من العاصمة الاقتصادية للمغرب، الدارالبيضاء، إلى أكبر مدن جنوب إفريقيا جوهانسبرغ، مرورا بالعاصمة الفرنسية باريس، ظلت مضيفة طيران Air France توزع ابتسامتها بالعدل على الركاب على طوال الرحلة التي استغرقت ما يزيد عن 13 ساعة، منها 11 ساعة متواصلة من مطار "شارل ديغول" إلى مطار جوهانسبرغ الدولي. الوصول إلى مطار أهم مدن جنوب إفريقيا المتواجدة في أقصى جنوب القارة السمراء، لا يختلف كثيرا عن الوصول إلى أي مطار دولي في القارة الأوربية، من حيث النظام وسلاسة العبور والتجهيزات المتطورة التي تسهل عبور المسافرين القادمين من مختلف دول العالم إلى بلد الذهب والماس، الذي جعل جنوب إفريقيا تحتل مكانة مرموقة بين مصاف الدول التي قطعت أشواطا مهمة تنمويا في مختلف المجالات. داخل بهو المطار لا شيء متروك للصدفة. هذا ما حاول رجل الأمن الجنوب إفريقي أن يفهمني إياه قبل أن يختم جواز سفري الأخضر الذي انمحى منه شعار المملكة المغربية، بعد أن تُركت مهمة إنجازه في صفقة فاسدة لشركة فرنسية، بعد طلب عروض. بعد أقل من خمس دقائق كانت كل إجراءات الجمارك قد انتهت. أهلا بك في جنوب إفريقيا. هذا ما رَطَنَ به رجل الأمن المُبتسم طوال الوقت، في وجه القادمين إلى بلده الذي حصل على الاستقلال سنة 1961 عن التاج البريطاني. جنوب إفريقيا دولة ساحرة، هذا هو الانطباع الأول الذي يمكن أن تؤمن به عند خروجك من مطار جوهانسبرغ الدولي، في اتجاه قلب المدينة الأكبر في بلاد نيلسون مانديلا. جنوب إفريقيا.. جراح عنصرية تندمل تعتبر جنوب إفريقيا من الدول الإفريقية القليلة، في القارة السمراء التي لم تشهد انقلاباً على الحكم، منذ استقلالها سنة 1961 عن المملكة المتحدة. ودأبت الدولة على إجراء انتخابات حرة ونزيهة بشهادة المنظمات الدولية منذ 1994، وهو ما أهلها لأن تكون نموذجا ديمقراطيا صاعدا في إفريقيا، وأكثر البلدان استقرارا من الناحية السياسية، في القارة السمراء. نظامها برلماني، لكن مهام رئيس الحكومة ورئيس الدولة تجتمع تحت لواء "رئيس جمهورية جنوب إفريقيا" الذي ينتخب من طرف البرلمان. غير أن الوصول إلى هذا النظام السياسي كلف البلد العديد من التضحيات، وسنوات طويلة من الصراع السياسي لمحاربة الميز العنصري، الذي طغى على البلاد لسنوات طوال بعد انتخاب الحزب الوطني "البويري" للحكم (حزب البيض) في عام 1948، إذ عمل على تطبيق سياسة الأبارتيد، أي التفرقة العنصرية بشكل رسمي، من خلال منع السود من العمل في العديد من الأعمال، باستثناء أعمال محدودة أقل شأنا من البيض. كما حرم "حزب البيض" السكان الأصليين لجنوب إفريقيا من حق الانتخاب وحق الملكية، إضافة إلى انعدام المساواة بينهم وبين البيض في تقاضي الأجور، إضافة إلى عزلهم في المساكن وأماكن العمل والمدارس. وكلها عوامل جعلت البلد يعيش أسوأ أنواع الميز العنصري من طرف الأقلية البيضاء في حق السود الجنوب إفريقيين، وهو ما جعل الأممالمتحدة تصدر عدة قرارات لمقاطعة جنوب إفريقيا، كما قاطعتها العديد من الدول بسبب العنصرية المتبعة من طرف الأقلية البيضاء اتجاه باقي السكان. وبعد سنوات