تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على طبيعة العلاقة بين الحقوق اللغوية والثقافية من جهة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى، وتأثير هذه العلاقة على آليات اشتغال النظام الديمقراطي. فقد ساعدت التحولات الدراماتيكية المتعددة الأبعاد التي يعرفها المجتمع البشري خلال النصف قرن الأخير، على تزايد الوعي بالتداخل الكبير الموجود بين مختلف أجيال حقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزيء في النظام الديمقراطي الحديث. فعلى سبيل المثال أظهرت العديد من الدراسات أن عدم ضمان الحقوق اللغوية والثقافية للأفراد والجماعات يكون له تأثير سلبي على قدرتهم على التمتع بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وبعبارة أخرى فإن اعتماد لغة واحدة في سياق مجتمع متعدد اللغات يؤدي إلى ظهور علاقات هيمنة بين لغة الأغلبية (اللغة المهيمنة) ولغات الأقليات (اللغات المهيمن عليها). وبما أن علاقات الهيمنة اللغوية هذه ما تلبث أن تتحول إلى علاقات هيمنية سياسية واقتصادية واجتماعية بين الأغلبية والأقلية، فقد أصبح الباحثون في النظرية الديمقراطية يهتمون بأشكال تمفصل الحقوق اللغوية والثقافية مع الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولعل أبرز تجليات هذا الاهتمام هو ظهور مفهوم العدالة اللغوية الذي يشير إلى مختلف الآليات اللغوية، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والقانونية... الخ، التي تستهدف تصحيح الاختلالات الناجمة عن اعتماد لغة واحدة مهيمنة في سياق لغوي متعدد. إن الحديث عن العدالة اللغوية في السياق المغربي يدفع مباشرة إلى التفكير في المسالة الأمازيغية. وبصرف النظر عن الملابسات التاريخية لتكريس علاقات الهيمنة اللغوية بين العربية كلغة سائدة والأمازيغية كلغة مسودة، (مع التحفظ على إطلاق صفة الأقلية على الناطقين بالأمازيغية في ظل غياب إحصاءات دقيقة حول الموضوع) فإن تحليل مختلف مبادرات وتصورات ومواقف الفاعلين في المسألة الأمازيغية من منظور مفهوم العدالة اللغوية، يضعنا أمام مقاربتين متمايزتين : مقاربة الدولة وتقوم على الاعتراف بالأمازيغ كجماعة لغوية، ومقاربة بعض مكونات الحركة الأمازيغية وتهدف إلى الاعتراف بالأمازيغ كقومية. مقاربة الدولة : الاعتراف بالأمازيغ كجماعة لغوية إن الحديث عن تصاعد مطالب الأمازيع بالاعتراف بهم من طرف الدولة لا يعني عدم حضورهم كفاعلين في الحقل السياسي والثقافي المغربي. فالأمازيغ لا يشكلون مكونا اثنيا ذا وزن ديمغرافي هام فحسب، بل إنهم شكلوا على الدوام رقما أساسيا في معادلة الحكم بالمغرب، سواء عبر تحالف هدا الأخير مع العالم القروي الغني بالمكون الأمازيغي أو عبر استقطاب عدد من الرموز الثقافية والسياسية الأمازيغية. غير أن تعامل السلطة السياسية بالمغرب مع الأمازيغ كان دائما محكوما بهاجس صهر الثقافة الأمازيغية مع باقي مكونات الهوية الوطنية المغربية. ولذلك فقد سعت دائما إلى احتواء مطالب الحركة الأمازيغية ضمن إطار ثقافي محض والحؤول دون إعطائها مضمونا سياسيا واضحا. ولعل أبرز مؤشر على هذا الأسلوب في التعاطي مع مطالب الأمازيغ هو إصرار الدولة على عدم الاعتراف بهم كسكان أصليين بل كمجرد جماعة لغوية. ومن هذا المنظور فإن إنصاف الأمازيغ كجماعة لغوية يضع على عاتق الدولة مجموعة من الالتزامات المتعلقة بحماية اللغة والثقافة الأمازيغيتين، وهو توجه عملت الدولة على مأسسته من خلال إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي يحكمه تصور للتعاطي مع الشأن الأمازيغي يتحدد من خلال مرتكزات ثلاث : أولا : اعتبار الأمازيغية أحد أبعاد الهوية الوطنية التعددية كما جاء في الخطاب الملكي يوم 30 يوليوز 2001 بأجدير، وهي تعددية بنيت على روافد متنوعة أمازيغية عربية وصحراوية إفريقية وأندلسية. ثانيا : اعتبار الأمازيغية إرثا ثقافيا ولغويا للأمة المغربية. ثالثا : اعتبار ملف الأمازيغية شأنا خاصا بإمارة المؤمنين لا يمكن أن يشكل مجالا للتنافس السياسي الحزبي. ويتجلى