يرجع فضل تنظيم الألعاب الأولمبية في شكلها الحديث إلى عزيمة وإصرار الفرنسي البارون بييردي كوبرتان المولود في باريس عام1863 م، حيث آمن الرجل بدور الرياضة في نشر الحب والسلام بين شعوب العالم منذ أن نجح في تنظيم لقاء رياضي بين إنجلترا وفرنسا عام 1891م، الأمر الذي ساهم في تخفيف حدّة العداء بين الشعبين وتقوية العلاقات بينهما. "" طموحات الرجل لم تتوقف عند هذا الحدّ، بل كانت عالمية المنحى، إنسانية الأهداف، إذ فكر في إعادة بعث الدورات الأولمبية من جديد بعدما عرفها العالم منذ 14 قرنًا قبل الميلاد، وناضل في سبيل زرع قيم الحب والسلام وغرس ثقافة التسامح والتنافس الشريف بين شعوب العالم من خلال التظاهرات الرياضية التي تُعقد كل 4 سنوات في الدورات الأولمبية، ووضع أعظم دستور لها حين رفع شعار: "إن أهم شيء في الألعاب الأولمبية ليس الانتصار بل مجرد الاشتراك.. وأهم ما في الحياة ليس الفوز، وإنما النضال بشرف". النبتة الطيبة التي غرسها رائد الأولمبياد الأول أينعت وأزهرت، وها نحن اليوم في الألفية الثالثة قد استمتعنا على إيقاع الفرجة والتشويق والإثارة بالألعاب الأولمبية بالعاصمة بكين، وقد تفوق العملاق الصيني في استثمار فرصة تنظيم هذه المنافسات العالمية ليقدم للعالم صورة باهرة عن الصين، رغم أنها لاتحتاج إلى تسويق نفسها على المستوى الدولي لأنها موجودة في قلب حركته الاقتصادية الراهنة وتتطلع إلى لعب دور أكبر في المستقبل. لقد خاطبت الصين، عبر عرضيْ الافتتاح والاختتام الباهرين والمدهشين، العالم كقوة عظمى تدعو للسلام والتسامح والمحبة بين الشعوب، بدل إذكاء وقود الحروب وإشعال فتيل النزاعات الدموية، وقدم المشاركون في الحفلين عروضا شيّقة أهمّ ما فيها ابتسامتهم التي لم تفارقهم طوال العرضين. إن ما بات يزعج الغرب أكثر من أي وقت مضى هو الحضور الصيني الهادئ والمتعاظم والمتصاعد على الساحة الدولية، فالصين حاضرة وبكل هدوء حيثما كان هناك إخفاق غربي.. فهي موجودة وبحضور ملموس في إفريقيا تجني ثمار المشاعر المعادية للغرب على خلفية تاريخه الأسود هناك، ونتيجة تجاربه الفاشلة في طريقة تقديمه للمساعدات المشروطة. الصين موجودة كشريك تجاري واقتصادي بات دوره مؤثرا وصوته مسموعا في القارة الإفريقية، وجنوب شرق آسيا، وإيران وحتى في روسيا الحليف الأهمّ. واذا كان هناك إجماع على روعة حفليْ الافتتاح والاختتام في نسختهما الصينية، وفوز الصين لأول مرة في التاريخ بالمرتبة الأولى في الأولمبياد، فإن وسائل الإعلام الغربية على وجه الخصوص بالغت في رصد أيّة سلبيات ناتجة عن هفوات تنظيمية محتملة وعادية، والحقيقة أنها تخفي استياء الغرب وغيظه من إصرار العملاق الصيني على التقدم والتطور الكاسح في سياق يجمع بين أفكار كارل ماركس وكونفوشيوس وآدم سميث معاً، وهذا ما توقعه الوزير الفرنسي الديغولي الراحل "ألان بيرفيت" عندما ألّف كتاباً من جزئين بعنوان استفزازي: "عندما تستيقظ الصين"، استشرف من خلاله مبكراً أن يقظة هذا البلد العملاق تهدد بقوة نفوذ الغرب في العالم. ولو كان بيننا اليوم لطالب بالاعتذار من النقاد الذين سخروا من توقعاته حين صدر الكتاب قبل أكثر من ثلاثة عقود. لقد كشف التحرش الغربي بالصين مرة أخرى عن محدودية هامش المناورة في التنافس الصيني الغربي لدى الغربيين الذين اكتشفوا ما كانوا يتجاهلونه، وهو أن أوزانهم آخذة في التضاؤل بالمقارنة مع الوزن الصيني العملاق. ثمة حكمة عربية شعبية تقول: "الرطل يحتاج الى رطل وأوقية لموازنته"، وعليه فقد صار واضحاً لمن يبحث عن استشراف العلاقات الدولية على المدى القريب والمتوسط أن معادلة الرطل الصيني تحتاج الى أوزان أكبر من وزن الريشة المستخدم الآن، ممثلاً ب "الدلاي لاما" أو "روبير مينار" رئيس جمعية "مراسلين بلا حدود"، وصولاً إلى ال "بي بي سي" وال"سي إن إن" ... إلى آخر القائمة! رمضان مبارك كريم وكل عام والشعب المغربي والأمة الإسلامية بألف خير..