أتساءل في عتبات الحكي، لو كان بإمكان مسؤول الأمن في مطار محمد الخامس بالدار البيضاء أن يدرك بعيني القلب وليس ببصره الخادع ما أراه، هل كان سيتراجع عن ذلك السؤال اللئيم الذي حملتُه معي سرّاً إلى السودان؟ أكان سيسألني وهو يتفرّس بلؤم في تأشيرة السودان المثبتة على جواز سفري، "وهل هناك من يسافر إلى السودان؟". لم تكن الليلة الأولى التي عقدت لنا أول موعد مع كل المحتفى بهم من سودانيين وعرب في ظل حفاوة أمناء جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع المحتضنة بحدائق "بابِليُو" بأقل من مبهرة. أنغام الموسيقى التي ما توقّفت طيلة الأيام الأربعة عن الصدح بمعزوفات و أغان وألحان تجتذب الأذن، إلى إيقاعات ومقامات لم يألفها سمعي، رغم ما بدا لي أحيانا من تقارب بينها وبين إيقاعات أحواش والروايس في سوس والأطلسين الكبير والصغير و بعض التقاسيم الحسّانية الصحراوية، وللخبراء طبعاً في المقامات والطبوع الموسيقية الحكم والتقويم. كان المقام الخماسي، وفق ما شرح لنا المضيفون، المقام الوازن للخصوصية الموسيقية السودانية. وهو أمر أدركناه بعمق ونحن نتابع تلاوة القارئ الشيخ السوداني الزين محمد أحمد لآيات القرآن الكريم يوم الخميس أثناء بدء الفعاليات الختامية. فقد كان النسغ الإيقاعي ذاته واسِماً للتلاوة القرآنية بما لا تستطيع الأذن المستجِدة في إدراك ذلك التلوين الموسيقي أن تغفله. الموسيقى لغة الفرح السوداني. لم يكن أي مجلس ليُغيِّبها. ولم تكن المجموعات الموسيقية والغنائية التي تداولت الشدو في الليالي الأربع بمجموعات هاوية، إنها تحترف الجمال والرقي وصنع الفرح. وكأنها تعقد مع الجوارح ألفة تربو شيئا فشيئا لتلغي في الختام مسافات البعد، وتحرّر الجسد في الاستجابة والتواصل من كل عِقال. وكان لليلة الخميس كل السّحر الذي غمرَ الجميع ضيوفاً ومستضيفين، روائيين وقاصين وشعراء ونقاد، أو أساتذة جامعيين وأكاديميين باحثين ومحاضرين في جامعات أمريكية، قدموا للمشاركة في احتفالية الطيب صالح. استدعاهم جميعا السحر إلى حلبة الرقص تعبيراً عن الفرح والحبور. في السودان الفطرة مثل الفكر تعبِّر بالفرح عن سمو الجمال في كل تعبيراته. كنا طيلة الأيام الأربعة نلتقط ما وسع قدرتنا على الالتقاط. لا أستبعدُ أنّ الكثيرين سيشيّدون على متن الزيارة شخصياتهم الروائية المستقبلية، وأن آخرين قد اقتنصوا لقطات قصصية ستنمو على مهل في ربوع أخرى. لا شك أن جميع الزّائرين قد ارتووا من نبعٍ زلال ستزهِرُ أطايبه في موعد القطاف لاحقاً، فلا يمكن لروح الإبداع أن تعبُر بحياد صامت أمام كل ما انتصب على متون احتفال الطيب صالح وهوامشه من قيم. أحببنا السودان منذ أدركنا خارطةَ الوطن منحوتةً في شغاف قلوبنا، ذات طفولةٍ لاهية عن امتداد الحدود ونسيج الجغرافية وعُقدِ التاريخ. لم نكن نفصله في تمثُّلاتنا المغرِقة في التخييل السينمائي المصري عن "أمِّ الدنيا" مصر، وكأنه الجزء الجنوبي لشمالٍ يُطِلُّ على البحر الأبيض المتوسط. ولم نكن نعي أنّ التقاء النيلين الأبيض الرزين والنيل الأزرق الثائر في المقرن، وسط ولاية الخرطوم المكونة من المدن الثلاث، الخرطوم عموم، وأم درمان، وبحري، هو الذي يمدّ النيل بالقوة التي تدفعه فتيا متدفِّقاً نحو شمال السودان