ها هو ذا شهر الرحمة والغفران قد أهل كما يهل زائر نوراني يطلب الاستضافة أمام الأبواب، فمن الناس من سينبهر بالنور وسيفتح له بابه وقلبه محتفيا مرحبا، ومنهم من سيعبس في وجهه ويغلق بابه دونه منتهرا في غلظة: أما اخترت سوى هذا الشهر القائض للمجيء؟ في هذا الشهر الفضيل ، يلبس البعض جبة التقوى والورع، ويهرع إلى الصلاة التي كان قد ودعها مع وداعه لعيد الفطر الأخير. يقلع البعض الآخر عن الزنا وشرب الخمر ولعب الميسر إلى حين... يفكر نفر من المدخنين في الإقلاع عن التدخين بتشجيع من الآباء والأبناء، وتنهزم غالبيتهم العظمى انهزاما مخزيا عند أول أذان للمغرب، مؤجلين المحاولة إلى اليوم الثاني أو الثالث، أو ليلة القدر... تمتلئ بطون الصائمين ب"الحريرة" حتى الانتفاخ، ويتجشأ المتجشئون بصوت كفرقعة القنابل الصغيرة، مستغفرين الله عن حق، أو حامدينه، دونما اكتراث بانزعاج من حولهم. تتنافس القنوات الرسمية بعد الفطور في إخراج أسوأ ما لديها من أمهات المهازل لتنشر البلادة والسخافة والتهريج بين الأدمغة المشبعة بالمشاكل والأزمات... تطل رؤوس من الشاشات الكاسدة شاكرة المشاهدين الكرام على حسن انتباههم، وتستضيف مخرجين لتتحاور معهم حول سر نجاحهم غير المسبوق في الضحك على الذقون وبراعتهم في استبلاد و"استكلاخ" أكبر قدر من المواطنين الأعزاء... تبث نشرات الأخبار ريبورتاجات تغطي عملية توزيع السكر والدقيق على طوابير الفقراء المنهوبين، دونما إدراك أنها تعري عن عورة الذئاب الناهبين الذين شربوا دم المغرب وامتصوا عظمه. يرتفع أول نداء لعشاء اليوم الأول من الشهر الكريم، فتتسابق جموع غفيرة بالعباءات البيضاء، لون الطهارة والنقاء، لأداء صلاة التراويح بخشوع من سيودع الدنيا بعد حين. تمتلئ المساجد حد الاكتظاظ، فتزدحم الصفوف، ويفوح العرق ممزوجا بروائح الطيب، ويصلي الناس في الممرات والساحات والدروب وعلى قارعة الطرقات. يتنافس المقرئون الشباب، ويبكي بعضهم في التلاوة حتى تختنق حنجرته بالدموع كلما وصل إلى آيات مجلجلة ترتعش لها الأرواح من قبيل: "يا أيها الناس اتقوا ربكم، إن زلزلة الساعة شيء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد..." تصيب عدوى البكاء نفرا ممن يخشون الله حق خشيته وبعضا ممن تحالفوا مع الشيطان في غير رمضان وخانوه فيه، فتخايلت لهم وهم أمام الله أشباح ضحاياهم ملوحة لهم بشواظ النار... تنتهي الصلاة في المساجد الفخمة، فيتهافت الأغنياء ذووا الملابس التقليدية الناصعة البياض، المطرزة بالخيوط الذهبية، والمعطرة بالعطور الباريسية، على سياراتهم الفاخرة في اقتناع تام بأن الله قد غفر لهم وأنهم أصبحوا أقرب إليه من حبل الوريد... تنتهي في المساجد الشعبية، فيطوي بعضهم سجادته ويلتحق مسرعا إلى المقهى للقاء شلته المكتملة التي تصوم كلها ولا يصلي بعضها. يدخن المدخنون حتى تلف الأرجاء سحابة رمادية تنطمس وراء كثافتها الوجوه فلا يرى أحد أحدا إلا بمقدار. تنطلق الألسن من عقالها، فيتعالى لغط وتنفجر ضحكات وتبرق الأعين فجأة بنظرات شبقة كلما مرت غادة متبرجة. تعود الجموع إلى المنازل فتلتهم أقصى ما يمكن التهامه، وتشرب شرب الهيم خوفا من عظة الجوع ولسعة العطش في يوم الغد. تبتدئ الدروس الحسنية في جو فخم مهيب تنقله الإذاعة والتلفزة أولا بأول. يجتمع فيها رهط من العلماء الوافدين من القارات الخمس بأكابر القوم من المدنيين والعسكريين النافذين "المترمضنين..." يلقي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الدرس الأول مستعرضا منجزات المغرب على الصعيد الديني، مشددا على تشبثه بالمذهب المالكي وتطبيقه لتعاليم الإسلام السمحة، الداعية إلى قيم الرحمة والمحبة والتسامح... ............................. في غفلة من كل هؤلاء، وطوال عشرين رمضانا كهذا الذي يمر على المغاربة، دأبت عجوز في المغرب العميق على الجلوس على صخرة دهماء تحت ظلال شجرة وارفة بجنب وادي حالم، تصلي بخشوع وترفع يديها إلى السماء مستعطفة ربها بمن حولها، مرددة بين دموعها الحارقة: أيها النهر المنساب، إن لك ربا تسبحه بمائك، أيتها الصخرة الهامدة، إن لك ربا تسبحينه بصمتك، أيتها الشجرة الوارفة إن لك ربا تسبحينه بأوراقك، فادعوا الله معي أن يخرج ابني ومن معه من جحيم سجنهم فلا أحد في هذا المغرب الساهي يذكرهم ولو بربع كلمة...