انتهت على ما يبدو الجولة الأولى من لعبة الإسلاميين مع الحكم، وبدأت تنقشع خيوط مسلسل جديد من المرحلة الانتقالية المتعثرة التي دخل فيها المغرب في الآونة الأّخيرة، والتي ستبقى من دون شك مفتوحة على العديد من الاحتمالات. اليوم، يمكننا ان نتحدث عن النتائج السياسية بدل النتائج الانتخابية للحزب الحكومي، خاصة بعدما ظهرت بعض الحقائق التي تؤكد صحة ما قلناه سابقا بخصوص ما آلت اليه حكومة التحالف الهجين والتي لم تكن في الحقيقية سوى "حكومة الفانتازيا" - المتميزة باختراعها لقاموس عجيب، والأول من نوعه في تاريخ القاموس السياسي. قاموس، ينهل من أصول أجناس الحيوانات و طبائعا- تعتمد لغة "الطروطوار" في تواصلها العمومي، وتسيد أسلوب سادي ومتوحش في خطابها، و كل هذا من أجل تكريس اختيار ماضوي منهوك القوى، لا طعم ولا مذاق له سوى الحنين إلى سنوات الرصاص و محاباة المعسكر المالي الفاسد والمفترس. إن لعبة الاسلاميين مع الحكم، والبعيدة كل البعد عن روح المشروع الحداثي الديمقراطي، أظهرت فشلها عند المنعرج الأول، ولم تجني سوى العداء والكراهية، ولم تؤكد سوى طبيعتها التي تخفي تحت أجنحتها الاستبداد والعداء المطلق لحرية الإنسان و المساواة التي يحلم بها. نقطة أخرى يجب أن نستحضرها في هذه المحطة من عمر الحكومة الاسلامية: فشل المشروع الإسلاموي في المغرب في بداية مطافه. الحزب الحاكم استعمل شعارات وإغراءات وهمية، تهدف بالأساس امتصاص سخط الكادحين وجوع الفقراء وحرمان العاطلين وتدبدب الفئات الصغيرة والمتوسطة الدخل، و ترهيب بعض ابناء الطبقة الميسورة و تخويفهم ب "الجن" و "العفريت"، و قمع الحركات الاحتجاجية و الضغط على رؤساء المصالح والادارات، و شن حملات دعائية داخل الوطن و خارجه، لإخفاء الوجه الحقيقي للواقع المغربي و تضليل الرأي العام باسم الدين والإسلام. إن النفاق الديني لن يصنع أبدا أبطالا سياسيين في الواقع. ان أقصى ما يمكن أن ينتجه هو التعصب و الانغلاق و دغدغة عواطف الكادحين و الفقراء والمعوزين. كما أنه تقية، يمهد للإرهاب بكل أنواعه، الأدبي و المادي. قناع الإسلاميين يسقط في السنة الثانية للدستور الجديد دعاة الاسلاموية لهم هدف واحد: اغتيال التقدم لأسباب شعائرية، وتبني معارك وهمية، حامية مع الطوائف المختلفة، وتجريم الحريات الفردية ومنع الاختلاط في المدارس والجامعات والشواطئ والمسابح، وتحريم الرقص والموسيقى وتعويضه بالأمداح والأناشيد الدعوية، والدعوة إلى إطلاق اللحي والحجاب، وإقامة الصلوات في الشوارع و احتلال الملك العام. إن الدولة في المشروع الاسلاموي أساسها التحكم و الغزو و ليس الإصلاح وخدمة قضايا الإنسان. والحكومة الإسلامية ببلادنا، انتهزت ضعف القوى الحداثية و تشتتها، وركبت على المكتسبات الديمقراطية التي تم تحقيقها بفضل نضال الديمقراطيين بمختلف مشاربهم، وسرقت الرجة الشبابية وحراك المجتمع المدني والقوى الديمقراطية لتسطو على لحظة تاريخية متقدمة من عمر النضال المستمر من أجل نظام حكم ديمقراطي حداثي. إن ما يحدث اليوم في مصر و تونس و ليبيا.. يعمق اليأس لدى عموم الشعب، ودفع بحكومة بنكيران الى تحويل طريق الربيع المغربي الى معارك وهمية والى مبتذلات كلامية دينية، واستغلال المؤسسات الدستورية وتحويلها الى بوق للتحريض على الفتنة والتكفير والنفاق السياسي واستغفال الجماهير الشعبية المغلوبة على أمرها و الاختباء