سنوات قليلة تفصل بين التنظير لأطروحة أو تيار "السلفية الحركية"، وتفعيل مقتضيات هذا التنظير على أرض الواقع المغربي، من خلال انضمام فعاليات إسلامية سلفية إلى حزب سياسي من أحزاب الساحة، دون أن يمر هذا التفعيل عبر تنسيق في الباطن أو في الخارج بين أهل التنظير وأهل التفعيل. هكذا نقرأ التطورات النوعية التي تميز أداء بعض الفاعلين الإسلاميين (من الذين ينهلون من مرجعية سلفية)، وهي تطورات نعاينها منذ سنوات، وأفرزت بعض المتابعات البحثية والإعلامية العابرة، وكان علينا انتظار طرق فاعلين باب العمل السياسي، حتى تخرج قيادات إخوانية (من حركة "التوحيد والإصلاح" وبالتالي حزب العدالة والتنمية) بتصريحات تندد وتستنكر، أو تخصص منابر إعلامية (ورقية وإلكترونية) ملفات عن الحدث، بما يؤكد مرة أخرى، أن الهاجس السياسي في العمل الإسلامي الحركي أصبح أشبه بكابوس تنظيمي يقيم دنيا الحسابات والمفاوضات والمصالح، مقارنة مع الهاجس الدعوي، المميز مثلا لجماعات "الدعوة والتبليغ"، وهي مواقف تُزكي مرة أخرى (ومرات قادمة لا محالة، بشهادة شاهد من أهلها..) مضامين أعمال الراحل فريد الأنصاري، عندما حَذر من "التضخم السياسي للحركة الإسلامية" في الساحة المغربية. يهمنا في هذا المقال التوقف عند نقطتين محورتين: 1 تتعلق الأول بريادة المعتقل حسن الخطاب في مشروع "المراجعات"؛ 2 وتتعلق الثانية (ترتبط بالأولى في الواقع)، بتأسيسه النظري للأرضية الفقهية لمشروع "السلفية الحركية"، وحسن الخطاب بالمناسبة، معتقل إسلامي ومحكوم بالسجن 30 سنة، على خلفية انتماءه إلى خلية حركية تحمل إسمه، وقد أنهى منذ أيام فقط، إضراب عن الطعام، تطلب تدخلا رسميا من المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وهو التدخل الذي يسحب البساط عن جميع الفاعلين السياسيين والحقوقيين الذين كانوا يطرقون باب الملف، إما في سياق التوظيف السياسي أو الاستثمار الرمزي أو التقرب من دوائر صناعة القرار، أو شيء من هذا القبيل. 1 من المنتظر أن تصدر عما قريب إذا رخصت السلطة ذلك سلسلة أعمال/ وثائق بقلم حسن الخطاب، محررة منذ سنين، أو في الأشهر القليلة الماضية، نعتقد جازمين، كما أشرنا في التقديم المؤطر لها، أنها تُصَنّف في خانة "المراجعات" الفقهية، ما دمنا نتحدث عن تحولات في النظر والعمل لدى رموز وقواعد التيار السلفي، هنا في المجال التداولي الإسلامي المغربي، ويكفي تأمل عناوين بعض هذه الوثائق، حتى يخرج الباحث أو المتتبع بانطباعات أولية حول أحقية الحديث عن "مراجعات"، ونحن نأخذ بعين الاعتبار مضامين بعض الأعمال الصادرة عن نفس المعتقل أيام مروره من فترة "المراهقة الفقهية" التي أفرزت "مراهقة سياسية"، على غرار ما جرى مع باقي الرموز، كما تطرقنا إلى ذلك في دراسة سابقة حول التيار السلفي في الساحة المغربية، أي أعمال كانت تتسم بالتشدد في الرأي والمواقف. نقصد ب"المراهقة الفقهية"، الإدلاء بتصريحات إعلامية لبعض رموز العمل السلفي اعتبرت مستفزة للعامة قبل الخاصة في حقبة ما بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن في 11 شتنبر 2001، من قبيل أن "نصرة القاعدة واجب شرعا"، "سنقصى الذين يسبون ديننا، سوف يحاكمون في المحاكم الشرعية، هؤلاء لا ينبغي أن يعيشوا"، "القوانين الجاري العمل بها في جملتها غير شرعية، قوانين وضعية، لأنها ليست مما أنزل الله"، "التأييد هو ما يجمع مشايخ المغرب بتنظيم القاعدة وليس الانتماء إلى التنظيم"، "يشرفني الانتماء إلى تنظيم القاعدة، لكني لست من رجالها".. وجاءت الطامة (من وجهة نظر صانعي القرار، وبتعبير حسن أوريد، الذي كان حينها يشغل منصب الناطق الرسمي باسم القصر الملكي)، عندما نشرت أسبوعية عربية تصدر من باريس، ومقربة من أجهزة أمنية