ارتبط النقاش الدائر حول العلمانية، في العالم العربي، بالإيدويولجية القومية في بعدها العرقي الضيق و المنغلق و بذلك، فقد تحولت العلمانية من منهجية علمية، تسعى إلى تحقيق استقلال المكون الروحي عن المكون المادي؛ إلى هوية identité كما يذهب إلى ذلك المفكر الفلسطيني (عزمي بشارة). و هذا، ما يجعل الصراع يتحول من طابعه الفكري و بعده السياسي، إلى صراع بين هويات منغلقة و جامدة، هي التي يطلق عليها الروائي (أمين معلوف) وصف ( الهويات القاتلة) les Identités meurtrières و لعل محاولة استقرائية لحالتين، على الأقل، لتؤكد افتراضنا منذ البداية. • في المشرق العربي، اتخذت العلمانية بعدا إيديولوجيا؛ في علاقة بالتصورالماركسي للدين من جهة؛ و كذلك في علاقة بالتصور العلمانوي الفرنسي/الأتاتوركي من جهة أخرى. و قد كان الغرض من ذلك، هو محاولة تحقيق تقرير مصير الأقليات الغير-إسلامية عن الدولة الأم، بدعوى أن التشريع الإسلامي يشكل خطرا على خصوصيتها الثقافية. و لعل ذلك، هو ما يؤكده الأستاذ الجابري، بموضوعية فكرية كبيرة، ففي حديثه عن علاقة الدين بالدولة في الخطاب السياسي العربي، يؤكد الأستاذ محمد عابد الجابري أن الانطلاقة الأولى كانت من شعار (فصل السلطة الروحية عن السلطة المدنية) في دولة الغد، دولة النهضة، لينتهي الأمر إلى البحث في دولة الأمس، بهدف إعادة ترتيب العلاقة بين العروبة و الإسلام في التاريخ العربي. و يفسر الأستاذ الجابري هذه العلاقة بقوله: " على أن قضية العلاقة بين العروبة و الإسلام لم تطرح فجأة و لا جاءت متأخرة بهذا الشكل (..) بل يمكن القول إنها كانت الوجه السياسي المباشر لقضية العلاقة بين الدين و الدولة، كما طرحت في أواخر القرن الماضي و أوائل هذا القرن تحت حكم الإمبراطورية العثمانية. محمد عابد الجابري – الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية-مركز دراسات الوحدة العربية – ط: 5- 1994: 74 إن تحليل الأستاذ الجابري، في الحقيقة، يدفعنا إلى إعادة النظر في مجموعة من القضايا التي كان المشروع القومي يتعامل معها باعتبارها مسلمات، سواء تعلق الأمر بقضية العلمانية، أو بقضية العلاقة بين العروبة و الإسلام. فنحن نتحدث عن مشروع قام على أساس رد الفعل، من دون أن يكون نتيجة بناء فكري رصين أو قراءة سياسية عميقة للواقع العربي. و هذا، ما يفسر موقف الأستاذ الجابري النقدي، من العلمانية في الثقافة العربية، لأنه لم يكتف بالضجيج الذي أثير حول المفهوم، و لكنه تجاوز ذلك إلى البحث في علاقة هذا المفهوم بالتوجهات الإيديولوجية السائدة. و قد كان صريحا جدا و نافذ البصيرة؛ حينما دعا إلى الديمقراطية كبديل لما أطلقت عليه النخبة البعثية (المسيحية في معظمها) لفظ " العلمانية" و هو لفظ إن كان يترجم مصطلح laïcité على مستوى الدال le signifiant فإنه لا يحمل دلالته الفكرية؛ سواء على مستوى البعد الفلسفي، أو على مستوى الممارسة العملية، كما تجسدت في تجارب أوربية و أمريكية و أسيوية مختلفة. • في المغرب العربي، لا يختلف الأمر كثيرا عن سابقه؛ لأن الانغلاق الإيديولوجي، في بعده