وراء رئيس الدولة، ملك البلاد. لقد سقط القناع في السنة الثانية للدستور الجديد، وتبين ان هدا الأخير بعلاته، أكثر من أحلام الاسلامويين، يتجاوزهم و يفتح المستقبل ضدهم، لأنهم أعداء الحرية و المساواة، لا ينتمون إلى مدارس النصوص القانونية و الدستورية، يؤمنون بالارثوذوكسية الدينية و بالسلطة المركزية و لا يؤمنون بعظمة الإنسان وقدرته على الخلق و الإبداع و العطاء. في واضحة النهار، تم إرغام المواطنين على متابعة فصول مسرحية الحزب الحاكم على مرأى ومسمع الجميع، والذي بدل أن ينكب على المشروع الاقتصادي الاجتماعي الذي ينتظره الشعب المغربي، معارضة وأغلبية ولا منتمون، تم التبجح بالرغبات و التمني من خلال فصول مسرحيات فكاهية بئيسة محشوة بالوعيد والتهديد. لقد لاحظ المغاربة وفي زمن قريب الفرق بين الاسلام باعتاره دين المسلمين وبين تنظيم إسلامي يهدف إلى تسييد دينه الخاص به، وهو خلط لا بد ان تكون له نتائج عكسية ان على المدى القريب أو على المدى المتوسط. إن البديل المستقبلي يصنعه الشعب انطلاقا من كفاحه و نضاله، والتزامه بالسلم والوحدة، بغض النظر عن اختلاف وتعدد خياراته السياسية الحداثية. ان المهم هو التكتل ضد المستبدين و اعداء المشروع الحداثي الديمقراطي. و هدا لن يتأتى { و نقولها مرة أخرى} الا من خلال إقامة جبهة واسعة تسهر على تنظيم وتأطير الحراك المغربي وتدفع به إلى الأمام إلى حين نصرة قضايا الشعب وإحباط المشروع الظلامي المتآمر على المكتسبات و الضحايا والأبرياء. المطلوب تكتل وطني من أجل الحداثة و الديمقراطية ان الأخطاء المتراكمة تدفعنا اليوم لقول الحقيقة والخروج عن صمتنا. فمن أجل التغطية على قصور جهدنا في العديد من المعارك، كان البعض منا يلجأ الى تضخيم الأمور والتحذير من خطر "مدرسة الاخوان"، و يحاول أن يقنعنا بالتوافق والعمل المشترك الى جانبها. والحال ان الصراع حرك أطوار التاريخ، وتبين بالملموس ان "مدرسة الاخوان" بكل أصولها و فروعها عدوة للحداثة والتحديث و المساواة و الديمقراطية. واقعنا اليوم تخترقه أسئلة متناقضة، وأهمها الى أين نحن سائرون؟ ان اليقين المزعوم يقودنا اليوم الى النكوصية وإلى تلهية الناس و خداعهم. أما القول بأن الشعب المغربي مسالم وانتهازي بطبعه ومغلوب على أمره و"متمخزن"، لا يشكل حجة علمية يعتد بها، بل انه قد يكون تخديرا متعمدا. الشعب المغربي يريد الحق في الحياة، يريد الحرية و يناضل من أجل المساواة. يريد الخبز و يريد الصحة و الشغل و السكن والاستقرار والأمان. الحاضر، بكل الانكسارات و الهزائم، و بكل امتداداته في الماضي يثير فينا حرقة الأسئلة، يوجعنا و يحزننا، و يحثنا على النضال المستمر من أجل ثورة هادئة متصلة بأنسنة الحياة الاجتماعية و تعبيد الطريق للانتقال من القديم الى الجديد. إن تعدد الأحزاب ببلادنا يعتبر مكسبا حقيقيا يجب استغلاله بكل عقلانية، وهنا نستحضر على سبيل التذكير دور التعددية الحزبية في تقوية علاقة الشعب الاسباني بمؤسسته الملكية بعد الجنيرال فرانكو، خاصة بعدما رفع الملك الحضر على جميع الأحزاب ، ومن ضمنها الحزب الشيوعي الاسباني الذي رفع رايته الى جانب راية المؤسسة الملكية، و كانت النتيجة تنظيم انتخابات برلمانية لأول مرة منذ 1936، وبعدها تم التصويت على دستور جديد أرسى دعائم الديمقراطية. كما أن المغرب من بين البلدان الموقعة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فور