قبل سقوط حائط برلين بنحو ثلاثين سنة، وبالضبط في الستينيات من القرن الماضي، برز مفهوم الهوية بالعالم الغربي في قالب تناوله الباحثون بالدرس والتحليل اعتباراً للتهديد الذي أصبحت تواجهه الذات المعزولة في مواجهتها للآخر القادم بقوة. إن أزمة 1929 جاءت بنبرة عالمية لا ريب فيها، والحربين الكونيتين الأولى والثانية فرضتا نفسيهما على العالم بتنكرها، تحت ثقل التحالفات الدولية، للجذور المحلية. الصراع لم يعد قَبلياً ولم يعد بين القرية والمدينة، ولو على سبيل الاحتفال أو النكتة، ولم تعد تُجدي الحروب بين دوليتين، بل انتقل النزاع ليأخذ مظاهر أكثر شمولية، بقرار تحكمت فيه هذه المرة الشركات الكبرى. العولمة فرضت نسقاً جديداً يتميز بترسيخ معايير موحدة standardisés في الإنتاج والاستهلاك، ولا تراعي الخصوصيات المحلية إطلاقاً. ترسخت عند بعض المهتمين قناعة بأن المدينة في هذا الزمان، كموضوع وكذات، مطالبة بأن تنصهر في الكونية أو لا تكون. سقوط حائط مدينة برلين كان إعلاناً عن سيادة قطب واحدٍ حتّم على جل الحواضر الانخراط في رهان سُمي ب"العولمة"؛ ما جعل الدارسين يفطنون مبكراً إلى التحول على مستوى الهوية، عنْونتهُ الفيلسوفة الألمانية هانه أرند Hannah Arend، مبكرا ب"أزمة الثقافة" سنة 1960، وصاغته المؤرخة فرانسواز شوي Françoise Choay تحت اسم "رمزية التراث". فهل بروز خطاب الهوية الحضرية، يعني فيما يعنيه، بأن المدينة أصبحت مهددة من الخارج في ظل وجود "مجتمع سائل" أي متحرك، «société liquide" ؟ وهل تثمين الموروث الثقافي بالمدينة ما هو إلا محاولة يائسة لإحياء معالم هي الأخرى أصلاً ميتة؟ هل سعي المدينة إلى إبراز مقوماتها الشخصية يتعارض مع منطق "شركاء في الإنسانية"؟ 1 الهوية في زمن العولمة إذا كانت جذور الهوية كمفهوم تطورت داخل حقول معرفية خاصة كعلم الاجتماع النفسي، والأنثروبولوجيا، والنظريات البنيوية والوجودية التي قادت الباحث إريك إريكسون Erik Erikson لتجاوز مفهوم الفرودي في مؤلفه "الطفولة والمجتمع" الصادر سنة 1950 معبراً عن دور الظروف الاجتماعية في صقل الشخصية، والتي زكاها الباحث فردريك بارث Fredrick Barth سنة 1969 معتبراً الهوية نتاجا للتفاعل داخل المجموعات مستنداً بذلك للنظرية الاجتماعية القائلة ب"التفاعل الرمزي"، كما تصوره عالم الاجتماع إرفين كوفمان سنة 1963 Erving Goffman. فحسب هذا الأخير، فالهوية هي "لعبة تفاعل"، ويعتبرها يورغان هبرماس Habermas Jürgen"فعلا تواصلياً" "Action communicationnelle "، كما اعتبرها من قبلهم ماكس فبير Max weber "إحساس الجماعة بالأصل المشترك". أما بالنسبة إلى بول ريكور Paul Ricœur هي فقط "تدقيق لمعلومات شخصية" التي تتكون عن طريق آلية الحكي والسرد. وارتباطاً بالهوية الفردية، عرف هذا المفهوم قراءة أخرى عند بداية القرن العشرين، مع العلوم الإدارية، وتحديدا عند إعداد بطاقات الهوية الشخصية كشهادة لتحديد خصوصية الفرد المنتمي إلى مجتمع بعينه. وإذا كانت الهوية أصلها اللغوي من ال"هو"، فإن جانبها الذاتي هذا له مقومات أخرى كالأرض، والتاريخ، واللغة، وقسمات أخرى مشتركة تستمد دلالتها من