طويلة من الصراع السياسي، والقمع المتواصل للسكان الأصليين، عمل الحزب الوطني الذي أدخل سياسة الفصل العنصري إلى البلاد سنة 1948 إلى تفكيك هذه السياسة عام 1990 ، بعد صراع طويل مع الأغلبية السوداء ومجموعات مناهضة للعنصرية، إذ برزت شخصيات تاريخية ساهمت بشكل كبير في تغيير حياة السود بجنوب إفريقيا، لعل أهمها نيلسون مانديلا، الذي يُعد أول رئيس أسود يتقلد منصب رئيس جنوب إفريقيا في فترة ما بين (1994 – 1999)، بعد أول انتخابات ديمقراطية تم إجراؤها بالبلاد، وبعد معاناته الطويلة وراء القضبان من أجل تحرير جنوب إفريقيا من قيود سياسة الأبارتيد. نيلسون مانديلا.. "العظيم المُبجل" الذي حرر الجنوب إفريقيين من الأبارتيد ليس هناك مكان في جنوب إفريقيا لا تنبعث منه روح نيلسون منديلا. هذا باختصار ما يمكن أن يخبرك به الجنوب إفريقيون عن الزعيم الخالد نيلسون مانديلا. ولد الرجل النحيف في ال18 من يوليو 1918، في قرية صغيرة تدعى ميزو في منطقة ترانسكاي. وحسب موسوعة ويكيبيديا فوالد منديلا كان رئيس قبيلة، وقد توفي عندما كان نيلسون مازال صغيرا، لينتخب بعدها رئيسا للقبيلة رغم سنه الصغير. لنيلسون أو "العظيم المُبجل" كما يسميه الجنوب إفريقيون 13 إخوة، بعد أن تزوج والده أربع زوجات، إذ كان نيلسون مانديلا هو ابن الزوجة الثالثة وتدعى فاني نوسيكيني Fanny Nosekeni. تميز الطفل الصغير بكونه أول من التحق بالمدرسة. كانت هذه قصة صغيرة جعلته مميزا بين أقرانه، وحتى بين معلميه، إذ أطلق عليه أحدهم اسم "نيلسون"، وهو الاسم الذي حمله إلى أن كبر ودخل الجامعة وتخرج منها، وكان المعيل الوحيد لعائلته الكبيرة. انغمس مانديلا في معركته الخالدة لتغيير نظام الميز العنصري بالبلد الذي كان غارقا في سياسة الأبارتيد، حتى بدا أبرز المناضلين والمقاومين لهذه السياسة المتبعة من طرف الحزب الحاكم بجنوب إفريقيا حينها. وفي عام 1961 أصبح مانديلا رئيسا للجناح العسكري للمجلس الإفريقي القومي. وفي سنة 1962 اعتقل مانديلا وحُكم عليه لمدة 5 سنوات بتهمة السفر غير القانوني، والتدبير للإضراب. وفي عام 1964 حكم عليه مرة أخرى بتهمة التخطيط لعمل مسلح والخيانة العظمى، فحكم عليه بالسجن مدى الحياة. خلال سنوات سجنه الثمانية والعشرين، أصبح النداء بتحرير مانديلا من السجن رمزا لرفض سياسة التمييز العنصري. وفي 10 يونيو 1980 تم نشر رسالة استطاع مانديلا إرسالها للمجلس الإفريقي القومي قال فيها: "اتحدوا! وجهزوا! وحاربوا! إذ ما بين سندان التحرك الشعبي، ومطرقة المقاومة المسلحة، سنسحق الفصل العنصري"، كانت هذه الرسالة بمثابة خلود شعاره التحرري الذي سيزلزل القارة السمراء ويبدأ في إذابة جليد العنصرية في جنوب إفريقيا. وفي عام 1985 عُرض على مانديلا إطلاق سراحه مقابل إعلان وقف المقاومة المسلحة، إلا أنه رفض العرض. وبقي في السجن حتى 1990 عندما أثمرت مثابرة المجلس الإفريقي القومي، والضغوطات الدولية عن إطلاق سراحه بأمر من رئيس الجمهورية فريدريك ويليام دي كليرك، الذي أعلن إيقاف الحظر الذي كان مفروضا على المجلس الإفريقي. حينها حصل نيلسون