأمر أن يسقط بعفوه حق المشتوم والمضروب، وعليه أن يستوفي له حقه من تعزير الشاتم والضارب، فإن عفا المضروب والمشتوم كان ولي الأمر بعد عفوهما على خياره في فعل الأصلح من التعزير تقويما والصفح عنه عفوا. اه. نخلص إلى أن الحاكم يجوز له العفو فيما يخص شخصه بلا خلاف وقريب من ذلك عفوه عمن خرج عليه أو تجاوز حدود العرف في معارضته، ولا يجوز له ذلك مطلقا إذا تعلق بحد من حدود الله كالزنى والاغتصاب والسرقة وحد الخمر، كما أنه لا يجوز عفوه إذا تعلق بجنايات تهم الآخرين من قتل وجرح وقذف ونحو ذلك حتى يعفو المعنيون أو أولياؤهم.