عندما قدم أول ملتمس للرقابة في تاريخ المغرب الحديث، ربط النظام المغربي آنذاك تقديم حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية للملتمس بأجندة جزائرية، اليوم والمغرب يقف على عتبة تقديم ملتمس الرقابة، تنعكس الآية، فشباط المتسبب في هذه التوقعات، سبق له الانسحاب من الحكومة باتهام الجزائر. عقب أحداث ما سمي آنذاك ب"مؤامرة 63" التي اتهم فيها عدد كبير من قيادات حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بمحاولة قلب النظام والتآمر مع الجزائر ضد المصلحة العليا للبلاد، وقع نواب الحزب، وعلى رأسهم عبد الرحيم بوعبيد والمهدي العلوي ومحمد الحبابي وعبد الواحد الراضي، والمعطي بوعبيد وعبد الحميد القاسمي وعبد القادر الصحراوي..وآخرون على سحب الثقة من الحكومة، ورغم أن النظام المغربي آنذاك ومعه جملة من الفاعلين الموالين له ربطوا تقديم الملتمس بخدمة جهات خارجية في إيماء إلى الجزائر، إلا أن الفريق النيابي الاتحادي سيرهن تقديم ملتمس الرقابة بتردي الأوضاع الاقتصادية، خصوصا الزيادة في أسعار المواد الاستهلاكية، وفي مقدمتها السكر والزيت والدقيق. تبادل الاتهامات تشكيل حكومة الحاج أحمد اباحنيني في نونبر 1963 جاء في ظروف سياسية استثنائية، فقد كانت الحكومة من قبله في يد الملك الحسن الثاني، وعلى مستوى آخر كان حزب الاستقلال يعاني من خروج حزب يساري من رحمه، كما أن إغراق الحكومة بعدد من رجال الجيش ساهم في توتر الوضع، كان جنرالات القوات المسلحة الملكية قد تغلغلوا في الحكومة فأصبح الجنرال المذبوح وزيرا للبريد، وأوفقير وزيرا للداخلية، والماريشال أمزيان وزيرا للفلاحة. الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سيستعمل الفصل 81 من دستور 1962، الذي ينص على إمكانية الاعتراض على مواصلة الحكومة لمسؤولياتها، من خلال تقديم ملتمس يوقعه عُشر الأعضاء في مجلس النواب، لكنه لا يصبح ساري المفعول إلا بعد إقرار من لدن أغلبية الأعضاء، بعد أن اتهم النواب الاتحاديون حكومة باحنيني، بحماية الرأسمال الأجنبي الذي تضمن له الاستمرار والاستثمار، وإضعاف القدرات الشرائية للمواطنين. الاتجاه الذي رفض اللجوء إلى ملتمس الرقابة كان له نفس رأي الدولة متهما الاتحاد الوطني بالارتباط بأجندة جزائرية، وهو سجال سياسي عنيف كانت له جذور منذ طرح دستور 1962 الذي قاطعه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والمحجوب بن الصديق، الذي كان على رأس أكبر نقابة آنذاك (الاتحاد المغربي للشغل) وحزب الشورى والاستقلال. وكان أشهر من رفع لواء التخوين ضد مقدمي الملتمس المذكور، احمد رضا اكديرة الذي تقلد حقيبة وزارة الشؤون الخارجية في حكومة الحاج أحمد اباحنيني، والتي بدا أن الفريق النيابي للاتحاد الوطني يجابهها على عدة واجهات. وخلال السجال الذي تلا تقديم الملتمس، كان اكديرة الذي أسس ما سمي ب"جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية"، يمارس نوعا من البروباغاندا، مثيرا الانتباه إلى دسيسة ما.. هو الذي صرح حينئذ: "ملتمس الرقابة شيء طبيعي بالنسبة إلينا نحن أعضاء الحكومة، نحن الذين ساهمنا مساهمة فعالة في تحضير الدستور والتصويت عليه"، وبدأ يومئ إلى ما يجري بين قيادات البلدين المغرب والجزائر. وقال بهذا الصدد: "في اليوم الذي وضع فيه ملتمس الرقابة، حل بالقصر الملكي بالرباط مرسول من لدن الرئيس الجزائري أحمد بن بلة، وكان في الجزائر إدريس المحمدي مرسولا من الملك الحسن الثاني. وهناك صلة بين الإرادة التي أبداها بن بلة على أنه لن يعين أي حركة في هذه البلاد، وبين توقيت طرح ملتمس الرقابة.." كان الرجل الذي أصبح مستشارا للملك الحسن الثاني فيما بعد، يتحدى الاتحاديين في الإجابة عن اتهام كهذا. الملتمس الثاني شروط جاهزة في سنة 1990 سيعود ملتمس الرقابة للظهور في البرلمان المغربي، وهو ما كان متوقعا قبل 1990 بسنوات حين سيكون الملك الحسن الثاني يهيئ لخارطة سياسية جديدة، إذ سينفذ رفقة أحمد رضا كديرة وإدريس البصري والقيادي الاتحادي الذي خرج من حزب الاتحاد الاشتراكي، المعطي بوعبيد خطة تأسيس حزب الاتحاد