في محطات الميترو بفرنسا، عادة ما تسمع تحذيرا قبليا يأتي عبر صوت نسوي دافئ، يردد برنة رخيمة كزقزقة العصافير: أيتها السيدات، أيها السادة، انتباه من فضلكم، نرجو أن تأخذوا حذركم، من المحتمل أن يكون نشالون في هذه المحطة... أما في محطات القطارات والحافلات والطاكسيات عندنا، فليس ثمة تحذير قبلي أو بعدي، إذا، ما جدوى ذلك والكل يؤمن أنه عوض الاحتمال، يوجد هناك يقين راسخ عميق في أن ذوي الأنامل الرقيقة الخفيفة يتجولون بين الركاب كالأشباح الهائمة، لذلك ترى النساء يعقدن مائة عقدة وعقدة على أوراقهن المالية ويخفونها بين بقايا أثدائهن، والشابات منهن يتمسكن بحقائبهن اليدوية كما يتمسك الغريق بحبل النجاة، أما الرجال، فيضعون نصف انتباههم على جيوبهم والنصف الآخر على نظاراتهم وهواتفهم النقالة، وأعينهم متوجسة تدور في كل الاتجاهات مثل الذي يغشى عليه من الموت. ورغم كل هذه الاحتياطات، تسمع بين الفينة والأخرى صوتا حادا ملعلعا لضحية انفلت تركيزها هنيهة وجيزة، فنزل عليها لص خبير كما ينزل العقاب من سمائه على كتكوت ساه: والشفار... والشفار ... من جهتي أنا، تعرضت شخصيا ككل مغربي نموذجي لسرقات لا تحصى ولا تعد، ولكن العجيب لدي، هو أنه كنت أتوفر على جاكيتة سوداء ملعونة، كلما ارتديتها، غالبا ما أتعرض للسرقة وكأن أحدا كتب عليها بخط عريض خفي لا يراه إلا أصحاب الأصابع الخبيثة: " إخواني اللصوص انتباه، هذا مغفل يتميز بالسهو والإهمال، فعليكم به..." ذات يوم، ارتديتها وركبت الحافلة بصحبة زوجتي، وبينما نحن نتهيأ للصعود، لم أدر كيف أن تركيزي الذي عادة ما يكون مشتتا حضر تلك اللحظة بقدرة قادر، فأحسست من خلفي باحتكاك خفيف كان يشبه لمسة لطيفة حانية، فلما التفت بغتة، ضبطته متلبسا وهو يدس أصبعين طويلين في جيبي ويتظاهر بعدما شعر أني شعرت به، أن أحدا يدفعه من الخلف. شاب وسيم ببذلة رياضية سوداء أنيقة، وسلسة ذهبية حول عنقه تبرق على لحم مورد لا يخطر على بال أحد أنه لحم نشال محترف. ابتسمت له وقد راقني أني فطنت به وهو في مستهل عمليته، فقلت له بنبرة متهكمة: لم تجد شيئا على ما أظن: قال لي بلهجة واثقة: بالعمى... فسحت له الطريق وقلت: تفضل، أدخل... قال لي متمسكنا: لا يليق بي أن أدخل قبلك، سأدخل من الباب الخلفي، شكرا لك ياعم... ثم توجه إلى باب الحافلة الخلفي، وعوض أن يصعد، تسلل بين الحافلات وذاب بين جموع الناس. لما وقفت مع زوجتي أمام بائع التذاكر، دسست يدي في جيبي فإذا به قاعا صفصفا... ذهب الشقي بكل ما عندي، فأدركت بعد فوات الأوان أني ضبطته في نهاية عمليته معتقدا أنه كان في بدايتها... وفي إحدى المرات، ارتديت الجاكيتة المنحوسة، فإذا بنشال آخر في إحدى الحافلات المتهالكة يدس يده في جيبي بكيفية مستفزة لا خفة فيها ولا لطف ولا حذر، فبادرت بتحسس الوريقات القليلة التي كانت في جيبي، ولما اطمأنت إلى وجودها، توجهت إليه وقد غاظني أن يقصدني وحدي من دون الناس فقلت له: أما تستحيي؟ نظر إلي وكأنه يريد قتلي وقال وهو يزم شفتيه من شدة الحنق: بدل الساعة بأخرى... بدل أنت الحافلة بأخرى. في هذه اللحظة قدم عندي شاب آخر كان يراقبنا عن كثب، وقال لي وهو يربت على كتفي: صافي آ الحاج... عفا الله عما سلف... قلت له وأنا أزيح يده الثقيلة من فوق كتفي: ومن عاد فينتقم الله منه، وإني لموقن أن هذا يعود إلى ذلك دائما... لم يفهم ما قصدت، ففتح أمام عيني بهدف إقناعي "بالحسنى" حقيبة جلدية طويلة كتلك التي يحملها لاعبو الكولف، فيها ترسانة هائلة من السيوف والخناجر والسواطير تكفي لذبح وسلخ وتقطيع أكباش عيد الرباط وسلا وما جاورهما... فكرر لي مرة ثانية: أما فهمت؟ قلت لك ولن أعيدها مرة أخرى: عفا الله عما سلف... وهنا تذكرت المقولة التي أطلقها رئيس الحكومة حين لم يجد حيلة لمواجهة كبار النشالين "المحترمين" من فصيلة التماسيح والعفاريت، فتوجهت إلى الشاب "الظريف" بأجمل ابتسامة يمكن أن يرسمها وجهي المنهوك، وقلت له بلهجة من يقتنع سريعا: معك الحق، عفا الله عما سلف... ومنذ ذلك اليوم، لم أعد ألبس تلك الجاكيتة، ولم أعد أناقش أحدا...