لا شك أن تركيبة الجملة عنوان هذا المقال، سريعا ما ستثير القراء وقد تستفز بعضهم لكونها تحيل على تلك العبارة التي تقترن بالكثير من التداعيات الإيديولوجية والثقافية والسياسية، والصيغ السجالية المعروفة والتي تعبر عن شحنات صراعية في المجتمع المغربي وفي العديد من البلدان المحسوبة على "العالم الإسلامي"، وهي "الإسلام هو الحل" أو " العلمانية هي الحل"، وما يترتب عنها مند أكثر من عشرات السنين من تداول وأبعاد في النقاش العمومي والتصور المجتمعي والصراع القيمي والسياسي. يمكن اعتبار سؤال الإسلام والعلمانية في هذا النقاش أو الصراع، إلى حد ما نقاشا سياسيا وحقوقيا، حيث تمثل عبارة "الإسلام هو الحل" عنوان مشروع الإسلام السياسي مند بداية حركة الإخوان المسلمين بمصر التي هي الأم الشرعية لجل الجماعات الإسلامية التي عرفتها بلدان شمال افريقيا والشرق الأوسط مند حوالي نصف قرن، وخاصة بعد تزايد الإغراء الذي مثله النموذج الإيراني في بداية الثمانينات من القرن الماضي، مما جعل مختلف مكونات الحركة الإسلامية تلتقي في اعتبار هذه العبارة مسوغا فقهيا وسياسيا لمشروعها، وإن بأشكال ومقاربات مختلفة نسبيا، لا يخفى رهانها الإيديولوجي وطابعها الطوباوي، كما صار يتأكد بكل وضوح اليوم مع وصول مكونات الحركة الإسلامية إلى الحكم في بعض الدول في سياق انتفاضات الشعوب، وما صارت تبين عنه مع توالي الشهور من عجز مضاعف: العجز عن تطبيق وتنفيذ خيار "الإسلام هو الحل" كما طالما نظرت واعتقدت ووعدت واستمالت بذلك أتباعها، والعجز عن الاستجابة للانتظارات الكبرى للمواطنين والمواطنات في عدة مجالات كمحاربة الفساد والاستبداد وتحقيق النمو الاقتصادي، والتدبير المنصف للتعدد اللغوي والثقافي، وإيجاد الحلول لمعضلة البطالة وضمان التنافسية وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية... وعلى نقيض ذلك تعتبر عبارة "العلمانية هي الحل" عنوان الحركة السياسية والنقاش الحقوقي والفكري الذي ما لبت يدافع عنه بعض المثقفين والحركات التقدمية، وذلك في سياق تصورهم لمشروع وشرط التطور الديمقراطي والحداثي، وضرورة تحييد قضايا المعتقدات والأديان في مجال الممارسة السياسية وتنظيم الدولة والمجتمع وتدبير شؤونه العامة. وجزء من هذا المعترك خاصة من السياسيين أبان بدوره عن عجزه عن تطبيق وتنفيذ هذا الخيار عندما وصل إلى الحكم وتدبير قطاعات عمومية هامة، كما عجز عن الاستجابة لانتظارات المواطنين والمواطنات المذكورة. لا شك أن أسباب اخفاق الطرفين في العمل بشعاراتهم وتطبيق خيارهم الإيديولوجي والحقوقي أو الفقهي تعود إلى طبيعة الأنظمة السياسية التي تمتلك البنيات الكبرى وتقرر في الخيارات العامة في هذه البلدان، كما تعود إلى طبيعة المجتمعات وتكوينها وشرطها التاريخي والثقافي والإجتماعي، وإلى انتظاراتها الكبيرة في سياق الوعي بالإنعتاق والتطور السياسي والاقتصادي والثقافي الذي يصير فيه "تدبير المعتقد" أمرا ثانويا، مما يستوجب استحضار هذه المعطيات في محاولة تجاوز المأزق انطلاقا من طرح سؤال: أين المشكل إذن، وما الحل؟ يمكن القول بأن الأمازيغية في المغرب، التي هي حساسية مجتمعية بأبعاد لغوية وثقافية وهوياتية واضحة، تمثل حلا لبعض هذه الإشكالات، حيث يطرح هذا الجواب الثقافي أفقا آخرا في تناول هذه القضايا وتجاوز النقاش المحدود حول أبعاد وامتدادات الموضوع، وذلك انطلاقا من أهمية المدخل الثقافي والمقاربة الإجتماعية والإنسية في صياغة أجوبة ديمقراطية للإشكال الهوياتي والثقافي والديني والتنموي في مجتمع يطمح إلى التطور والتحديث الفعلي. ومن أجل بسط وجهة نظرنا معززة بما يكفي من الأدلة والتوضيحات، سننشر مجموعة من المقالات التي سنتناول خلالها أبعاد هذا البرديغم البديل من خلال طرح مجموعة من الأسئلة والإشكالات المركزية في النقاش السياسي وتدبير قضايا المجتمع، وتقديم الإجابات الممكنة عليها من منظور ثقافي وإنسي أمازيغي. 