صدوره. و اذا كان ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان يعتبر اليوم جزءا من الذاكرة المغربية المشتركة، فحكومة رئيس حزب المصباح لم تحرك قيد أنملة ملف حقوق الإنسان، حيث بقيت ملفات عالقة مرتبطة بماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان (مصير بعض المختطفين مثلا)، كما لازالت بعض توصيات هيأة الإنصاف و المصالحة معلقة و تنتظر من يفعلها (جبر الضرر الجماعي للعديد من المناطق و تسوية العديد من ملفات ضحايا سنوات الجمر والرصاص) ناهيك عن مطالب حقوقية واجتماعية وعلى رأسها الحق في الشغل و التعليم والصحة و السكن. إن الشعب المغربي قدم شهداء و منفيين ومعتقلين و مختطفين، وصنع أحداث تاريخية وطنية، وراكم تجربة نضالية طويلة، وبات ينعم بحركة تقدمية، حداثية، متنوعة، تجمع كل الأطياف و الفئات، منتشرة في العديد من القرى و المدن، ممثلة في الجمعيات والهيآت السياسية والنقابية والثقافية. وهي اليوم مطالبة بالتكتل من أجل: + مواجهة المد الاسلامي الظلامي، + الدفاع عن تنمية شاملة مخطط لها، + المطالبة بنهج اقتصاد مندمج في السوق الوطنية، يربط مصيره بمصير الاقتصاد المغربي، ولا يهدف إلى تهريب العملة والأرباح و الرساميل إلى الخارج، + المطالبة باعتبار الوطن للجميع: للتلاميذ و الطلبة، للنساء و الرجال، للشيوخ و العجزة، لرجال الأعمال و للتجار الكبار والمتوسطين و الصغار و للحرفيين و الفلاحين، من دون تمييز في الحقوق و الواجبات، + احترام حقوق الطبقة المنتجة و تمتين و تحسين اوضاعها، و دعم المستخدمين و الموظفين و الشغيلة في المصالح العمومية، + احترام التعددية الدينية والثقافية والحريات الفردية، + تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين المرأة و الرجل. علاقة الاسلاميين بالعالم القروي مثل علاقة الملاكين الكبار بالبوادي على ما يبدو، يشكل العالم القروي سدا منيعا أمام تطور حركة الاسلاميين في المغرب. وهذا راجع لدور العقائد و التصورات الجماعية المرتكزة بالأساس على علاقة الفلاحين بالأرض و غلاتها، واستمرار ممارسة الشعائر التعبدية واعتماد القرآن منبعا وحيدا للدين، مما يجعل العالم القروي باستمرار (وهدا يحتاج الى بحث عميق) يؤمن ب"ولاية الزاوية" و ب"ولاية الفقيه" و ليس ب"ولاية المرشد الاسلامي" أو " الزعيم الاسلامي". لكن هذا لا يعني أن طبقة الفلاحين الفقراء، سكان العالم القروي، ليسوا متأثرين بالأيديولوجية التي تجعل من السلطان، القائد السياسي و الديني للبلاد. و عبر التاريخ، طالبت العديد من حركات الفلاحين بحقها في الحصول على الأرض، ودخلت في مواجهات أحيانا عنيفة ضد أطماع ملاكي الأراضي الكبار الاقطاعيين و الملاكين المحميين و الملاكين الطفيليين. و اليوم، آن الأوان لإعادة النظر في سياسة توزيع الاراضي وإصلاح ما أفسده الدهر. إن اعادة توزيع جزء من أراضي المعمرين كان الهدف منه تكوين طبقة من الفلاحين المتوسطين. وأن ال 300000 هيكتار التي خصصت للفلاحين الفقراء من مجموع مليون و مائة ألف هيكتار، لم تعرف طريقها الا بعد سنوات عديدة. إن السياسة التي اتبعتها دولة الاستقلال، استفاد منها بالملموس الملاكون الكبار وحدهم، من خلال القروض الممنوحة والمساعدات المخصصة للأراضي المسقية و دعم تحديث الزراعة...