المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط بنسبة 11 في المائة عند متم شتنبر    إيداع "أبناء المليارديرات" السجن ومتابعتهم بتهم الإغتصاب والإحتجاز والضرب والجرح واستهلاك المخدرات    بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور        قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل المدينة للبيع؟
نشر في هسبريس يوم 20 - 04 - 2021

يتداول في السنوات الأخيرة وعلى نطاق واسع مفهوم "التسويق الحضري" في سياق عالمي خاص ولجت فيه، الحواضر الكبرى وحتى الصغرى دائرة التنافس لاستقطاب رأس المال. وسعيا لخلق فرص العمل انخرطت الدول والجماعات الترابية في هذا التيار بغية إخراج التجمعات البشرية من الأزمة التي ضربت الاقتصاد المحلي والوطني المتجلي في إغلاق المصانع وانتشار البطالة وسيادة الجريمة وتدهور البيئة كنتيجة حتمية لعدم قدرة، الحواضر بالغرب وبجل دول الجنوب، على مسايرة المنافسة القادمة بقوم من آسيا ومن الصين على وجه التحديد.
وبعد سنوات من التراجع على مستوى مؤشر جودة الحياة، اهتدت التكتلات العمرانية الأمريكية، عند مطلع السبعينات، وفي مقدمتها نيويورك، دلاس، مشيغان... لتأسيس لسياسة تسويق لترابها برفع شعارات رنانة اختيرت بعد دراسات مستفيضة واختزلتها عبارات مثل : أحب نيويوك "I♥NY ". وتبعتها مدن أخرى بأوربا برلين"Be Berlin" ، لندن"Lond-on"، ليون "OnlyLyon" ، واللائحة طويلة، ليصل هذا المد لدول الجنوب تدعمه اختيارات الليبرالية الجديدة التي تبحث عن تفادي موت مصالحها بالمدينة عبر التمسك بآليات تدبير حديثة كانت لوقت قريب تستعمل بالمصنع فقط.
سيتم في خضم الصراع بين الحواضر العالمية استعارة آليات تدبير الشأن المحلي من ثقافة سلاسل الإنتاج ومن الطرق المعاصرة لتصريف السلع انطلاقا لما آل إليه التنظيم الإداري العلمي الذي أتى به كل من فردريك تايلور (1911) أو البعد الإنساني الذي ساهم به كل من إلتون مايو (1933) ودوغلاس ماك غريغور(1960). فالتسويق جاء لتجاوز أزمة تصريف المنتجات التي ترتبت عن التايلورية خلال 1930 بحسب الباحث أوين Stwart Ewen .
وسيحقق هذا المجال قفزات مع اجتهادات باحثين آخرين من أمثال جيروم ماكرتي Jerome Mac Carthy بتقديمه للنموذج المعروف باختصار ب 4P (1960)، ميكايل بورترMichael Porter الذي تناول بالدرس والتحليل تنافسية الدول (1993) أو دراسات فليب كوتلرPhilipe Kotler حول التدبير و تسويق الصورة الترابية (1999).