1- السؤال الديني: يعتبر المسجد في الأوساط الأمازيغية مرفقا روحيا، بقدر ما يحرص السكان على الاهتمام به وأداء واجباتهم تجاهه، كأداء "شرط" الفقيه وتغذيته، بقدر ما يضعونه على هامش فضائهم الاجتماعي وانشغالاتهم المعيشية وتدابير شؤونهم التنظيمية والسياسية والاقتصادية، وبقدر ما يحرصون كذلك على العناية به، وعلى بقائه خارج تدبير حياة الساكنة وأمورها الدنيوية. فإذا عدنا إلى خصائص الإسلام بالأوساط الأمازيغية خلال القرون الماضية، نعاين كيف تشكلت في البنية الثقافية والاجتماعية الأمازيغية صورة وتمثلات عن الممارسة الدينية، تفصل بين البعد الروحي والأحوال الشخصية، من جهة، وبين الحياة العامة للقبيلة والمجتمع المحلي، من جهة أخرى. هذا التميز الثقافي يتلخص في مفهوم "ليحضار" الذي هو العقد الذي يبرمه سكان الدوار أو القبيلة مع الفقيه الذي يوكلون له مهام المسجد، والتي لا تتعدى في كثير من الأحيان والأماكن إمامة الصلوات بالحاضرين بما فيها صلاة الأعياد والجنازة، وتعليم أبناء الأسر الراغبين. يحمل هذا العقد في مضمونه الأخلاقي والوظيفي التزام الفقيه بالعديد من الشروط التي هي في الغالب رسم لحدود مهامه والتزام بوظيفته "المسجدية"، حتى أنه من علامات الرضا وتثمين خصال الفقهاء في الأوساط الأمازيغية، بسوس والريف والأطلس، التزامهم حدود المسجد وعدم التجول في فضاءات الدواوير، والابتعاد عن شؤون السكان وأنشطتهم وقضايا تدبير معيشهم وحياتهم المحلية. يحمل مصطلح ليحضار "بالأمازيغية، أو "الشرط" كما يسمى في الدارجة المغربية، دلالات ثقافية تحيل على كيفية تدبير الشأن الديني على المستوى المحلي، والحدود التي تفصل بين الديني والدنيوي. فيحيل على تعاقد طرفين، أي الفقيه الذي سيتولى الإشراف على "تيمزكدا" -تمزكيدا هي المسجد مع فارق دلالي مرتبط بالإطار الاجتماعي والثقافي لهذا المرفق في الوسط الأمازيغي- من جهة، و"الجماعة" أي سكان الدوار أو القبيلة، والذين ينوب عنهم الحاضرون في الاجتماع التفاوضي والتعاقدي الذي يحدد خلاله المقابل العيني الذي سيتقاضاه الفقيه من طرف كل بيت في السنة، وكان يتم بالمنتوجات المحلية خاصة الحبوب، وخلال السنوات الأخيرة أصبح يؤدى نقدا في بعض المناطق. كما تناقش في هذا الاجتماع الذي ينتهي بالدعاء الذي هو علامة الالتزام والتراضي، بعض الأمور التي تخص حياة السكان وشروطهم، إلا أنه في غالب الأحيان يكتفى بالإشارة إلى حدود المهام التي أوكلت إلى الفقيه حيث أن ضرورة التزامه بمسافة اجتماعية من حياة الساكنة يعد من بديهيات هذا التعاقد، وأسس مضمونه الأخلاقي والروحي ذاته. بل إن من شروط "ليحضار" استقلالية الفقيه وتجرده، والتزامه لحدود المكان والمهام المرتبطة بالمسجد، وعدم التدخل في شؤون وتدابير الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المحلية. وبمجرد اختلال هذا الشرط في حالة شروع الفقيه في تمديد نفوذه الرمزي أو السلطوي خارج دائرة الممارسة "المسجدية" اليومية، تلوح في مجال الحياة الاجتماعية دعوات أو مطالب فسخ "ليحضار" وتغيير الشخص خدمة للحاجيات المنتظرة من المرفق، وتجنبا للتداعيات والنتائج السلبية لخروج "الطالب" عن حدود مجال ممارسته والمهام المنوطة به. كيف يتم تنظيم شؤون الساكنة وأمورها الدنيوية عبر القوانين العرفية؟ هذا هو السؤال الثاني موضوع مقالنا القادم.