لاجتياز الشلالات العديدة التي ستعترض سبيله، ليصل إلى مصر "هبة النيل". كرمكول النيل هي نماذج سأشاطركم صورها بتفاوت مرصود للحكي و إسهاب مقصود للدلالة. على الجسر الموصِل إلى قرية توتي مقتعدة كرسيا صغيراً، كانت الجميلة السمراء برأس منحَنٍ، غير أبهٍ بالعابرين تتفحص مجلةً فنية مصرية وأمامها دلو كبير به أيس كريم من صنع بيتي. تبيع دون مناداة على بضاعتها، فالعشاق الذين يعبرون الجسر أو حتى الأفراد المارّين يعرفونها جيداً، ويعرفون محتويات دلوها المغطّى. بدا لي انطلاقاً من كل تلك العلامات، أنها بائعة مواظبة على عرض منتوجها في ذلك الموقع من الجسر. لكن ما لم أتوقعه أن تكون الجميلة طالبة جامعية في السنة الأولى من شعبة الشريعة والقانون. وما أثار انبهاري حقّاً، حين مازحتها بقولي: "نحن أمام محامية دون أن ندري" كانت سرعتها في التدارك بخفة جميلة وببديهة حاضرة، قائلةً بجرأة مميَّزة: "أو قاضية". لم يكن ذلك إمكاناً آخر تعرضه أمامنا لمستقبلها لم ندرك احتمالَه، بل كان اختيارَها الفعلي لشكل المستقبل الذي تطمح بعزم وأنفة وثقة إلى تحقيقه. لم أكن أحادثها بمفردي، لكني لم ألمس طيلة تطفّلنا على مجلسها حرجاً أو خوفاً أو ضيقاً، بل كانت تحادثنا بثقة لافتة غير مبالية أو مهتمة بمن نكون، كانت توازي بين الدراسة وموقعها ذاك، حيث تبيع في صمت حين يسمح لها دوام الدراسة بالقدوم إلى الجسر. من خلف زجاج النافذة في الطابق التاسع من الفندق كان لقاء النيلين الأزرق والأبيض واعداً. موقع البرج الفخم الذي شيّده العقيد معمر القذافي، يشرف في إطلالته الفاتنة على الجسر المعلَّق ذاته، حيث القاضية الجميلة تغزلُ نسيج أيامها بجد وجرأة في انتظار حلول الغد. لا يمكنك أن تلتقط من خلف تلك الفخامة المشيَّدة بإسراف باذخ نبض الحياة في الخارج. عالمان متباعدان لكنهما يتجاوران لإتمام سيرورة حياة لا تستقيم دون المفارقات. فالمعمار في الخرطوم لا تخفى الأيادي المموِّلة الكثيرة التي شاركت في تنوعه وفخامته و جماله، وكلُّ مموِّل متدخِّلٌ في القرار والاستقرار والمآل. لكن الإنسان صانعَ المكان، يظل الروح التي تعبِّر عن السمو الحقيقي، أثناء دورات الصمود التي يعلنها في مواجهة ضعفه و تكالب الأرزاء على أغصانه الغضة، التي لم يسعِفها سيف الزمن ذات انقسام، لتظل متكاملةً متلاحِمة. فرح لا مجاملة في الطابق السادس عشر من الفندق حيث يمد المطعمُ موائده، قابلتُ خديجة فتاة أخرى فاتنة لا تفارِق البسمةُ وجهها. كان يكفيها أن تعرف "مِنو أنتِ؟" لتخصِّص حديثها عن إعجابها الكبير بالحلويات والطبخ المغربيين. ولا سبيل هنا للاستغراب فلم يكن قصدها الحلويات المميّزة التي يعرضها المطعم في أطباق التحلية التي لها طابعها العالمي، بل كانت تحيل إلى الاعتزاز المثير الذي يسكن الخرطوم والسودان في كل زاوية، بتحدر الجد الأكبر من المغرب، وإلى الإصرار الجميل على الحفاظ على تلك الوشائج التي تربط الأحفاد من الجيل الرابع والخامس بانتماء إلى مغرب لم تسبق لهم زيارته، لكنهم يتوقون إلى ذلك بشدة. لم تكن خديجة بمفردها من شاركني قصة شجرة العائلة بجذورها المغربية، بل شاركني الحكاية ذاتها كل من غادة ونون ومحمد وعادل وكثيرين آخرين. وبعد إعلان أسماء الفائزين بالجائزة، والتحقق من أن