فهل التسويق الحضري هو الحل لتحقيق نمو المدينة؟ أم أنه فقط آلية جديدة لتسويق مفاتن المدينة ومحاسنها في محاولة للبحث عن استقطاب السياح؟ فما هي المنتجات أو الخدمات المسوقة يا ترى في مثل هذه الحالة؟ ما هو دور الفاعل المحلي في إنجاز التصورات على أرض الواقع؟ هل يتعلق الأمر ببيع المدينة في زمن العولمة بالاستثمار الكلي في القطاع السياحي؟ أم أن الهدف من سياسة تجميل المدينة أولا وأخيرا هو الاستفادة من تسييس الجمال بالرهان على تشجيع الاستهلاك وتحقيق مراكز مهمة على مستوى الرقعة السياسية؟
التسويق الحضري وإشكالية استعارة المفهوم
إذا كان التسويق كمفهوم وكممارسة يعتبر وإلى وقت قريب مجالا حكرا على الشركات ورافعة أساسية لتحقيق الأرباح لهم وليس لغيرهم، فإن هذا المفهوم سرعان ما انتقل خلال السنوات الأخيرة ليهم تسويق الحواضر Marketing urbain وليشمل كذلك الجماعات الترابية marketing territorial وانتقل حتى للأفراد أو ما بات يعرف بتلميع الصورة الشخصية أي الاشتغال على الذات كعلامة تجارية Personal Branding. ويحدد برنار كريف Bernard Krief الهدف الأساسي من عمليات التسويق عامة هو " الغزو العلمي للأسواق" من خلال القيام بتحليل وفهم توجهات الزبناء وتقديم خدمة بقيمة عالية لهم وفق استراتيجيات وخطط مناسبة مدعمة بحملات مصممة بعناية. ويعرف مارك بنوم Marc Benoum، في سياق التركيز على الزبناء، التسويق "بمجموعة من العمليات المعتمدة التي تكشف عن الرغبات الظاهرة والباطنية للزبناء المحتملين بغرض إعداد وتفعيل سياسة تستجيب لرغباتهم الكاملة أو الجزئية". بعبارة أخرى فالتسويق كما هو متداول هو "فن البيع" الذي يستعمل آليات علمية للجمع بين الطلب والعرض، بغض النظر عن اختلاف المدارس وقناعاتها، بين التي تشتغل على المشترين المتأثرة بالمدرسة السلوكية أو التي تعطي الأولوية للمنتوج أوالخدمة ودعامتها المدرسة الإدارية.
فالمدينة ستستعير هذا المفهوم من الشركات والمؤسسات الخاصة وستعمل على إنجاز تصورات على نمط الشركات وخطاطة عمل لتبرز مقوماتها كوجهة ترابية جذابة تمكنها من استقطاب المستثمرين والزوار بحسب الأسواق المستهدفة المحلية، الوطنية أو الدولية. فهل تطبيق هذه الآليات التسويقية ممكن بالنسبة للمجال الحضري؟ وإلى أي حد يمكن أن يكون هذه الاقتباس المنهجي دليلا على تحول المدينة كمجال وكمجتمع لمدينة مقاولة قائمة على مبدئي الربح والخسارة؟ الإجابة ليست بالعملية السهلة، تحتاج فعلا لتقييم السياسات المتبعة في هذا الشأن وعلى نطاق أوسع، فالباحثOle B. Jensen لم يخف توجسه من إسقاط تسويق المنتجات والخدمات على التسويق الترابي لعدة اعتبارات نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر: اختزال مفهوم الهوية البصرية للمدينة في أيقونات ورموز دون سواها بحيث يصعب تحقيق إجماع بين الفاعلين المحليين على تصور واحد لتمثيل هوية المدينة.
إلا أن مفهوم تسويق المكان له جذور تعود لنهاية القرن التاسع عشر بأمريكا كما أشار لذلك الباحث ستيفان وورد Stephen Ward في مؤلفه "بيع الأمكنة"، وهي إشارة لعرض المناطق الواقعة غرب الولايات المتحدة الأمريكية على الراغبين في توطينها وقتئذ. وفي أواسط القرن العشرين ستظهر بعض المحاولات لعرض مناطق سياحية بحرية بالبحر المتوسط للترويج بهدف استقطاب السياح من دول أقصى الشمال. وسيتطور التسويق الحضري بالخصوص موازاة مع نمو المجتمع الاستهلاكي وبعد الزلزال الذي عرفته المدن الصناعية بعد أزمة السبعينات وما تلاها من ركود حوَل هذه المدن لأشباح. يمكن اعتبار الانطلاقة الحقيقية للتسويق الحضري مع بداية الثمانينات من القرن الماضي ارتباطا بالدراسات القيمة التي أنجها باحثون أصحاب النزعة الماركسية ومن بينهم دافيد هرفي David Harvey معتبرين التسويق الحضري كمخرج output للتحولات التي باتت تعرفها الرأسمالية بعد توالي الأزمات بالغرب، وكنتيجة لإعادة توزيع الأدوار بين مستويات تدبير الشأن المحلي بالمدن. ويقول دافيد هرفي بصريح العبارة "أن بيع المدينة كمكان للأنشطة مرتبط أشد الارتباط بإنشاء صورة مدينة مستقطبة". تقتضي مرحلة ما بعد الفورديزم حاليا post-fordisme تغيير وظيفة المدينة من مكان للإنتاج بكميات ضخمة لمكان للاستهلاك بكثرة، ولو اقتضى الأمر بيعها كحلم من أجل إقناع سريع للمستثمر والتأثير القوي على السائح.