هذا التوجه من خلال اعتبار المعهد أحد الشركاء في تنفيذ السياسات التي يعتمدها الملك في مجال الحفاظ على الثقافة واللغة الأمازيغيتين والنهوض بهما. ويبدو أن بعض الأحزاب التي كانت، إلى عهد قريب، تحتكر تمثيلية الأمازيغ قد فهمت هذه الإشارة وتجاوبت معها إلى حد بعيد، كما يتضح ذلك من خلال تصريح المحجوبي أحرضان أن الأمازيغية لا تهم اتحاد الحركات الشعبية، الذي يشكل حزبه، الحركة الشعبية قطب الرحى فيه. ولتعزيز مقاربتها لطريقة تدبير الشأن الأمازيغي، عملت الدولة على توفير شروط الحفاظ على البعد المدني الثقافي الجمعوي لنضال الحركات الأمازيغية والحيلولة دون مرورها إلى مرحلة النضال السياسي، وذلك عبر تضمين قانون الأحزاب السياسية بندا يمنع تأسيس الأحزاب على أساس عرقي. وبالموازاة مع ذلك اتخذت الدولة مجموعة من المبادرات التي تروم من خلالها إعادة الاعتبار للأمازيغية وذلك عبر إدماجها في المنظومة التربوية. وهكذا فقد بلغ عدد المدارس التي انطلقت فيها برامج تدريس الأمازيغية سنة 2003 عدد 317 مدرسة وهو رقم لم يعرف ارتفاعا كبيرا بعد ذلك إذ لم يتجاوز سنة 2006 عدد 350 مدرسة لا تغطي أكثر من 1% من العدد الإجمالي لتلامذة التعليم الابتدائي بالمغرب. وإلى جانب ذلك عملت الدولة على تعزيز حضور اللغة والثقافة الأمازيغيتين في المشهد السمعي البصري وذلك عبر إحداث قناة أمازيغية شرعت في بث برامجها في نهاية سنة 2009. وعموما فبالرغم من أن الدولة تقدم هذه الخطوات باعتبارها تدابير تشكل جزء من سياسة شمولية لرفع الحيف والتهميش عن الأمازيغية، فإن العديد من مكونات الحركة الأمازيغية تعتقد أن هذه التدابير لا تزال بعيدة عن الاستجابة لطموحات الأمازيغ. فالقناة الأمازيغية ليست في منظور بعض النشطاء الأمازيغيين سوى أداة لفلكلرة الثقافة الأمازيغية، أو بتعبير أحمد عصيد، أداة " لتقديم الثقافة الأمازيغية من منظور غير أمازيغي ". أما فيما يتعلق بتدريس اللغة الأمازيغية فيمكن القول أن إدراجها في النظام التربوي لم يكن نتيجة نقاش عمومي حقيقي حول ما يمكن أن نسميه بالإشكالية اللغوية في المغرب. فإقرار تدريس الأمازيغية بمعزل عن معالجة حقيقية لإشكالية العلاقة بين اللغة والنظام التربوي يفسح المجال أمام الفرضية التي تعتبر هذا القرار مجرد وجه من أوجه التوظيف السياسي للأمازيغية من طرف الدولة. ولعل ما يزكي هذا الطرح هو أن قرار تعليم الأمازيغية تم تصريفه وفق منظور لا يراعي المعايير الدولية في هذا الشأن، وخاصة فيما يتعلق بالفصل 14 من الإعلان حول حقوق السكان الأصليين والفصل 30 من الاتفاقية الدولية حول حقوق الطفل أو الفصل 27 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والتي تنص جميعها على ضمان حق التعليم للسكان الأصليين بواسطة لغتهم الأم.(26) ومن جانب آخر، فإن بعض الفعاليات الجمعوية الأمازيغية لا تزال تؤكد أن المبادرات التي اتخذتها الدولة لم تؤدي إلى إحداث تحول نوعي في طريقة التعاطي مع مطالب الحركة الأمازيغية، كما أنها لم تساهم في تغيير رؤية باقي الفاعلين لكيفية التعاطي مع هذه المطالب، ولعل هذا ما يمكن استنتاجه من خلال الخلاصات التي ضمنتها الشبكة الأمازيغية للمواطنة في تقريرها حول الانتخابات المحلية التي نظمت في يونيو2009. مقاربة بعض مكونات الحركة الأمازيغية : العدالة اللغوية تعني الاعتراف بالأمازيغ كقومية - إذا كانت الدولة المغربية قد حاولت عبر المبادرات المتعددة الأبعاد المشار إليها أعلاه منع تسييس المسألة الأمازيغية والحفاظ على البعد المدني لنضال الحركة الأمازيغية، فإن بعض مكونات هذه الأخيرة لازالت لا تنظر بعين الرضى إلى المقاربة الدولتية للمسألة الأمازيغية، وإلى السقف الذي حددته للاستجابة لمطالب الحركة الأمازيغية، والذي تحدده تركيبة واختصاصات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. ولدلك سيعرف نضال الحركة الأمازيغية تحولا تاريخيا من العمل المدني إلى مرحلة النضال السياسي الذي يعكس تطورا نوعيا في طموحاتها التي لم تعد صيغة العمل الجمعوي قادرة على