المغاربة قد حصدوا بالفعل ثلث الجوائز، لم يتغير ذلك الاحتضان اللامحدود من الجمهور المواكب للفعاليات في شيء، بل كان الأمر وكأن الفائزين من السودان خمسة وليس اثنان. ليس للفرح والاحتفاء هنا علاقة بالمجاملة أو بالروح الرياضية. لقد تقدَّم إلينا مهنئا بحرارة، وأنا رفقة القاص والإعلامي العراقي محمد الكاظم الفائز بالجائزة الأولى عن القصة القصيرة، أستاذ سوداني محترم في منتصف العمر. و صرّح لنا بعفوية أنه قد شارك بدوره بترشيح عمله الإبداعي في الدورة، لكنه لم يكن يستحق الفوز. هو تصريح لم يكن بالتأكيد مطالباً به. بل إن رغبته في تهنئتنا في حد ذاتها تعبّر عن كرم أخلاق يستحق الإجلال و التقدير. من بين صفوف الجلسة الثالثة تدخلت في أعقاب النقاش طالبة جامعية تدرس الطب، تدخّلت باسم جيلها الذي يريد أن يكون طرفاً في إشعاع السودان عن طريق فعاليات ثقافية تتحدّث باسمه وصوته، ويريد لمحتضني الجائزة أن يصِلُوا كذلك المستقبل بالحاضر من خلال توجيه درب الشباب التوّاق للعطاء وللبذل على نهج الطيب صالح. و كان جميلاً أن تجمعني المصادفة بطالبتين اثنتين من الشعبة ذاتها، مواظبتين على حضور كل الجلسات باهتمام غريب ومتابعة لا نلمسها من مثقفينا للقاءات والمنتديات، فكيف الحال بطلبة الطب ضمن فعاليات للإبداع الكتابي؟ أعود لتدخُّل الطالبة في النقاش، ذلك النقاش الذي كان يتنافس المتنافسون للمشاركة فيه، ضمن حضور واصل الاحتشاد والمتابعة والإنصات في كل الجلسات بجدية راقية واهتمام لا يكلّ مهما طالت الساعات. لم يكن حضور المرأة ضمن المتابعين أو المشاركين أو المنظِّمين بالحضور الباهت كماً وكيفاً. مكانة المرأة و فاعليتها داخل المجتمع السوداني تشدُّ الانتباه. لقد تعرّفت أثناء فعاليات الجائزة على أستاذات جامعيات وصحافيات وروائيات وإعلاميات و مخرجات و ... و .... الحاضرات كنَّ نصف الحضور دون أي مبالغة. و لم يستنكفن عن المشاركة أثناء النقاش بالتعقيبات والاقتراحات والأسئلة والإضافات. بعد العودة من الخرطوم واصلت انشغالي بموضوع مناصفة المرأة السودانية في الحياة المدنية، عبر إبحار على متن محركات البحث وجولات في الصحافة السودانية الورقية و الإلكترونية. تيقَّنتُ من أن الأمر ليس تجميلاً لواجهة الفعاليات ولحواشيها، بادرت إلى إبداعه إرادة كل اللواتي تدخَّلن أو شاركن في الإنتاج. إنها طبيعة المجتمع السوداني ذاته. و لكم أن تزوروا موقع أي صحيفة سودانية ورقية أو إلكترونية على الشابِكة، وستتأكّدون أن ما ينادي به الحراك في قطاع الهيئات النسائية من مطالب المناصفة تعيشه الصحفيات السودانيات في مجتمعات السلطة الرابعة بكل تلوُّنات المسؤولية المهنية ومساحاتها الإعلامية. أيدرك ذلك المسؤول سابق الذكر أنّ كرمكول قرية الطيب صالح الصغيرة والفقيرة و الراقدة عند منحنى النيل، تدعو العالم بأكمله لزيارتها احتفاءً بمن أنجبته من صلب طينها السّامي؟؟ أيدرك أنّ أكبر شركة للاتصال في العالم العربي بأكمله تحتفل في السودان بالثقافة والإبداع والفكر والفن تخليداً لذكرى صاحب رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" التي ضُمِّنت دولياً طيَّ أفضل مائة عملٍ أدبي في التاريخ، وهو ابن تلك القرية الصغيرة و الفقيرة والراقدة عند منحنى النيل؟؟