وهكذا انخرطت الحواضر العالمية الكبرى على وجه الخصوص في الإعداد لاستراتيجيات تسويقية استعدادا للدخول بالمدينة لسوق العرض والطلب. وصار الحديث مع بداية التسعينات من القرن الماضي عن العلامة البصرية للمدينة urbain branding بحيث أصبح الاهتمام بعرض خصوصيات الهوية المحلية دون مراعاة الطلب، أي الانطلاق كما يقول الباحث مارك غرينبرغ M. Greenberg من "الداخل للخارج وليس العكس لعرض مزايا كالهندسة المعمارية وسحر الأزقة...". وقامت عدة مدن ببناء صورة جديدة لها اعتمادا على هذه المقاربة وبنهج إستراتيجية التمييز différentiation و التموقع positionnement لإبراز الخصوصية عبر دعامة تثمين تراثها المادي واللامادي. ويعتبر فاري جيرار Valery Jirard (2003) بأن الكشف عن مقومات الترابterritoire بالإعتماد على المعطيات العضوية للتراب بالجوانب التاريخية والتنظيمية، الاقتصادية، الجغرافية و الرمزية من شأنها أن تساعد على تحديد هوية المنطقة ووضع الإستراتيجية المناسبة لتسويقها. فمن يقوم بإنجاز هذا المشروع الأقرب منه لعالم الشركات منه للمدن؟
بناء الوجهة السياحية ودور الفاعل المحلي
الدافع الأساسي لتسويق المدينة هو جلب السياح لقضاء أكبر فترة ممكنة بها واستهلاك خدماتها ومنتجاتها المحلية واستقطاب المستثمرين لضخ الموارد المالية بإنجاز مشاريع خدماتية تخلق فرصا للشغل. وتسويق المدينة كوجهة للاستثمار أو للسياحة بالقيام بالتأسيس لعلامة بصرية يحتاج لتضافر الجهود من أجل بناء تصور ينخرط فيه الفاعل العام والخاص، السياسي، الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. يمهد الباحث الاجتماعي رايمون بودون Ramond Boudon للفعل بالتمييز بين ثلاثة مراحل عند دراسة نظرية الفعل، فيقول: " أولا وجب تحديد الفاعلين أو مجموعة الفاعلين بحسب موضوع البحث (...)، ثانيا وجب معرفة سلوك الفاعلين (...)، ثالثا يتعلق الأمر بتفسير كيف يمكن للسلوك الصادر عن الفاعلين أن يؤسس للظاهرة موضوع الدراسة." ومن الدارسين من يضيف ضرورة تحديد الإطار العام للفعل. وعلى ضوء هذه العناصر يمكن اعتبار بأن الفاعل المشارك في بناء الخطة الإستراتيجية للترويج للمدينة له مكانته ليس فقط كفرد منعزل كما ذهبت لذلك بعض المدارس السوسيولوجية ذي النزعة الفردية في إشارة لبودون، بل في تفاعل مع باقي المتدخلين كما قعد لذلك الباحث في الاقتصاد هبير سيمون Hebert A Simon. وتطورت هذه النظرية مع مفكرين آخرين وعلى رأسهم مشيل كروزي Michel Crozier وإرهارد فريبرغ Erhard Friedberg.
ونجد بالتالي أنواع من الفاعلين ومن بينهم : الفاعل الاقتصادي الباحث عن الربح بكل الوسائل الممكنة، الفاعل الاستراتيجي الذي يأخذ بعين الاعتبار التدخل بعقلانية، مع العلم أن هذه العقلانية ليست خالصة بل محدودة في تقدير عالم الاقتصاد سيمون، أما الفاعل الملتزم فيشارك انطلاقا من قناعات وقيم تحركه فينخرط في المشروع بحماسة. وبشكل عام فالفاعل يتدخل في مسلسل بناء الصورة الذهنية للمدينة انطلاقا من تمثلاته في علاقة مع بيئته، كما أكد ذلك الباحث الأمريكي كنيت بولدينغ Kenneth Ewart Boulding. وكيفما كانت تمثيلية الفاعل (فرد أو مجموعة)، فهو يشارك بدرجات متفاوتة وفق تعاونه مع باقي الفاعلين بحسب الموارد المستعملة وبحسب ما تمليه المساطر والضوابط التي تخضع لها عملية التسويق الترابي. وبالنظر للمواقف ولتشعب المصالح فإعداد خطة تسويق المدينة وإخراجها للوجود ليس بالتمرين البسيط أو بوصفة سحرية جاهزة، بل غالبا ما يحصل اختلاف حولها وتطفو على السطح صراعات بين الفاعلين تمليها المصالح الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية.