استيعابها. وإذا كان تأسيس الحزب الديمقراطي الأمازيغي سنة 2005 يعد المؤشر الأبرز على هذا التحول فإن أولى بوادر انتقال الفعل الأمازيغي من المدني الثقافي إلى السياسي سابقة على هذا التاريخ. فقد ظهرت أولى بوادر الانتقال إلى صيغة العمل الحزبي منذ سنة 1998 حينما أعدت بعض الفعاليات الأمازيغية تصورا شموليا لتأسيس الرابطة الديمقراطية للأمازيغيين، غير أن تحفظ ومعارضة بعض المجموعات بدعوى الحرص على عدم تسييس الأمازيغية سيؤجل إخراج المشروع إلى حيز الوجود، في نفس الوقت الذي ستسعى فيه الدولة إلى استقطاب بعض الرموز الأمازيغية لإضفاء الشرعية على مقاربتها للمسالة الأمازيغية. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن النواة الأولى للعهد الملكي للثقافة الأمازيغية تشكلت من المجموعات التي عارضت تأسيس الرابطة الديمقراطية للأمازيغيين مما يؤشر على نجاح آلية الاستقطاب التي نهجتها الدولة وعلى وجود حس استباقي واضح في التعامل مع الشأن الأمازيغي. غير أن قدرة الدولة على حشد الدعم لتصورها لم يكن ليمنع ظهور توجه واضح لدى بعض الفاعلين الأمازيغيين لاعتماد مقاربة سياسية للمسألة الأمازيغية، كما يتضح ذلك من خلال الحزب الديمقراطي الأمازيغي الذي وضع برنامجا سياسيا يستند على عدة أسس لعلها أبرزها هو : - المطالبة بإنصاف الأمازيغية المتضررة. - إعادة كتابة التاريخ المغربي. - إعادة الأراضي المنزوعة إلى مالكيها الأصليين. وإذا كانت الدولة المغربية قد عللت قراراها بحل هذا الحزب بمخالفته لقانون الأحزاب الذي ينص على عدم جواز تأسيس أحزاب على أساس عرقي فإن قراءة متفحصة لبرنامج الحزب وخاصة المرتكزات الثلاث المذكورة تدفع إلى الاعتقاد أن سبب حل الحزب لا يمكن اختزاله في مسالة مخالفة قانون الأحزاب. فتأكيد الحزب على مسألة إعادة كتابة تاريخ المغرب وطرحه لمسألة الأرض والسكان الأصليين قد ضخ في مطالب الحركة الأمازيغية جرعة تسييس تتجاوز بكثير السقف الذي يمكن أن تسمح به مقاربة الدولة. وبعبارة أخرى فإن طرح الحزب لمسألتي الأرض والتاريخ قد تجاوز الخطوط الحمراء، من منظور الدولة، لأنه بذلك يكون قد نقل النقاش حول الأمازيغية من إطار الأمازيغ كمجموعة لغوية إلى إطار الأمازيغ كقومية تنظر إلى نفسها ليس كمجموعة لغوية فقط، وإنما كأمة مستقلة ضمن الدولة القائمة. وتكمن خطورة مثل هذا التحول في طبيعة النقاش حول الأمازيغية، من منظور الدولة، في إمكانية تغذيته لنزعة الانفصال لدى الأمازيغ، ذلك أن المطالبة بالأرض قد تكون مقدمة للمطالبة بحق تقرير المصير على هذه الأرض، خاصة أن بعض أدبيات الحركة الأمازيغية لا تطرح مسالة الحقوق اللغوية والثقافية للأمازيغ في إطار الدولة القطرية المغربية، بل تعطيها بعدا قوميا يتحدد من خلال استعمال عبارة " بلاد تامازغا " التي تحيل على معظم دول شمال إفريقيا إضافة إلى مصر ومالي والنيجر، (مناطق التواجد التاريخي للأمازيغ). وأخيرا، وبصرف النظر عما إذا كان هذا الخطاب القومي يعبر عن الأهداف السياسية الحقيقية التي تقف وراء تسييس الأمازيغية أم أن الأمر لا يعدو كونه مجرد تصعيد نوعي للضغط على السلطة السياسية، فإن طريقة تعامل هذه الأخيرة مع مطالب الحركة الأمازيغية تبقى مرتبطة بشكل كبير بدرجة التحول الديمقراطي للنظام السياسي. فبعض التجارب الأوربية تعلمنا أن الاعتراف باللغات الجهوية مثلا كلغات رسمية كان يسير بشكل متساوق مع القبول التدريجي للدولة بالاعتراف بوجود هذه الأقليات اللغوية كقوميات. ومن هذا المنظور فإن دستور 2011 ، بإقراره دسترة الأمازيغية كلغة رسمية ثانية يكون قد إلى الواجهة النقاش حول تأثير التحولات السياسية في مجال النهوض بحقوق الإنسان وبالخصوص حول حدود تأثير الوضع القانوني والمؤسساتي للغة ما في دعم الحقوق السياسية،الإقتصادية،و الإجتماعية للناطقين بها؟ سؤال يبقى مرتهنا في السياق المغربي لسيرورة النقاش المجتمعي حول سبل تعزيز الاصلاحات التي جاء بها الدستور الجديد وآليات تطبيقه. * أستاذ العلوم السياسية بجامعة إبن زهر بأكادير [email protected]