مرجعيات الحداثة والديمقراطية؛ فالهوية ليست ثابتة كما قد يبدو بل متحركة. وفي هذا الباب، يقول رنان إرنست Ernest Renan : "الأمم ليست خالدة فكما بدأوا يوما سينتهون"؛ غير أن الحركية ضرورية أولاً لخلق أرضية للهوية، باعتبار أن العمل كما يقول مندل Mendel هو فعل سلطوي « l'acte pouvoir » يمكن الشخص من السيطرة على شؤون ذاته. ثانيا، الهوية يُمليها علينا الحديث المتوالي عن الذات، ويعتبر أنتوني غيدن Giddens Anthony، في نفس سياق ريكور بأن سرد الأحداث الخاصة والعائلية من شأنه أن يقوي روح الانتماء إلى المجموعة "esprit d'appartenance". ثالثا، فالهوية كقاعدة للحوار مع الآخر هي في جوهرها علاقة تفاعلية بتعبير كوفمان "Soi relationnel" التي تضمن للفرد الحق في الاختيار، مما سيولد عنده حاجة ملحة إلى الظهور. وتخضع المدن والتجمعات البشرية للمنطق نفسه وتوظف مقوماتها لجلب الأنظار إليها والاعتراف بها محلياً، وطنياً، ودولياً. وبات ضرورياً في ظل "المجتمع السائل" تحقيق رغبة الظهور، وهذا ما استطاعت أن تقدمه شبكات التواصل الاجتماعي عن طريق الكتابة، أو استعمال الرموز التعبيرية، أو الأوديو، أو الصورة ، وهذه الأمور، وكل يعلم الجميع، تتم بواسطة نقرة بسيطة. على أي شكلت سنوات الستينيات منعطفاً حاسماً في التقعيد لمفهوم الهوية تجسد بقطيعة الإنسان المهاجر لعائلته، ولموطن الميلاد والنشأة، ما عبر عنه ب"faire sa valise " ، وما يصاحب ذلك من إشكاليات الاندماج في مجتمع الاستقبال، وحتى في بعض الأحيان الاضطرار لإنكار الأصل، أو الاحتماء داخل مجموعة الأقليات، والعودة إلى الدين بشكل مبالغ فيه، والتقوقع على الذات. على أي انطلقت نقاشات الهوية في الولاياتالمتحدةالأمريكية كموضوع للبحث، وكحق ثقافي للأقليات الحديثة العهد بالهجرة، لينتشر هذا المفهوم بعدئذ بأوروبا، وبالعالم بأسره. وبالنسبة إلى المجتمع العربي ربطتِ الدراسات التي تناولت أزمة الهوية بين دخول الاستعمار الذي فرض نمطه الخاص على الشعوب المحتلة، وأنشأُ مدينته بمقاييس أوروبية صرفة أدخلت المجتمع لأزمة الثنائيات بين الأصلي والعصري، بين المدينة القديمة والجديدة. في حين ربطت أبحاث أخرى أزمة الهوية بهزيمة 1967 التي جسدت الصراع مع الآخر، مع "الهو" وليست مع الأنا "Je". من هنا، شرعت أمريكا بقول محمد عابد الجابري في "العمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً بعينه هو الولاياتالمتحدةالأمريكية بالذات على بلدان العالم أجمع"، ما يعرف بعولمة الثقافة، والانتصار للكونية "القرية الوحيدة"، بدل الثقافات المحلية. 2 الهوية والموروث الثقافي الهوية بدلالاتها الفعلية حالياً ليست عفوية ليست تعبيرات "طبيعية" هي بناء تصنعه فعاليات محلية سياسية واجتماعية، واقتصادية في زمن العولمة كما تقول هلين كاردي Hélène Cardy، أو كما يقول شارل بوفي Charles Bové" المدينة تتطلب أن تكون جميلة، وأن تختلف عن جارتها"، بمعنى أن تبرز خصوصيتها وتفرض بصمتها انطلاقا من مؤهلاتها الطبيعية، الثقافية، والاجتماعية «la ville a nécessité de se faire belle, de se rendre différente de sa voisine » . أصبحت