في أغلب التجارب بمدن العالم التي عاشت تجربة إعداد إستراتيجية تسويقية لترابها فالجماعة الترابية وعلى رأسها عمدة المدينة هو الذي يقوم بالتنسيق مع باقي الفاعلين بالاستعانة بمكاتب الدراسات وبخبراء في هذا الحقل، اعتمادا على دفتر التحملات معد لهذا الغرض. وعمليا تشرع المدينة في البحث عن الموارد المالية لإنجاز خطتها في إطار رزمة من المشاريع تستهل غالبا ببرنامج لإعادة تأهيل النسيج الحضري الذي يأخذ بعين الاعتبار استكمال بناء المرافق الضرورية كتوسيع الشوارع وتزيينها. تليها مبادرات تختلف من حاضرة لأخرى مثل إحصاء الرصيد المادي واللامادي وتثمينه، ووضع لوحات تشوير لأهم الساحات والمآثر التاريخية، إنجاز المدارات السياحية، تنظيم مهرجانات منسجمة مع مؤهلات المدينة، وما إلى ذلك من برامج مترابطة ومتداخلة تتطلب المال والخبرات. وتستدعي هذه المشاريع شراكة مع المجتمع المدني بروافده الفنية، الثقافية، والسوسيو-اقتصادية، والرياضية. وإنزالها على أرض الواقع لا يتم بشكل فعال، في زمن العولمة والرقمنة، إلا بمواكبة إعلامية عن طريق قنوات سمعية وبصرية وتواجد وازن على شبكات التواصل الاجتماعي مع التحيين المستمر للبوابة الإلكترونية للمدينة، دون إغفال دور الدرامة والمشاهير في تسويق المدن على نطاق أوسع.
تجميل سياسة المدينة أم تسييس الجمال؟
إن تسويق صورة المدينة ووضع علامة خاصة بها وجب أخذه مأخذ جد ليس فقط على المستوى الاقتصادي بل على المستوى السياسي. فالعملية التجميلية لا تقوي فرص المدينة كوجهة جذابة فقط بل من جهة أخرى تضعف بعض الأحزاب التقليدية كما أكدت على ذلك الباحثة إليونورة بازوتي Eleonora Pasotti بحيث تقول في مؤلفها "سياسة العلامة التجارية بالمدن" Political Branding In Cities الصادر عام 2010 ما يلي: " العلامة التجارية مهمة لأنها تخلق علاقة بين عقل الناخب ( أو المستهلك) بالنسبة للمنتوج (أو لرجل السياسة) فتؤثر على الذاكرة وعلى التقييم." وهذا من شأنه أن يؤجج الصراع السياسي حول ظاهرة العلامة التجارية مما يرسخ المشروعية لجهة معينة أو لتحالف عوض آخر كما ذهب لذلك الجغرافي الفرنسي مشيل لوسو Michel Lussaultفي تجربته عند دراسة صورة مدينة تور الفرنسية. يصبح المخيال عند قاعدة الناخبين مرتبط بالمدينة كعلامة بصرية، وكحلم، وكحدث أبرز يمثل مدينتهم ويضعها بين صفوة المدن. كما جاءت هذه الاستنتاجات متطابقة مع نتائج البحث الذي أنجزته ميريام جرينبرغ Miriam Greenberg حول علامة نيويورك والصادر سنة 2008 نقلا عن الباحث ماكس روسو Max Rousseau (2011).