القومي/العرقي، ينطلق من نفس المسلمات و يصل إلى نفس النتائج. فحتى و لو أوهمنا بالاختلاف، على مستوى الخطاب، فإنه موحد، على مستوى الآليات المتحكمة في صياغة هذا الخطاب. قد يستغرب الكثيرون هذا الجمع بين ما يعتبرونه متناقضات لكن، المقاربة الابستملوجية تفضح دعوى التمايز و الصراع المزعوم بين التيارات القومية/العرقية، سواء اتخذت لبوسا عربيا أو أمازيغيا أو كرديا ... فهي جميعها أصولية النزوع و تتعامل مع منجزات الفكر الحديث بانتقائية عمياء، قد تصل بها أحيانا إلى معاندة تاريخية الأفكار، مما يسمح لها بالركض في كل الاتجاهات متحدية اتجاه البوصلة ! و هذه الآليات في التفكير، لا يمكنها أن ترتقي إلى مستوى القيم الفكرية الحديثة، التي تنتصر لمفاهيم الدولة و المواطنة و التعددية و الاختلاف... و جميع هذه المفاهيم تعتبر ثمرة النضال ضد الفكر القومي/العرقي المنغلق، الذي جسده (أدولف هتلر) في ألمانيا و موسوليني في إيطاليا ... و أدى إلى كوارث خربت أوربا عن آخرها . يصرح الفاعل العرقي، في المغرب العربي، بأن العلمانية هي الحل، على شاكلة التصريح السلفي ( الإسلام هو الحل). لكن، الهدف المرسوم يتجاوز المشروع العلماني الحديث؛ الذي يفصل بين السلطتين الروحية و المادية و يحافظ، في نفس الآن، على استقلاليتهما و دورهما الفاعل في المجتمع، إنه يتخذ مفهوم العلمانية، فقط، كشعار يخفي صراعا من نوع آخر، لا يعلن عنه الفاعل العرقي صراحة، و لكنه يوجد بين ثنايا الخطاب. إن العلمانية تحضر باعتبارها أفضل وسيلة لتصفية الحساب مع الانتماء الحضاري العربي الإسلامي لأقطار المغرب العربي، و في نفس الآن تعتبر أفضل وسيلة لربط المغرب العربي بالامتداد الاستعماري الفرانكفوني، عبر ادعاء الانفتاح على قيم الفكر الحديث ! و لعل هذا، هو ما رسخه البحث السوسيولوجي الكولونيالي، في المغرب العربي، حينما تحدث عن (الديمقراطية الأمازيغية) قبل ظهورها في الفكر الحديث، في تناقض واضح مع تاريخية الأفكار. فمن خلال دراسته للتشكل القبلي في المغرب، يخلص (روبير مونتاني) إلى كون القبائل البربرية المدروسة هي، في نظره، عبارة عن جمهوريات بربرية تشبه، في تشكيلتها، الجمهوريات ذات الطابع الديمقراطي العسكري. Robert Montagne : Les Berbères et le Makhzen dans le sud du Maroc- essai sur la transformation politique des Berbères sédentaires (groupe cheluh) Ed Alcan, Paris 1930. و قد تم التعامل مع ( العلمانية الأمازيغية) باعتماد نفس المنظور اللا تاريخي؛ حيث راجت؛ في عدة كتابات، دعوى الفصل بين الدين و الدولة، في وقت مبكر جدا، و قبل ظهور مفهوم العلمانية في الثقافة الغربية نفسها ! و ذلك على الرغم من أن تاريخ الأفكار يؤكد على أن المفاهيم، كل المفاهيم، هي، في الأخير، نتيجة تراكم معرفي يؤدي إلى طفرة اصطلاحية، تظهر على شكل مفهوم دال على تشكل فكرة أو رؤية جديدة للعالم، بتعبير لوسيان كولدمان. لكن الفاعل العرقي، لا تهمه تاريخية الأفكار هاته بل يغريه، أيما إغراء، أن يتماهى مع الأطروحة الكولونيالية لكن، من دون أن يمحص أساسها المعرفي