أمام الأوضاع التي تمر بها دول الربيع الديموقراطي، تبدو "العلمانية" في حاجة ماسة إلى من يمدها بجرعات إنعاش حتى تستعيد عافيتها من وصولية المنتسبين لها ومن الانتهازيين المتدثرين بلبوسها، الذين تلحفوا الديموقراطية تحت عوراتهم السياسية المكشوفة وتترسوا بالنعرات العنصرية دون حياء ولا خجل، متصدرين مشهد الأحداث بتزعم الانقلاب على مبادئ "العلمانية" وقيمها الموهومة. لقد عرّت الأحداث الأخيرة حقيقة الكثير من "بني علمان"، الذين ظلوا إلى عهد قريب يطنبون آذان القريب والبعيد بمصطلحات مثالية لا تجد لها مكانا في قاموس "الممارسة العلمانية" إلا حين تُعكَس على مرآة "الميكيافيلية"، لتُظهر في الأخير صورة مشوهة للواقع كسحنات أصحابها، لكن جوهرها يعبر -في المقابل- عن عمق الحقد والضغينة التي يكنها بعض "المتعلمنين" لكل ما يمت للإسلام والمسلمين بِصِلة، في جنوح سافر إلى نصب العداء لدين الله الذي ارتضاه للأمة ورضيت به دون إكراه. إن التاريخ يسجل -اليوم- بمداد من دم، سقوط "العلمانيين" في أول اختبار نزيه أمام إرادة الأمة الحرة، وهو ما يبرز -بجلاء- أن تلاميذ مدرسة "التغريب الفكري" لم يتلقوا من قيم الحداثة و مبادئ التقدم إلا قشور النظريات المتقادمة، وبالقدر الذي يكرس تخلف الأنا العليا، والإمعان في احتقار الأنا السفلى ومحاربة قيمها المرجعية بكافة تمثلاتها المجتمعية. لقد تزعمت بعض "النخب العلمانية" عصابة إفشال تجربة الإسلاميين في الحكم من خلال التحريض والبهتان، وانبرت لإعطاء الدروس السياسية من موقع الهزيمة المخزية برأسمال شعبي هزيل، وأبدعت في التنكر لجزء من ذاتها الواقعية بتبني جزء منسي من ذاتها المعرفية، في صورة تعبر عن حالة فصام مرضية، ما فتئت تهز "النفسية العلمانية" منذ وصول الإسلاميين لسدة الحكم، وتزيد من حجم الغيظ في نفوس "المتعلمنين" إلى أن وقع الانفجار في أول ردة سياسية يعرفها الانتفاض العربي، فأتيحت الفرصة أمام الكثير منهم للتنفيس عما يعتمل داخل الصدور، والتخفيف من الإرهاق الذي تسببت فيه ازدواجية الأدوار ! تشهد الساحة الإعلامية -اليوم- تواري "دروس" الكثير من الأيقونات التي تؤسس علمانيتها على التعبئة العنصرية والحشد الإثني-اللغوي، فيما تصدرت بعض مقالاتها مؤخرا صدر صفحات إعلامية معززة بوجوه مستبشرة بأعطاب عجلة الإسلاميين، ومعتدة بنفسية منتشية بالانقلاب العسكري في مصر، وربما متطلعة -بحماس- لتكرر السيناريو المصري في الداخل المغربي بشكل من الأشكال ! وإلى أن يحين ذلك إذا لم تسفه هذه الأحلام، لابد وأن نقرأ صورة الأحداث الحالية على ضوء تلك النظريات التي ادعى بعض "العلمانيين" أنها تشكل مبادئ أساسية لتأطير الفعل السياسي قبل أن يتنكروا لها لاحقا، وليسمح لنا هؤلاء "العلمانيون" بفسحة لطرح بعض الأسئلة التي لا تجد لها الجواب الشافي إلا في موسوعة "النفاق العلماني" (دوليا ومحليا) ! فأين ذهب درس "حماية الأقلية" من "تغول الأغلبية" حتى وإن كانت الديموقراطية هي من مكن هذه الأغلبية من أغلبيتها؟! هل هذا الدرس لا ينطبق -اليوم- على الإسلاميين إذا سلمنا -جدلا- أنهم أقلية؟ أم أن العلمانيين وحدهم من يستحق الحماية إذا فشلوا في امتحان الديموقراطية وخذلتهم صناديق الاقتراع؟! لكن الحقيقة الظاهرة للعيان، تتجاوز الحديث عن أي أغلبية، ولا تحدثنا -اليوم- إلا عن "ديكتاتورية أقلية" تنتهك بشكل سافر شرعية المؤسسات وتعطل كل السلطات، فهل من "فتوى علمانية" متجددة في النازلة؟! وأين ذهبت دروس "التشاركية" و"الحوار" و"القبول بالآخر" وعدم استئثار الطبقة الحاكمة بتدبير الشأن العام ولو كانت منتخبة ديموقراطيا؟! هل ورقة "الشراكة" لا ترفع إلا حين يصل الإسلاميون للحكم؟ منذ متى عرف حكم "العلمانيين" قاموس الإشراك والتحاور والقبول بالآخر وهم الذين أقصوا الإسلاميين ورفضوا دخولهم معترك الانتخابات ومزاحمة بني جلدتهم في اللعبة الديموقراطية؟! هل من المقومات المبدئية للعلمانيين رفض الحوار إذا دعا له الإسلاميون، والهرولة إليه إذا نادى به العسكر؟! ألا تعتبر هذه المناورات استمرارا لحملات الاستئصال المتطرف والاجتثاث العدمي لمظاهر الإسلام في الدولة والمجتمع بإقصاء أطراف مدافعة عن قيم الأمة وعدم القبول بها[1]؟! خاصة وأن توصيفات المرحلة تحمل في طياتها الكثير من الدلالات، إذ مصطلح "الشعب" أصبح حكرا على مؤيدي توجه سياسي معين، وكأن الإسلاميين ليسوا من الشعب!! وأين ذهب خطاب "الدولة المدنية" الذي ملأ الدنيا عقب وصول الإسلاميين للحكم؟! هل يعتبر "علمانيو آخر الزمان" الدولة البوليسية التي يقودها العسكر دولة مدنية؟ هل من "مدنية الدولة" التصفيق للعسكر وتشجعيهم على التدخل في الحياة السياسية لتصفية الحساب مع الإسلاميين بعد عجز صناديق الاقتراع عن حسم المعركة لصالح "المشروع" العلماني؟! أم أن "الدولة الثيوقراطية" التي تفنن البعض في التأصيل لها كانت مجرد فزاعة لمعاكسة خيارات الشعوب؟! لقد أضحى واضحا أن "المدنية" التي ينادي بها هؤلاء ليست سوى ورقة أخرى لشيطنة خصومهم من الإسلاميين والإمعان في إقصائهم من ممارسة تدبير الشأن العام ولو اقتضى الأمر التحالف مع الشيطان بنفسه! أم أين ذهبت "مبادئ الحرية" التي تميعت درجة السيلان في نظريات "بني علمان"؟! ما موقف هؤلاء من إغلاق بعض القنوات الإعلامية وتوظيف أخرى للتحريض وإشعال الفتن؟! وما موقفهم من التضييق على حرية التظاهر ومواجهة المتظاهرين بالرصاص والسيوف؟! وما موقفهم من احتجاز مسؤولي الدولة دون سند قانوني؟! وما موقفهم من حرق بعض المقرات وتهديد وجود فصائل سياسية بعينها؟! هل يقتصر مبدأ الحرية على التعري والعلاقات الجنسية وأكل رمضان علنا وسب النبي (صلى الله عليه وسلم) والتهجم السافر على التاريخ والتراث الإسلامي؟! لقد جرّد "العلمانيون" تصورهم للحرية من كل مقوماتها حتى انكشفت شهواتهم المدمرة للحرية ذاتها، فهلاّ تحليتم بشيء من الرجولة في زمن قل فيه الرجال! إن تصرفات الكثير من "العلمانيين" لا تجد لها تفسيرا مقنعا في جميع الأحوال، وتزيد هذه القناعة حين نتصور سيناريو آخر من الأحداث نحاول فيه إسقاط الواقع على معطيات مختلفة، يمكن أن نطرح فيه أسئلة مغايرة، نستشرف من