الهوية في ظل الظروف الدولية الراهنة موضوعا سياسيا أو ذاتا حائرة عليها أن تجد موقعا وسط المدن الأخرى، وبسرعة، وبشكل مصطنع، في ظل واقع يغلب عليه التنافس الحاد بين المؤسسات، والمدن، وحتى الأشخاص. المسلك الوحيد الذي أمامها هو موروثها الثقافي المادي واللامادي، والطبيعي كذلك الذي قد يمكنها من استرجاع بريقها، وهذه عملية جراحية تجميلية ظاهرها صيانة ذاكرة الأجداد، وجوهرها تسويقي تحت شاعر "تواصلي". والعملية التجميلية لا تخلو من إشكالات ورهانات إيديولوجية، وانتخابية خدمة لطموحات سياسية. إلا أن علاقة الهوية بالتراث علاقة متلازمة معقدة تستمد مشروعيتها من مدى انسجامها كخطاب مع الذاكرة الجمعية، ومع مرجعية القيم المشتركة. لا يكتمل البناء العام إلا بتجسيد انتماء المجتمع المحلي لموروث ثقافي مشترك الذي يحتاج لفعل مؤسس في الزمان والمكان "Acte fondateur" ، وعلى الأرض لأن التراب مهم كما يقول الباحث غي دي ميو Guy Di Méo لمسك التراث ونقله للأجيال المقبلة. فبحسب هذا الأخير هي "علاقة ترابية من الأسفل، (أي معاشة ومشبعة بالإحساس)، في مقابل علاقة من الأعلى بطابع مجرد إيديولوجي وسياسي". إلا أن عامل الأرض أصبح يفقد أهميته بحسب بعض الدراسات بالنظر إلى تطور وسائل التواصل الاجتماعي، مما قد يخفف من تعميق الخلافات الإيديولوجية؛ لكن الملاحظ هو أن الأرض ثابتة، وبناء الهوية الجماعية للمدينة يُوسع من حدودها الترابية لتخترق قرى محيطة أو مناطق جبلية واسعة. يصعب، في هذا السياق، على المدينة الصغيرة والمتوسطة أن تحدد هويتها بالركون إلى فضائها الحضري فقط، كما هو الحال بالنسبة إلى الحواضر الكبرى métropoles، لأن ديناميتها في الماضي ونشاطها الاقتصادي في الحاضر لا يمكن فصله عن المجال الريفي المحيط بها والذي تتعايش معه بشكل يومي، مما يتطلب مراعاة هذا المعطى عند التقطيع الترابي، وعند تحديد الاختصاصات والصلاحيات. في السياق نفسه وجب وضع في الحسبان بأن نسباً مهمة من نخب هذه الحواضر ينحدرون من البوادي المجاورة؟ وحتى وإن سلمنا بنهاية القرية كما تقول فرانسواز شوي وانتشار المد الحضري في كل بقاع الأرض، فكيف للموروث الثقافي أن يصمد في وجه نمط الاستهلاك الحضري الجديد، والذي اختزله عالم الاجتماع لويس ويرث Louis Wirth في مفهوم التحضر المنتشر "urbanisation diffuse" الذي يوحد نمط استهلاك حضريا حتى بالبادية؟ أما تدبير العلاقة المتناقضة بين هوية المدينة وماهية الطبيعة فيتم عن طريق بدائل السياحة الإيكولوجية والثقافية شريطة إدراج المجال الطبيعي في محميات معترف بها محليا ومن طرف المنظمات الدولية. على أي، في زمن التراث الشامل "بإمكان لأي شيء أن يصبح تراثاً، وأي مكان يمكن أن يصير ترابا territoire ، شريطة أن يكون هذا وذلك في علاقة طابعها اجتماعي، وتواصلي"، على حد قول كلود رافستا 1980 Claude Raffestin ، وهو بالمناسبة باحث في الجغرافيا . تحويل المدينة إلى متحف مفتوح يعطي الأسبقية بطبيعة الحال للسياح على حساب الحياة العادية للسكان، ويؤدي إلى ارتفاع في الأثمان وإلى المضاربات داخل المدن العتيقة وما يصاحب ذلك من تحويل المساكن إلى دور