إن قولة بنيامين المشهورة "تسييس الفن وتجميل السياسة" تجد صداها في هذا المضمار ولها راهينتها بحيث فرض على المدينة في زمن الليبرالية الجديدة نوع من "العنف الرمزي" مما اضطرها للتحول من مدينة منتجة لمدينة عليها أن تتزين كل يوم لبيع مفاتنها للزوار وعليها أن تؤثر في نفوسهم ليعودوا إليها. يقود السياسي هذه العمليات التجميلية باسم الفن حاضرا ومساهما إلى حد ما في تنظيم المهرجانات الفنية الحاشدة للجماهير أو للزوار، فتكتسي السياسة بذلك حلة استعراضية لتأخذ مكانها المتقدم على خشبة الفرجة. ربحت المدينة مع التسويق الانتشار الواسع في أوساط الكتل وهي تجلب السياح من كل بقاع العالم، لكنها فقدت آلياتها الإنتاجية وهالتها كمدينة لمن يسكنها. المنطق الذي يسود مع الترويج للمدينة كعلامة بصرية هو طرحها في السوق للاستهلاك من طرف الجمهور الواسع.
حقيقة تسويق المدينة أو استنساخها في شكل علامة تجارية فرض نفسه لأن منظومة القيم الجمالية المشبعة بالمثالية والرومانسية تراجعت بحسب الباحث في فلسفة الجماليات عبد العالي معزوز، لتحل محلها القيم الاستعراضية. في الوقت الراهن لم تعد الوحدات الإنتاجية قادرة على مسايرة المنافسة القوية القادمة من آسيا، وبالتالي أزيح عن المدينة كل محاولة للتعالي والسمو، ولم يبق أمامها غير الانخراط في العولمة في إطار التشيء الشامل.
بيع المدينة كسلعة بموروثها المادي واللامادي سيترتب عنه تدمير جزء كبير من مكوناتها المعمارية تحت ثقل طلبات المستثمرين الباحثين عن فرص لتشييد دور الضيافة ومطاعم ومعارض على حساب بنايات تاريخية ومنازل عتيقة لها من الجمال ما يأسر القلوب. هذا البعد الجمالي الخاص أصبح بدون غاية أمام توسع ظاهرة الاستطباق التي باتت تعرف في الكتابات الانجلوسكسونية ب gentrification بحيث تحل الطبقة التي لها إمكانيات محل أسر ذوي الدخل المحدود نتيجة لارتفاع قيمة الوحدات السكنية الموجودة بالمدن العتيقة. ينتهي المطاف بهذه الأسر للهجرة أو الانتقال للضواحي في حين تنساق المدينة مع الفرجة والاستهلاك فتنفصل شيئا فشيئا عن البنية المكانية والثقافية المحلية.
خلاصة القول:
تسويق المدينة كعلامة تجارية أثبت فعاليته على مستوى تدبير بعض المدن العالمية التي لم تجد من حل غير الاستثمار فيما هو ترفيهي وتثمين الموروث الثقافي لتقديمه للزوار على شكل حلم. التسويق كآلية مستعارة من الشركات أثبتت نجاعتها في تجارب كثيرة بدول الشمال والجنوب فنقلتها من مدن بأنشطة لها قيمة استعمالية لقيمة استعراضية عن طريق الفنتازيا والإشهار ليتراجع الخشوع وتحل محله الفرجة كما تناولها بالتحليل غي ديبور Guy Debord تحت عنوان مجتمعات الفرجة (1967). الهوية البصرية هي عملية بناء اجتماعي يقوم بها الفاعل المحلي وتعكس خروج المدينة من نطاق التخطيط ودخولها لمنطق الحكامة عن طريق تدبيرها كمشروع مقاولاتي entrepreneuriale ببناء مدينة فوق أخرى. ويلعب عمدة المدينة دورا قياديا لنقل الحاضرة لمكانة بين حواضر العالم المستقطبة للسياح والمستثمرين. وتتأرجح ردة فعل الساكنة بين منخرط في هذا التحول وبين متوجس من غلاء المدينة ومن انهيار منظومة القيم التي عايشوها بالأمس، مما يجعل العلامة البصرية كرمز تصبح مادة دسمة للنقاش بطابع سياسي ويتم التصويت عليها ولو افتراضيا في انتظار التصويت الانتخابي عبر صناديق الاقتراع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.