في يوم من أيام يناير 2018، سأستفيق صباحا على رسالة نصية، تساءلت في نفسي عن البلد الذي جاءت منه لأن الرقم أجنبيا. فتحت الرسالة وقرأت: "صباح الخير. يسعدنا أن نبلغك بأنك مرشحة للفوز بجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي، أرجو أن تبعثي لنا بصورة من جواز سفرك". طبعا فرحت، فرغم أني كنت واثقة من عملي الذي أبدعت فيه كثيرا وعميقا، واثقة من أسلوبي القصصي ومن قوة الموضوع الذي كتبت فيه، إلا أني أيضا كنت أعرف أن المنافسات ستكون من أدباء كثيرين ومن دول مختلفة يسعون للظفر بهذه الجائزة الأدبية الرفيعة، وبصدق، كنت أشعر شعورا غريبا بالاطمئنان طيلة الشهور التي سبقت إعلان الفائزين؛ ذلك راجع إلى سمعة الجائزة المعروفة بالمصداقية والشفافية. لكن السؤال الذي طرق ذهني تلك اللحظة هو: هل أنا فائزة أم مرشحة للفوز؟ لم أطل التفكير في ذلك، ولم أسأل أسرة الجائزة أي توضيح أو تفصيل، وبدلا من ذلك احترمت أسلوبهم الدبلوماسي في إخفاء الأمر، واعتبرت أنه من المذهل أن أكتشف ذلك في وقته، وفي مكانه، الذي هو منصة التتويج. كانت أسرة الجائزة صارمة في ألا يعرف أحد أي معلومة عن الفائزين، بقاء الأمر سرا هو جزء من احترام الجائزة لمبادئها الشفافة، وذلك زاد من تقديري لها؛ لذا لم أفكر منذ تلك اللحظة إلا في أن أتمتع بزيارتي لبلد أفريقي محبوب، موسيقاه رهيبة وملامح سكانه مليحة. من مطار الدارالبيضاء حيث البرد القارس، إلى مطار القاهرة حيث المطر المنهمر، إلى الخرطوم حيث الجو منعش في الثالثة صباحا عند وصولي. وأنا أستعد لنزول الطائرة، أرى رجلا واقفا أسفل الدرج المثبت على باب الطائرة، يحمل لافتة مكتوب عليها اسمي. رافقني إلى سيارة بجانب الطائرة. وطيلة الطريق كنت أستغرب من الجو الدافئ المختلف عن شتاء المغرب وتساءلت في نفسي عن اسم الفصل الذي تعيشه الخرطوم. سترتاح بعد ذلك أعصابي من فوبيا الطائرة التي تشكل مشكلتي العويصة الخالدة، وبسرعة تأقلمت مع الجو الحار 42°. صباح الغد الموالي، سأتعرف على باقي الضيوف وسنؤخذ إلى قصر الصداقة حيث ستكون ندوات مهمة، كان الحضور كثيفا، وبدا حجم الاهتمام السوداني بالثقافة والفكر حجما كبيرا لافتا كما وكيفا. كانت فسيفساء السودان واضحة في مداخلات الحاضرين، تلك الحفاوة السودانية الكبيرة بالمثقفين والأدباء، وفي تبني شركة اقتصادية "زين السودان" لفكرة الجائزة وأشغالها الثقافية واحتفائها بالأدباء بشكل جاد قيم لافت، هي ظاهرة ثقافية نادرة، متميزة ومثال يحتذى. لفت انتباهي السمو الفكري الثقافي والأدبي للسودانيين شيبا وشبابا، والسكون النبيل والبساطة المهذبة للأستاذ مجذوب عيدروس، أمين عام مجلس أمناء الجائزة، الذي كانت له هالة خاصة منحت قوة ناجحة لأشغال الجائزة. سألني أحد الزملاء الشرق أوسطيين إن كان قلبي يدق من الخوف، قلت ولم سيخاف، لقد قمت بمجهودي كاملا، لذا هو قلب مطمئن. كنت أحب طريقة المتصوفة في فهم الأمور، ذلك يريحني من القلق والتوجس؛ لذا ونحن على ظهر المركب الذي طاف بنا على ظهر النيل الأزرق، لم أقدر أن أرد بالجمود فرح السودان باستضافتنا، فبادلتهم الفرح نفسه. في المغرب لدينا اعتقاد بأن الرقص هو تحية، والضيف عليه أن يرد التحية بأخرى، فشاركت المجموعة السودانية رقصها الشعبي لأنها ثقافتي أنا أيضا، فأنا أفريقية، وفي السودان شيء من أثرنا. أخبرني السودانيون بأن ثمة قرية بأكملها اسمها قبيلة المغاربة، وهم أحفاد لأجداد ذهبوا ذات قرون من هنا إلى هناك. كنت أستشعر كل ذاك التاريخ تلك اللحظة على ظهر النيل على وقع موسيقى سودانية كلها إيقاع سعادة وإيماءات فرح. ذاك المساء الفريد، يوم 15 فبراير 2018، كنا بعيدا عن الجمهور المثقف الغفير في قصر الصداقة، كنا في غرفة جانبية، حيث جلسنا نحن المرشحين ننتظر أسماءنا، كانت لحظة فريدة، لم أكن أفكر في شيء، ولم أكن أسمع شيئا، كما لو كنت في حلم، ثم قال لي الشاب من لجنة التنظيم "أستاذة خديجة، نودي عليك.. تفضلي.. أنت فزت بالجائزة الأولى". خرجت من البهو لأمشي على السجاد الأحمر، لأحيي الجمهور وأحيي نائب رئيس السودان الذي سيسلمني الجائزة. فرحي أنساني كل تعب الإبداع، ولم أعد أتذكر سوى الكثير من الحب الذي شعرت به أثناء كتابة قصصي والكثير من الحب لبلدي الذي أهديه هذا الإنجاز. قيمة هذه الجائزة الكبيرة أدبيا ومعنويا تلقي مسؤولية على الفائز بها، أن يبدع بوتيرة أدبية تصاعدية وفاء وتقديرا للجائزة، وفاء لقيم الإبداع الخلاق كما آمن به الروائي الطيب صالح، إنها تحفيز للمضي قدما من أجل فعل أدبي مثمن للفكر الإنساني ومغير إيجابي لعالمنا، إنها وسام على صدري، واعتراف عالي المستوى بجهدي الإبداعي وثقة في القلم الذي يبدع للإنسانية، هذه الإنسانية هي وطن الروائي الطيب صالح؛ لذا هو حي معنا، في كل تتويج سنوي باسمه لدفقة قلم إبداعي متميز. كل فبراير سوداني، والعالم بأدب حر فريد.