مانديلا مع الرئيس فريدريك دكلارك في عام 1993 على جائزة نوبل للسلام. لقبه أفراد قبيلته ب"ماديبا" وتعني "العظيم المبجل"، وهو لقب يطلقه أفراد عشيرة مانديلا على الشخص الأرفع قدرا بينهم، كما شغل مانديلا منصب رئاسة المجلس الإفريقي من يونيو 1991إلى ديسمبر 1997، وأصبح أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا من مايو 1994 إلى يونيو 1999، ليغير وجه جنوب إفريقيا ويجعلها قبلة للباحثين عن سحر الغنى الطبيعي والغنى التاريخي، التي أصبحت تتميز به مدنها الحديثة مثل جوهنسبرغ وديربان وكيب تاون. جوهانسبرغ.. أغنى محافظاتجنوب إفريقيا تعتبر مدينة جوهانسبرغ أكبر وأغنى مدن جنوب إفريقيا، وثالث أكثر المدن الإفريقية اكتظاظاً بالسكان بعد العاصمة المصرية القاهرةوالمدينة النيجيرية لاجوس. كما تعتبر عاصمة محافظة غاوتينج. المدينة الساحرة بطبيعتها، وببنياتها التحتية المتطورة، وبأسلوب العيش فيها، الذي لا يختلف كثيرا عن ما هو موجود في المدن البريطانية، تتميز بفسيفساء ثقافتها التي تتجسد في حياة الرفاهية والبذخ من خلال المحلات الفاخرة للتسوق، والفنادق ذات خمس نجوم بخصوصيتها الإفريقية، وبمطاعمها المفتوحة التي تتفرد جوهنسبرغ بها. الأماكن التاريخية، والأنشطة الترفيهية الليلية والمغامرات الخارجية ومواجهات الحياة البرية القريبة وزيارات للأماكن التاريخية، واستكشاف الكهوف والمحميات الطبيعية، والقرى التقليدية.. كلها مميزات يمكن للسائح أن يزورها في جوهنسبرغ التي تختزل كل مميزات الحياة الإفريقية الممزوجة بحياة النظام البريطاني، الذي ترك بصماته على كل مناحي الحياة في بلاد تعيش بروح نيلسون مانديلا، الذي فاز بأزيد من 100 جائزة دولية، منها جائزة نوبل للسلام سنة 1993، لمحاربته نظام التفرقة العنصري المعروف باسم "الأبارتهيد". روح التاريخ تنبث في كل مكان بمدن جنوب إفريقيا، ورموز المقاومة التي أخرجت البلاد من ظلمات العنصرية إلى نور التطور الديمقراطي حاضرة بقوة في مخيال الجنوب إفريقيين، الذين يتطلعون لحياة أكثر رفاهية وأقل قسوة على السود الذين اضطهدوا لعقود طويلة. مغاربة جنوب إفريقيا لم يندم سعيد القادم من الدارالبيضاء على المجيء إلى جنوب إفريقيا قبل تسع سنوات. الشاب البالغ من العمر 42 سنة طوّر تجارته في المطاعم بشكل كبير، بعد أن أغلق مطعمه الصغير بعين الدياب بالدارالبيضاء، ليخوض مغامرة غير محسوبة العواقب نحو مدينة "ديربان" الساحلية بجنوب إفريقيا. سعيد أكد ل"مجلة هسبريس" أن الحياة في "ديربان" الجنوب إفريقية لا تختلف كثيرا عن الدارالبيضاء، باستثناء النظام والأرباح التي يحققها في هذه المدينة الساحلية، التي يقبل عليها السياح من كل الدول المجاورة، وكذا السياح الأوربيون الباحثون عن التميز في أقصى جنوب القارة السمراء. وبالرغم من أن المدينة تملك تاسع أكبر ميناء في العالم، إلا أن المغاربة يفضلون بشكل كبير الاشتغال في التجارة بعيدا عن البحر، حيث العديد منهم لديه مقاولات في البناء والتدبير المقاولاتي، ويرسمون نجاحهم المهني بثبات حسب ما عاينت "مجلة هسبريس"، رغم أن عددهم قليل.