الدستوري، ومشددا في تعليماته على ضرورة فوز هذا الحزب بالأغلبية البرلمانية والبلدية، في الوقت نفسه كانت العلاقات بين حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي متوترة وفاترة. الصحافي محمود معروف يكتب عن هذه الفترة ".. التقارب سيصبح ممكنا مع التطورات التي ستعرفها قضية الصحراء وتدهور الوضع الاجتماعي، وسيبدأ بالتنسيق بين الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين، وسيتعزز هذا التنسيق بإضراب ديسمبر 1990 الذي دعت إليه النقابتان، والذي سيعرف مواجهات دموية في فاس وطنجة، حيث قامت السلطة بتدخل زجري عنيف، وستضطر السلطة إلى القبول بلجنة لتقصي الحقائق شكلها البرلمان وإلى جانب العمل النقابي المشترك، كان التنسيق يتم أيضا في البرلمان، وسيصل سنة 1990 إلى تقديم ملتمس للرقابة ضد الحكومة. وكان ذلك مناسبة لطرح المشكل الدستوري والإصلاحات السياسية. وقد ترك النقاش حول القضايا التي طرحت داخل البرلمان أثرا كبيرا على الحياة السياسية في البلاد، خصوصا وأن مستواه كان رفيعا". في هذه المرحلة أيضا كان طبيعيا أن تعرف الحركية السياسية تناميا كبيرا، فقد عرفت فيها قضية الصحراء تطورات ملفتة، بعد قبول مخطط السلام ديكويلار، الذي كان يقتضي أن يكون المغاربة صفا واحدا، وأن يكون هناك تماسك داخل المجتمع، بالإضافة إلى ما عرفه الشرق العربي من أحداث بعد 2 غشت ودخول العراق إلى الكويت، والذي عرف ردود فعل مغربية تجلت في تنظيم تظاهرة شعبية حاشدة في الرباط لم يسبق لها مثيل دعما للعراق. كل ذلك، دفع إلى أن تعرف العلاقات الداخلية نزوعا نحو التهدئة وعدم التوتر، خاصة بعد محاولة الحسن الثاني التوفيق بين موقفه الداعم عمليا للكويت والعربية السعودية، وموقف الشعب الداعم للعراق الذي كانت تربطه علاقات عميقة ومتينة بالمغرب والمغاربة، منذ دعم السلطة في بلاد الرافدين لحركة التحرير المغربية أيام المقاومة، وحتى حدود رفضها دعم الانفصال في الصحراء في الثمانينيات من القرن الماضي. في هذه الظرفية ستعود أحزاب الكتلة للتنسيق فيما بينها، فالاتحاد الاشتراكي مع حزب الاستقلال وبعد شهور من النقاش والحوار، سيتوصلان إلى اتفاق لم يخرج إلى العلن كما أسر بذلك مصدر من الاستقلال ل"مجلة هسبريس" لكنه على المستوى العملي سيظهر في محطات عديدة، بمضمون واحد سيتفق الحزبان العتيدان، إما أن نشارك سويا في الحكومة أو نكون سويا في مقاعد المعارضة، وكان من حرر المسودة الأولى لهذا الاتفاق، الواقع في صفحة واحدة، هو محمد جسوس، بينما أمضاه الأمين العام لحزب الاستقلال امحمد بوستة والكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي عبد الرحيم بوعبيد. يتذكر المغاربة كيف كان نواب الاتحاد الاشتراكي وخصوصا فتح الله ولعلو، وامحمد الخليفة عن حزب الاستقلال، يرغيان ويزبدان دفاعا، عن الملتمس، الذي اختلف عن سابقه (ملتمس 1964) بأن الأول قدمه حزب واحد وفي سنة 1990 قدمه حزبان كبيران، وأن السالف كان من أجل مطالب اجتماعية واقتصادية، بينما ركز المطالبون بسحب الثقة في سنة 1990، على الإصلاحات الدستورية التي لم تظهر ملامحها بالكامل لا في دستور 1992 ولا في دستور 1996، فهل دستور 2011 يجيب عن هذه الأسئلة؟؟ مؤطر: ملتمس لا يسقط الحكومة لم يستعمل ملتمس الرقابة إلا مرتين اثنتين(ملتمس 1964 وملتمس 1990)، وكان ذلك في ظروف سياسية مخصوصة، وفي الحالتين معا لم يؤدي طرحه إلى إسقاط الحكومة، ولعل السبب يعود في الأساس إلى الشروط التعجيزية المقيد بها نتيجة الملتمس، حيث إن الأغلبية الحكومية في الممارسة المغربية، أغلبية مريحة جدا، فالحكومة عندما تكون مساندة بأغلبية تلك طبيعتها، وتكون المعارضة لا تمثل مجتمعة نصاب الربع كشرط أساس لمجرد التقدم بالطلب فإن هذه الوسيلة تفقد جاذبيتها، خاصة وأن الموافقة على الملتمس لا تتم إلا بتصويت الأغلبية، وحتى إذا ما توفر النصاب فإن التقدم بملتمس الرقابة لن يكون الغرض منه هو إسقاط الحكومة، بقدر ما يكون مناسبة لفتح نقاش مثير للرأي العام تستطيع من خلاله الأقلية البرلمانية تسويق نفسها كبديل في الاستحقاقات القادمة.