خلالها حجم الحماسة التي كانت ستطبع رد الفعل العلماني (المحلي والدولي) على سلسلة التطورات في مصر، ونتوقع من خلالها حجم البراغماتية التي تحكم التقاطعات السياسية مع باقي دول الربيع الديموقراطي. فماذا كان سيفعل رواد العلمانية عبر دول العالم وأذنابهم من دعاتها في أوطاننا لو تم احتجاز "البرادعي" أو "صباحي" أو "شفيق" لنصف ساعة وليس لأسابيع؟! وتصوروا رد فعلهم لو أقدم الإسلاميون على حرق مقرات الجبهات السياسية المؤيدة للانقلاب العسكري؟ وتخيلوا لو نطق إعلام الإسلاميين بأخماس الجمل التي يطلقها أشباه الصحفيين الذين جعلوا ألسنتهم في خدمة أجندة رجال الأعمال (من حاشية مبارك) عبر القنوات التي احترفت السب والشتم وامتهنت النكاية والتحريض؟! وتمعنوا لو خرج أي قيادي من الإسلاميين ليصرح بنصف جملة من أمثال تلك التي تعتبر القضاء على الإسلاميين واجبا وطنيا وإنسانيا وأخلاقيا!!! لقد كان لمقدار العشر من هذه الأفعال أن يقلب كل الدنيا على الإسلاميين، ولتداعت عبارات الشجب والتنديد والتهديد والوعيد من أقاصي الأرض وأدانيها؛ لكن مادام مخيال العلمانية عبر العالم يرى في الإسلاميين (وقبلهم الدول الإسلامية) حائطا قصيرا، فلابأس إن أبيدوا كالحشرات، وتبقى الأفعال المصنفة دون الإبادة غير ذات أثر يمكن أن يحرك مشاعر الإنسانية الموؤودة تحت أتربة المصالح الضيقة والمرحلية، خاصة تلك المصالح التي يتقاطع فيها تكريس العلمانيين لخبرتهم في خدمة تخلف الأمة سياسيا واقتصاديا وثقافيا مقابل ضمان الكراسي والمناصب المفقودة!! وجدير بمن يغض الطرف عن حقائق التاريخ أن يقرأ التنكر الذي لحق الحكام العلمانيين من أمثال "ابن علي" في أول امتحان ولاء للخارج أمام إرادة الشعوب! ذلك أن "منتجي العلمانية" لا يفرقون بين من يستهلك منتوجهم ومن يقاطعه ماداموا في سلة مجتمعية وامتداد جغرافي واحد ! إن الذين انحازوا -بشكل مفضوح- لخرق الشرعية وإلغاء سيادة القانون، فضلا عن الذين هرولوا بدعم الانقلاب ماديا (وبالملايير) بعد أن ساهموا في تعطيل الدولة وخلق الأزمة، وضعوا "العلمانية" في موقف لا تحسد عليه، وحتى بعض "بني علمان" حين لاذوا بالصمت أو حاولوا التبرير مستعينين ب"لكن" للتخفيف من آثار الحرج، جعلوا العذر أقبح من الذنب، وكرسوا الارتباط النمطي بين العلمانية والعداء للإسلام عبر واجهات مختلفة، الأكيد فيها أن أحداث مصر لن تكون سوى جولة من جولات التدافع التي بدأت غيمتها الداكنة تغطي سماء دول الربيع الديموقراطي من جديد، وهو ما ينذر بعواصف سياسية قاسمها المشترك محاولة العودة بالأوضاع السياسية للمربع الأول، والتأسيس للردة السياسية بدعم خارجي وتواطئ داخلي هذه المرة ! *************** [1] ونحن نضع اللمسات الأخير على هذا الموضوع، ظهر المرشح السابق للرئاسة في مصر (أحمد شفيق) في خطاب مسجل اعتبر فيه الإخوان المسلمين خونة والقضاء عليهم واجب ! وهو خطاب يأتي بعد دعوة قائد الانقلابيين (السيسي) إلى تفويض شعبي للقضاء على ما سماه "الإرهاب" ! هكذا تتضح الصورة وتتعمق القناعة أكثر بما نقدمه في هذا الطرح.