الخ. ويمكن القول إن هذا الوضع الجديد خلق هوة بين الفلاحين الكبار والملاكين الكبار و التي اتسعت يوم انضاف إليها العمال الزراعيون والمهمشون والعاطلون و المهاجرين. الاسلاميون لا يمكن أن يتكلموا عن هذه المواضيع، و ليست لهم رؤية مستقبلية للعالم القروي الذي لازال ينتظر ثورة وطنية هادئة لبنائه. لهذا تشبه علاقاتهم بالعالم القروي مثل علاقة الملاكين الكبار بالبوادي، لهم من ينوب عنهم و يقوم بالعمل المطلوب. إن سكان البوادي والقرى ثائرين بالفطرة وأكثر تجاوبا مع خطاب التغيير والتوزيع العادل للثروة الوطنية. من الصعب اذن أن ينعم الاسلاميون بأي تحالف مع الفلاحين الفقراء والصغار، نظرا لخصوصية هذه الشرائح الاجتماعية التي تنعم ب"الحرية الفطرية" ولا تستحمل من يريد التحكم فيها. ولهذا، على الإسلاميين أن يكشفوا حقيقة الاختيار الطبقي للتنمية الاقتصادية الممكن تحقيقه في عهدهم، وأن يوضحوا للشعب المغربي طريقة الحكم التي يتبنونها صراحة. ‘نها أمهات القواعد لكي تكشف العطاء المعرفي الدي نؤمن به. لم يعد لنا اليوم الوقت الكافي للانهماك في البحث في التراث من أجل تحديثه وعقلنته واصلاحاته، لأن ضغط الاستعجال الاجتماعي والثقافي يفرض علينا جميعا إنزال الوسائل و الآليات لتقويم الأوضاع والاستجابة الفورية لطموحات وانتظارات جماهير الفلاحين و الفئات المعوزة. إن الفعل التاريخي أصبح اليوم جزءا لا يتجزأ من الذاكرة الجماعية، وبقدر ما أساء التاريخ للمغاربة جميعا، نريد أن يكون المستقبل منصفا لهم. حكومة وحدة وطنية إن أخطر ما يهددنا اليوم هو داء العفوية والتلقائية. مغرب اليوم في حاجة لمبادرات جريئة، برغماتية. الجميع يعرف أننا نمر بوضع مغاير، وأننا محمولون بثقل الماضي و مجبرين على تأسيس المستقبل. البعض منا يريد فهم التاريخ قبل كل شيء، والبعض الآخر لا يهمه الماضي، وهناك من يؤمن بالقطيعة التاريخية، لكن المغاربة ليسوا لقطاء. إن الضرورة التاريخية تفرض علينا حركة سياسية جديدة، عنوانها ( كما صرحنا بذلك سابقا) المصالحة الاجتماعية. لقد آن الأوان للتشبث بالوطن جملة و تفصيلا، و تعميق خط النضال الديمقراطي خيار لا رجعة فيه ضد قوى النكوص، والشعب المغربي لن يقبل بحكومة الانتظار والتبريرات والتلويح بنظام الخلافة على شاكلة جماعة الإخوان المسلمين. و ما يريد الحداثيون إرساءه، لا يهدف أبدا إلى حرمان أي مواطن من دينه وعقيدته و توجهه السياسي. ليس هناك دعوة لمطاردة الاسلاميين، ولن يقبل المغاربة بتطبيق الشريعة. المغاربة في حاجة الى قوانين وضعية، من صنع البشر و في الأخير، لسائل ان يسأل اليوم: هل غيرت الحكومة من الواقع المتردي شيئا؟ السلطة التي بيد حكومة السيد بنكيران خلقت أعداء لها في كل مكان، والكادحون و العاطلون والعائلات الضعيفة في حيرة من أمرهم أمام ما وعد بتحقيقه العدالة و التنمية في برامجه الانتخابية. و الحالة هاته، يجب على الحكومة ذات الأغلبية الإسلامية إن تقدم استقالتها وليس ترميم حكومتها وإخراج نسخة حكومية جديدة. الشعب يريد اليوم اختيارا ثوريا هادئا، وكل القوى الديمقراطية مطالبة ببرنامج براغماتي، وتشكيل حكومة وحدة و طنية ( تضم ممثيلين عن الاحزاب والنقابات و جمعيات المجتمع المدني وكفاءات وطنية) لتدبير المرحلة الانتقالية، وتهيئ الشروط الحقيقية والفعلية لإجراء انتخابات شفافة و ديمقراطية من أجل التغيير الاجتماعي و السياسي المنشود في بلادنا بتوافق كامل مع المؤسسة الملكية.