خليجية، سلسلة حوارات مطولة في حلقات وطيلة أسابيع مع بعض هذه الرموز، تحت عنوان صادم: "حوارات مع زهور ابن لادن في المغرب"، وبالنتيجة، كان على أي متتبع أمني قبل المتتبع السياسي أو البحثي أو غيره، أن يتعامل مع هؤلاء، على أساس أنهم "أتباع أسامة بن لادن" في الساحة المغربية. (تنديد حسن أوريد جاء على هامش ندوة لم تكن مخصصة أصلا للحديث عن الإسلام السياسي أو الإرهاب أو شيء من هذا القبيل، ولكن خطورة الرسائل التي مررتها تلك الأسبوعية العربية استفزت صانعي القرار، لنقل استفز المعني على الأقل، باعتبار حساسية منصبه الرسمي، بما يفسر موقفه النقدي الصارخ من مضامين الحوارات المطولة..) نحن في ذروة حقبة ما بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن، أي حقبة في "الأسد الأمريكي الجريح"، والدول العربية والإسلامية تجتهد في تبرئة الذات أمام الرأي العالمي بأسره من أي خطاب إسلامي "جهادي" في سلطنة عمان مثلا، سوف تصدر وزارة الأوقاف والشؤن الإسلامية، مجلة فصلية تحت اسم "التسامح"، وأصبحت اليوم تحمل اسم "التفاهم" ومن هنا يجب قراءة بعض أسباب حملة التمشيط والاعتقالات التي طالت العديد من الأسماء السلفية في المغرب قبل و(خاصة) بعد اعتداءات الدارالبيضاء سيئة الذكر في 16 مايو 2003. بالعودة إلى بعض عناوين أعمال حسن الخطاب، والمؤسسة لمشروع "المراجعات"، سواء كانت في صيغة دراسات أو مقالات، نقرأ مثلا: "التيار السلفي بين أسر الماضي ورهانات المستقبل"، "أزمة التيار السلفي: السلفية الجهادية نموذجا"، "الحركة الإسلامية بين سؤال الهوية ورهانات المستقبل"؛ أجوبة التيار السلفي على القضايا الراهنة"، السلفية الجهادية.. دولة المتناقضات"، "النظام الملكي والحركات السلفية"، شذرات الفائدة في أخطاء تنظيم القاعدة"، "نظريات عامة لرؤية سلفية مستقبلية"؛ "المصالحة الوطنية بين الهوية السلفية ورهانات الدستور الجديد؛ "السلطان الوفي بمراجعات التيار السلفي"، وغيرها من المؤلفات والمقالات. لهذا السبب الذات، يصح الحديث عن التأسيس لمراجعات فقهية خاصة بالتيار السلفي في الساحة المغربية. صحيح أنه موازاة مع تاريخ تحرير هذه الأعمال، سوف نعاين صدور وثيقة "أنصفونا" التي حررها عبد الوهاب رفيقي (أبو حفص)، وتميزت بإمضاء بعض القواعد السلفية هنا أو هناك، كما صدرت تصريحات تندرج في سياق المراجعات عن الشيخ محمد الفيزازي (منها مثلا مضامين حواره الشهير مع مجلة "دير شبيغل" الألمانية)، ومواقف الشيخ عبد الكريم الشاذلي (وهي المواقف التي تسببت له في تلقي انتقادات شديدة اللهجة من بعض الشباب السلفي المعتقل الذي لا زال رهين عقلية "المراهقة الفقهية")، إلا أن ميزة أعمال الخطاب، كونها اشتغلت على التأصيل الفقهي لمشروع "المراجعات"، وهذا أمر لا نجد له مثلا في وصيقة "أنصفونا" أو تصريحات الفيزازي أو مواقف الشاذلي. نقول هذا ونحن نأخذ بعين الاعتبار أن الثنائي الفيزازي والشاذلي، يبقى الأكثر وزنا في التأصيل الفقهي عند التيار السلفي في المغرب، وبدرجة أقل عمر الحدوشي والشريف حسن الكتاني وحسن الخطاب وعبد الوهاب رفيقي.. هذا تصنيف الأمس القريب، ولكن مواقف اليوم، تتطلب التأكيد على أن الشاذلي يفضل الصمت والابتعاد كليا عن الإدلاء بمواقف أو تصريحات أو تحرير مقالات أو دراسات، مقابل انخراط الرباعي الفيزازي والحدوشي والكتاني ورفيقي في مقتضيات ما بعد الإفراج، وقيادة حسن الخطاب لمشروع "المرجعات" بشكل يُخول لنا تجديد التأكيد على أنه رائد المراجعات في الساحة المغربية. 