الذي يوجهها، و يجعل، بالتالي، السوسيولوجي الكولونيالي يتناقض مع روح البحث العلمي الأكاديمي، الذي يعتمده حينما يتعلق الأمر بقضاياه الاجتماعية الخاصة. فالثقافة الأمازيغية؛ حسب بعضهم، تقدم عراقة الممارسة العلمانية، على مستوى شمال إفريقيا، وذلك من خلال القبيلة الأمازيغية، فهذه الأخيرة كانت قائمة على تنظيم اجتماعي وسياسي تتولى فيه الجماعة تدبير أمورها بشكل جماعي ضمن قانون عرفي يضعه أفرادها، فالجماعة الأمازيغية كانت تتشكل من "أمغار" القائد الذي كان يتولى تنفيذ قرارات الجماعة في شقها السياسي، في حين كان "الفقيه" يتولى تدبير الأمور الدينية المرتبطة بالصلاة والأذان وتعليم القرآن للأطفال.. حيث لم يكن الأول يتدخل في شؤون الثاني والعكس صحيح، وهذا الفصل بين السياسي والديني هو الذي رسخ استقرار أفراد الجماعة. مصطفى عنترة - لماذا يطالب الأمازيغيون المغاربة بالعلمانية؟ الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان http://www.anhri.net/hotcase/04/tha.shtml هكذا، بجرة قلم يتم التنظير للعلمانية، رغم أننا نعلم جيدا المسار الشاق و المضني، الذي مر به هذا المفهوم قبل تشكله نظريا و قبل خضوعه للممارسة العملية، منذ الإصلاح الديني، و مرورا بالثورة الفرنسية، و الثورة الإنجليزية، و ما عاشته الولاياتالمتحدة من صراع بين رجال الدين و طبقة السياسيين ... كل هذا، لا يهم الفاعل العرقي لكن، الأهم هو أننا كنا سباقين، ليس إلى التنظير للعلمانية بل سباقين إلى ممارستها كتجربة اجتماعية و سياسية ! هذا، ما يقوله ظاهر الخطاب لكن، عمق الخطاب يقول شيئا آخر لا علاقة له، بالتمام، مع مفهوم العلمانية، سواء كنظرية أو كممارسة، إن ما يقوله جوهر الخطاب، هو نفسه ما جسدته السوسيولوجيا الكولونيالية، في علاقة بتنظيرها للخصوصية الأمازيغية، التي تحضر كتعارض مع الخصوصية العربية، و كل ذلك ضمن ما أطلق عليه " السياسة البربرية في المغرب العربي" ، هذه السياسة التي بلغت قمة نضجها مع إعلان الظهير البربري، في تناغم تام مع دعوى العلمانية الأمازيغية، هذه العلمانية التي تقوم على توظيف القوانين العرفية كبديل للقوانين المغربية المستندة إلى روح الشريعة الإسلامية. إن العلمانية هنا، تتحول إلى شعار إيديولوجي يخفي أكثر مما يعلن و ذلك، لأن الفاعل العرقي، و هو يروج لهذا الشعار، لا يقيم وزنا لشحنته الفكرية الحداثية؛ في بعدها الكوني، بل تصل به النرجسية العرقية إلى تبشير العالم كله بالمنجزات العلمانية التي تحفظها الأعراف الامازيغية الأصيلة ! و هكذا، يكشف دون أن يدري عن أهدافه الحقيقية من خلال ترويجه لشعار العلمانية، إنها أهداف ذات نزوع إقصائي يسعى إلى استئصال المكون الحضاري العربي الاسلامي؛ من منظور أحادي و منغلق للهوية، و تعويضه بالأعراف الأمازيغية القديمة، باعتبارها التجسيد الحقيقي للأصالة و الخصوصية المغربية ! و نحن نتساءل هنا، عن أية علمانية يتحدث الفاعل العرقي إذن ؟ هل العلمانية كإنجاز حداثي يجسد الفصل بين السلطتين الروحية و المادية مع المحافظة على فعاليتهما الاجتماعية؟ أم إنها لا تتجاوز عرفا/تقليدا ( من منظور سلفي/رجعي) يجب استعادته كبديل للشعار السلفي (الإسلام هو الحل) ؟ إن الفاعل العرقي؛ و هو يربط العلمانية بالأعراف الأمازيغية القديمة؛ لا يجسد طموحا تقدميا و حداثيا؛ كما يدعي، و لكنه يعبر عن نزوع سلفي أصولي دون أن يدري. و لذلك، نجده يفكر في المفهوم ليس باعتباره من منجزات الفكر الحديث؛ بل إنه يعتبر أن العلمانية هي مكون أصيل من مكونات الأمازيغية كهوية وحضارة. و لتأكيد نزوعه الماضوي؛ فهو يقدم قراءة انتقائية لتاريخ المغرب، تتماهى مع الرغبة وتتجاهل الواقع، لتنتج حقيقتها الخاصة المسكونة بهاجس الفصل، في الهوية المغربية، بين ما هو أمازيغي أصيل إيجابي دائما، وبين ما هو عربي دخيل وطارئ، لم يحمل معه إلا ما هو سلبي من القيم و التمثلات. وعليه، فحسب هذه القراءة، الأمازيغي بطبعه وفطرته متفتح، متسامح مناصر للديمقراطية، والعربي منغلق، متعصب مساند للاستبداد ومكرس له. الأمازيغي أيضا، حسب هذه القراءة، يميل إلى ممارسة دينية معتدلة تفصل بين الديني والسياسي، والعربي يميل إلى الغلو والتطرف والجمع بين مجالي الدين والسياسة. الأمازيغي، تبعا لذلك يناصر العلمانية والعربي يناهضها. هذا، إذن، هو المسكوت عنه في هذه القراءة، التي تقرأ التاريخ حسب رغبتها وهواجسها كتعبير عن تطلعات وطموحات وغايات. عبد الاله إصباح- الحوار المتمدن-العدد: 2999 - 2010 / 5 / 9 - 15:24 - عود على بدء .. في الحاجة إلى النقد المزدوج تقتضي موضوعية البحث العلمي أن يلتزم الباحث الحياد، في مناقشته لقضايا الفكر و السياسة. و لذلك، فإنه بنفس المقدار الذي ننتقد به التصور السلفوي المنغلق، في دعوته للدولة الدينية و ولاية الفقيه و تطبيق الحدود ... بنفس هذا المقدار، ننتقد التصور العلمانوي، الذي يقوم على أساس تزييف القيم الفكرية الحديثة لخدمة أجندة قومية/عرقية ضيقة. لكن، الموضوعية العلمية تفرض علينا كذلك أن نعترف بأن هناك تصور سلفي علمي يؤمن بروح الانفتاح و يمتلك أدوات الاجتهاد، و ذلك نتيجة تشبعه بروح الدين الإسلامي ذات المنحى العقلاني، الذي يجسده علم أصول الفقه في بعده المقاصدي. و تفرض علينا الموضوعية العلمية كذلك، أن نعترف بأن هناك تصور فكري رصين منفتح على الفكر الحديث، في بعده الفلسفي و السياسي، و هذا ما تجسده مجموعة من المشاريع الفكرية التنويرية، التي قادت حركة التحديث في العالم العربي، مشرقا و مغربا، من محمد عابد الجابري و عبد الله العروي و طه عبد الرحمان و هشام جعيط و محمد أركون و محمد سبيلا ... في المغرب العربي؛ إلى حسن حنفي و طيب تيزني و حسين مرة ... في المشرق العربي. لذلك، لابد أن يقود النقاش، حول قضايا الفكر و السياسة، في العالم العربي، رموز الفكر العربي الحديث، الذين يمتلكون توازنا فكريا و نفسيا كما يمتلكون وضوحا منهجيا و التزاما أخلاقيا. أما أن تترك هذه القضايا، التي تشبه القنابل الموقوتة، بين أيدي مثقفي التزييف، فإن الضريبة ستكون باهظة، سواء على المدى القريب أو البعيد، و من يؤدي الثمن دائما، هي الدولة التي يتم تشتيتها إلى شيع متناحرة و هويات متقاتلة.