كان حي الشيخ جراح في القدس الشرقية المحتلة مجرد حي فلسطيني آخر في المدينة قبل أن يصبح قضية ذات صدى عالمي، مع الاحتجاجات التي شهدها على خلفية التهديد بإجلاء عائلات فلسطينية من منازلها لصالح الجمعيات الاستيطانية. قبل أسابيع قليلة، أشعلت التظاهرات في الشيخ جراح حركة احتجاجية انتقلت إلى حرم المسجد الأقصى الذي شهدت باحاته صدامات عنيفة بين الفلسطينيين والشرطة الإسرائيلية. وشكلت هذه الأحداث شرارة لاندلاع صدامات دامية في البلدات اليهودية العربية في إسرائيل قبل أن تؤدي إلى نشوء حرب خاطفة استمرت 11 يومًا بين حركة حماس الإسلامية في قطاع غزة والدولة العبرية. وخلال شهر ماي الماضي، أصبح وسم #أنقذوا_حي _الشيخ _جراح بلغات مختلفة منتشرا بكثافة، بينما سارع نشطاء وشخصيات بارزة بينها مشاهير من جميع أنحاء العالم إلى مشاركته، من بينهم لاعب مانشستر سيتي رياض محرز وممثلون مثل الأميركي مارك رافالو وفايولا دافيس. وتمت إزالة حسابات عن "تويتر" وحجب محتوى على "إنستغرام"، بينما ندّد مستخدمون فلسطينيون للإنترنت بمحاولات إسكاتهم عبر فرض "رقابة" على مضمون منشوراتهم. ومن بين هؤلاء الناشط والكاتب الفلسطيني محمد الكرد (23 عاما) الذي يتهدد الإخلاء منزل عائلته في الحي؛ وقد برز اسمه واسم شقيقته منى عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع استخدامهما تويتر وإنستغرام للحديث عن قضية الحي. واعتقلت الشرطة الإسرائيلية الأحد شقيقة الكرد من أجل التحقيق على ما أكد والدها نبيل الكرد. وبرز اسم محمد الكرد خلال إجرائه مقابلات باللغة الإنجليزية عبر وسائل الإعلام العالمية المختلفة ونشاطه عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقال الكرد في مقابلة مع وكالة فرانس برس أمام منزل عائلته في الحي: "أعتقد أن ما جعل وسم #انقذوا_حي_الشيخ_ جراح ينجح هو السردية التي استخدماها. منذ بدء الحملة كان الخطاب واضحا للغاية. نحن نتحدث عن استعمار واستيطان وليس فقط عن انتهاكات حقوق إنسان". وحسب الكرد فإن الشيخ جراح "عينة مصغرة للاستعمار الاستيطاني الصهيوني في القدس وفلسطين بشكل عام"، ويرى أن قضية الحي "قامت بتبسيط الأمور للناس التي أصبحت مطلعة على موازين القوى"، وزاد: "تمكن الجميع من رؤية أننا نباطح قوانين ونظاما قضائيا عنصريا استيطانيا مكتوبا لحماية ودعم المستوطنين". تغيير كبير للكرد أكثر من نصف مليون متابع على إنستغرام ونحو مائتي ألف متابع على تويتر. ويوضح الشاب النحيل: "هناك تغيير كبير بشكل عام. رأينا تغييرا في الرأي العام العالمي لم نره من قبل، ورأينا أن الناس تلقوا تعليما سياسيا في الشهرين الماضيين وأصبحوا يفهمون قضية الشيخ جراح والاستعمار بشكل عام في القدس". ويضيف المتحدث: "حتى لو لم نتمكن من إنقاذ البيوت فقد قمنا بأمر أكبر من ذلك"، مردفا: "قضيتنا لا تتوقف عند إنقاذ البيوت..