2 نأتي لمصطلح "السلفية الحركية"، وهي مرتبة وسط بين تياري "السلفية العلمية" و"السلفية الجهادية": فالأولى ترفع شعار "من السياسة ترك السياسة"، ويُمثلها بشكل وازن مغربيا، الشيخ محمد بن عبد الرحمن المغراوي، ونجد في مقدمة المنابر الإعلامية الناطقة باسمها أو المحسوبة عليها، صحيفة "السبيل" نصف الشهرية، ونقصد بشعار "من السياسة ترك السياسة"، عدم الانخراط في العمل السياسي المباشر، وليس عدم الإدلاء بمواقف سياسية، وهذا أمر كان جاري به العمل قبل اندلاع أحداث "الربيع العربي"، في نسختها المغربية، ولو أن اندلاع هذه الأحداث، يقف وراء ارتفاع وتيرة الإدلاء وتبني مواقف سياسية من أحداث الساعة، دون أن يصل الأمر إلى الانخراط في العمل السياسي. (ويُحسب لهذا التيار انخراط بعض رموزه في التأصيل الفقهي للمراجعة الدستورية، بشكل يضاهي أو يتفوق على ما صدر عن علماء المؤسسات الدينية.) أما التيار الثاني ("السلفية الجهادية")، فإنه موجود في الساحة المغربية، ولكن بشكل متناثر، أو بتعبير علم الكيمياء، على إيقاع "الإلكترون الحر"، الذي لا يعلن عن نفسه في تنظيم أو جماعة، تحت إمرة قائد أو زعيم، ويكفي تأكل الأرقام التي صدرت مؤخرا عن الأجهزة الأمنية بخصوص عدد المغاربة الذي سافروا إلى سوريا من أجل الانضمام إلى الحركات الإسلامية "الجهادية" هناك، ويكفي التذكير بأن بعض المغاربة (من منطقة الشمال على الخصوص، تطوان، سبتة..)، سافروا بدورهم إلى شمال مالي مطلع العام الجاري للقتال إلى جانب "الجهاديين" هناك). نظريا، هناك لائحة من القواسم المشتركة القائمة بين التيارين (تطرقنا إلى هذ الموضوع في كتاب "الوهابية في المغرب"، دار توبقال، الدارالبيضاء، ط 1، 2012)، ولكن عمليا، هناك فوراق تخول لنا عدم تصنيف محمد بن عبد الرحمن المغراوي أو حماد القباج في نفس الخانة مع أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وشتان ما بين المرتبتين، لولا أن الأدبيات التي صدرت عن حسن الخطاب، تتطلب تصنيف هذا التيار الإسلامي (السلفي) الذي يرفض شعار "من السياسة ترك السياسة"، ولكنه يرفض أيضا تبني العمل الإسلامي "الجهادي"، فلا هو مع مبادئ ومشروع "السلفية العلمية" ولا هو مع مبادئ ومشروع "السلفية الجهادية"، ما دام قد تطورت مواقف بعض المنتمين إليه حسب التصنيف الذي وضعناه إلى الإعلان عن الانضمام إلى حزب سياسي معترف به، لمزاولة العمل السياسي، تحت الأضواء وليس في كهوف الظلام: هذا هو عين ما سطرت معالمه أعمال حسن الخطاب، على الأوراق والوثائق، وعين ما قام عبد الوهاب رفيقي ومن معه، بتفعيله على أرض الواقع، وهذا التيار هو ما قد نصطلح عليه بتيار "السلفية الحركية"، في نسختها المغربية، لأن التيار موجود في الحالات المشرقية، وخاصة في الحالة المصرية (نحيل القارئ على كتاب "اختلاف الإسلاميين" للباحث أحمد سالم، وصدر منذ أشهر قليلة فقط..)، ولهذا السبب إذا، نرى أن حسن الخطاب يُعتبر مؤسس تيار "السلفية الحركية" في الساحة المغربية، ولو أنه من باب الإنصاف، لا بد من التذكير بسبق مواقف صدرت عن أحد رموز الجيل الأول من "الأفغان المغاربة" الذي حاربوا في الحقبة التي كانت السلطة ترخص للشباب المغربي المتحمس السفر إلى أفغانستان من أجل الانضمام إلى الفصائل الأفغانية المنخرطة في حربها ضد الغزو السوفياتي. حديثنا عن علي العلام الذي كان أول فاعل سلفي يتحدث ويُروج مصطلح "السلفية الحركية"، كما جاء في بعض الحوارات التي أجربت معه أثناء فترة اعتقاله (ونشرت أغلب هذه الحوارات آنذاك في صحيفة "الأسبوعية الجديدة"، بين 2006 و2007)، كما حرر مقالات رأي تطرقت لمشروع "المراجعات"، ومقالات أخرى، مؤسسة على بعض التأصيلات الفقهية، ولكنها لم تصدر للعموم، وبقيت حبيسة الإدارة السجنية، ولا تصل إلى نوعية التأصيل الذي سطره حسن الخطاب، الذي "يجمع بين الحسنين" عند الشباب السلفي داخل وخارج السجون المغربية، أي ريادة "المراجعات" من جهة، وتأسيس "السلفية الحركية" من جهة ثانية.