للضيافة، مما يعطي الانطباع بأن الترويج للمحافظة على التراث تتحكم فيه فعاليات برؤية نخبوية vision élitiste في غياب مشاركة حقيقية من طرف السكان. لقد أدى هذا الوضع في العالم إلى مقاومة الساكنة احتجاجاً مثلا على تغيير اسم مدينتهم، وجنح البعض منهم إلى مقاطعة مهرجان يعتبرونه لا يعبر بصدق عن موروثهم، ومنهم من انتقد بشدة حملات إشهارية ترويجية غير منسجمة مع تصوراتهم، في غياب الإشراك الحقيقي لهم. وهذا أمر يتضاعف في الآونة الأخيرة بالنظر إلى تنوع الخصوصيات الترابية داخل المدينة الواحدة؛ فكل حي له شخصيته، وساكنة اليوم مع إكراهات العولمة تطالب بحقها في الاحتفاظ برموز الأمس حتى لا تفقد البوصلة. إن نقل السؤال من "كم نحن؟" إلى "من نحن؟" من شأنه أن يبعثر الأوراق لأكثر من فريق؛ لأن الموضوع متعلق بالإرث، بالموروث، بالهوية، وبالحق في المدينة للأجيال الحالية والمقبلة؛ فموضوع الهوية بمظاهرها التراثية الانتقائية، وكما أكدته دراسات بالغرب والشرق، له طابع مقدس ديني وتاريخي لا يمكن إغفاله، بحمولة عائلية اجتماعية وازنة، ووطنية ترابية حاضرة لصد التأثيرات الخارجية. عملية بناء الهوية وانتقاء أشياء من الماضي هي في مجملها عملية جراحية معقدة يقوم بها السياسي بحجة إنقاذ المدينة من الهلاك. تنساق القناعات السياسية إما مع ضرورة المحافظة على ثوابت الماضي les conservateurs، أو الانصهار مع الحداثة les démocrates et progressistes ، أو السعي إلى الوسطية بمعنى تثمين الماضي والانفتاح على المستقبل. والمدينة بمن فيها تتقاذفها الأمواج وسط هذه التيارات الدافعة للأمام والمتراجعة إلى الوراء إلى الماضي التليد، والمترددون كثر خصوصا والعولمة الزاحفة بقوة لها خطاب واضح، شامل، وصريح، وفي الوقت نغسه مقلق وهو تحويل المدينة إلى امكان للاستهلاك وليس للإنتاج، كما كان الحال بالأمس القريب. 3 المدينة مكان للاستهلاك إن العولمة لم تترك الفرصة للباحث حاليا أن يواكب ما يجري؛ لأن الأحداث تأتي سريعة وشمولية، لولا الدراسات التي أُنجزت في الوقت المناسب في مطلع الستينيات من القرن الماضي وسمحت بالفهم لما يحصل الآن، والكلام عن الدراسات الغربية، دون نسيان حقيقة ما قدمه في وقته كل من محمد عابد الجابري ومحمد أركون ومحمد عمارة وحسن حنفي وأدونيس عبد الله العروي وعائشة عبد الرحمان على سبيل المثال لا الحصر، وهم الذين تناولوا بالدرس والتحليل مواضيع كالعولمة والهوية الثقافية والتراث وإشكاليات الحداثة والتجديد في المجتمعات العربية والإسلامية والعلاقة بالوافد الغربي المتسلح بالدراسات الاستشراقية. مع العولمة جاءت النقلة مستفزة ومباغتة كامتداد لاكتساح الرأسمالية لكل أنماط الإنتاج السائدة، فأعطيتِ الأولوية للشيء على حساب الإنسان، والبضاعة بدل العامل، وجودة الشركات العملاقة على حساب جودة البشرية. وفي هذا الباب، يقول الباحث دافيد هارفي David Harvey بأن الليبرالية الجديدة عبثت بجودة الحياة وحولت الحواضر إلى مجال للاستهلاك. وتعمقت جراح الأفراد أكثر بضياع الخيط الرابط بالهوية، المعبر عنه بالأنومي، وأصيبت القيم والأعراف والقوانين بالضعف والوهن لتسود معها حسب عالم الاجتماع المعروف إميل دوركايم حالة من القلق المؤدي إلى الانتحار. في غياب الأعراف وحضور الحرمان بكل تجلياته الوجدانية والفزيلوجية، من سيضع القوانين لحماية المدينة من تحويلها إلى "سوق ممتازة"؟ فمن يضمن لسكانها الحق في السعادة؟ هل النخب الحالية، وسط هذه التحولات قادرة على الوقوف جنبا لجنب مع الساكنة وتقديم الخدمات الاجتماعية مع الحفاظ على الخصوصية المحلية؟ هل تجميل المدينة وسيلة لإدخال المدينة إلى قانون السوق الدولي؟ الموجود في الوقت الراهن دعوة أطلق عليها غي ديبور Guy سنة 1967 "مجتمع الفرجة" فرق من خلالها بين نموذجين اثنين: الأول نموذج أمريكي يصبح فيه المواطن مستهلكاً فقط، والنموذج الثاني يسود بالخصوص في المجتمعات الديكتاتورية ذات الحزب الوحيد، الخيار هنا هو خدمة الزعيم مع الاستهلاك إن وجد المواطن الوسيلة لذلك. المشترك بينهما هو طابع السرية في كل العمليات، مع محو معالم الماضي، وكما يبرر ذلك غي ديبور بالقول متحدثا عن دور الإعلام: "يصبح النقاش عقيماً"، بل شريكا في البهرجة "rendant futile et stérile tous les débats"، لينقسم بالتالي المجتمع إلى قسمين: المناورون المحتالون من جهة، والمغرر بهم، أي الضحايا من جهة أخرى. فكيف السبيل للمدينة بأن تحتفظ بشخصيتها أو تطالب بضرورة صيانة موروثها الثقافي من الضياع؟ ومن سيقوم بذلك، أين هو الفاعل؟ استشرافا لمستقبل المدينة يمكن استحضار مجهودات منظمة اليونسكو المشجعة على حماية التراث الثقافيّ والطبيعيّ من خلال الاتفاقيّة الدوليّة لعام 1972 والموروث اللامادي لسنة 2003، ونصت البنود صراحة بضرورة مشاركة المواطنين في صيانة معالم الحواضر والحفاظ على الموروث المشترك. مجمل القول المعالم متغيرة والبحث عن الهوية مستمر في زمن العولمة، وهي عملية معقدة لاعتبارات كثيرة؛ وعلى رأسها سيادة القطب الواحد والوحيد بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وسعي الليبرالية المتوحشة إلى تنميط العالم بمعيار واحد وإدخاله في نفس القالب. لا يسمح هذا التنظيم الجديد بإبراز الخصوصية والهوية المحلية، بل له وسائل مجندة لإبطال الحق في تحقيق الذات، لتسيطر كما سبق أن أشار إلى ذلك الفيلسوف مارتان هيدغر Martin Heidegger سيطرة ديكتاتورية "الهو" ON، واختفاء الأنا "Je". والمدينة، باعتبارها التجمع البشري الأكثر انتشاراً في العالم، لا يحق لها أن تقول: ها أنا، ما دامت تحت سيطرة العولمة، وما دام التراث، أو الإرث به طابوهات، ينتهي الصراع في نهاية المطاف باستحواذ المحتال "الشركات العملاقة" على حصة الأسد. المدينة الصغيرة تقاوم وتعيش على اقتصاد السكنى Economie résidentielle وعلى التضامن، وتشترك مع العولمة في استغلال التكنولوجيات الجديدة لجلب ما بقي في العالم من الحالمين والمسالمين، وتنتظر فرصتها لتحلق. يقول المعلم غاندي حكمة بليغة مضمونها، ونحن بصدد الكلام عن الهوية في زمن الشمولية، حاجتنا اليوم أكثر من وقت مضى إلى "الجذور والأجنحة معاً"، « Des Racines et des Ailes » ويمكن التعبير عنه بالفرنسية وبصياغة أخرى تجمع بين : "un soi solide et un soi liquide". *باحث