إذا أنقذنا بيوت الشيخ جراح فهناك 800 منزل في سلوان بحاجة للإنقاذ (..) هناك أماكن مهددة بالتهجير في كل مكان"، في إشارة إلى أحياء أخرى في المدينة. ويخوض نحو 700 فلسطيني في حي بطن الهوى في سلوان الواقعة على تلة إلى الجنوب من البلدة القديمة للقدس معركة مع المستوطنين للبقاء في منازلهم. وقررت المحكمة العليا الإسرائيلية الشهر الماضي تأجيل جلسة مقررة بشأن طرد العائلات إلى موعد لاحق لم يحدد بعد. ولا يعول الكرد كثيرا على قرارات المحكمة، موضحا: "نحن لا نرى أي عدالة أو فرصة للنجاح في القضاء الإسرائيلي. هذا أمر لا أتوقعه". وكانت المحكمة المركزية في القدس قضت في وقت سابق من العام الجاري بإخلاء أربعة منازل يسكنها فلسطينيون يقولون إن لديهم عقود إيجار معطاة من السلطات الأردنية التي كانت تدير القدس الشرقية بين 1948 و1967، تثبت ملكيتهم للعقارات في الحيّ. وجاء ذلك دعماً لمطالبة مستوطنين يهود بملكية هذه المنازل بدعوى أنّ عائلات يهودية عاشت هناك وفرّت في حرب عام 1948 عند قيام دولة إسرائيل. تضليل وتواطؤ خلال أيام المواجهات، شارك فلسطينيون مقاطع فيديو أو صور عبر حساباتهم على مواقع التواصل تظهر فيها القوات الإسرائيلية وهي تقمع المتظاهرين بعنف. وتمت إزالة حسابات عن "تويتر" وحجب محتوى على "إنستغرام"؛ في ما قالت الشركتان في وقت لاحق إنها "أخطاء تقنية". وسجلت منصة "صدى سوشال" الفلسطينية التي تعنى بالدفاع عن الحقوق الرقمية للفلسطينيين 700 انتهاك ضد المحتوى الفلسطيني خلال شهر ماي الماضي. وقال الكرد: "شركات التواصل الاجتماعي الضخمة لم تكن فقط تقوم بالتضليل على صوتنا وعلى سرديتنا تجاه انتهاكات الاحتلال بل كان هناك تواطؤ واضح جدا"، وتابع: "في فترة من الفترات لم يكن بإمكاننا نشر أي أمر حول الشيخ جراح دون تعرضه للحذف. ووصلتنا إنذارات كثيرة بحذف حساباتنا وتراجعت مشاهداتنا في بعض الأحيان من ربع مليون مشاهد إلى تسعين ألفا أو حتى خمسة آلاف مشاهد". وبالنسبة للكرد فإن استخدام وسائل الإعلام الاجتماعي قد يؤدي إلى التغيير، موضحا: "كنت من الناس المؤمنين بأن أي منشور أو صورة لن يقوم بتغيير أي أمر على أرض الواقع. لكن اكتشفت أن حربنا الأولى والأخيرة هي حرب الكلمة وحرب سردية وحرب رأي عام". وحسب المتحدث فإن نجاح الأمر يعود أيضا إلى "عدم وجود إستراتيجية للعمل"، وزاد موضحا: "تمكنا خلال الحملة ليس فقط من تسليط الضوء على الاستيطان في القدس، بل أيضا على حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم وفي مقاومة المحتل، وحق الفلسطينيين في سرديتهم بشكل عام"، وتابع: "تضاعفت المشاهدات وتضاعف عدد المتابعين بشكل خيالي، ما يدل أن هناك تعطش للحقيقة الفلسطينية وتعطش للرواية الفلسطينية". ويعترف الكرد الذي بدأ منذ أكثر من عشر سنوات نشاطه في تسليط الضوء على قضية الشيخ جراح بأن الأمر ليس سهلا. وقال: "من الممكن أن نمل أو نتعب ولكن الاستسلام أو الاندحار أو الخروج عن هذا العمل ليس خيارا"، وأضاف: "لا نملك ترف أن نترك الأمر وننساه، لأنه في اللحظة التي سنرفع فيها يدنا عن الموضوع من الممكن أن تسرق بيوتنا في أي لحظة من اللحظات".