توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    مهنيون يرممون نقص الثروات السمكية    مدرسة التكنولوجيا تستقبل طلبة بنصالح    جماعة طنجة تصادق على ميزانية 2025 بقيمة تفوق 1،16 مليار درهم    المغرب يعتبر نفسه غير معني بقرار محكمة العدل الأوروبية بخصوص اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري    إقليم تطوان .. حجز واتلاف أزيد من 1470 كلغ من المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك خلال 4 أشهر        منتدى الصحراء للحوار والثقافات يشارك في الدورة الثانية من مناظرة الصناعات الثقافية والإبداعية    خطاب خامنئي.. مزايدات فارغة وتجاهل للواقع في مواجهة إسرائيل    التعادل ينصف مباراة المحمدية والسوالم    مصدرو الخضر والفواكه جنوب المملكة يعتزمون قصْدَ سوقي روسيا وبريطانيا    أساتذة كليات الطب: تقليص مدة التكوين لا يبرر المقاطعة و الطلبة مدعوون لمراجعة موقفهم    مغاربة يحيون ذكرى "طوفان الأقصى"    هكذا تفاعلت الحكومة الإسبانية مع قرار محكمة العدل الأوروبية    قرار محكمة العدل الأوروبية: فرنسا تجدد التأكيد على تشبثها الراسخ بشراكتها الاستثنائية مع المغرب    ثلاثة مستشفيات في لبنان تعلن تعليق خدماتها جراء الغارات الإسرائيلية    إعطاء انطلاقة خدمات مصالح حيوية بالمركز الاستشفائي الجامعي الحسن الثاني ودخول 30 مركزا صحيا حضريا وقرويا حيز الخدمة بجهة فاس مكناس    وزير خارجية إسبانيا يجدد دعم سيادة المغرب على صحرائه بعد قرار محكمة العدل الأوربية    ريدوان: رفضت التمثيل في هوليوود.. وفيلم "البطل" تجربة مليئة بالإيجابية    مسؤول فرنسي: الرئيس ماكرون يزور المغرب لتقوية دعامات العلاقات الثنائية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    امزورن.. سيارة ترسل تلميذاً إلى قسم المستعجلات    المحامون يقاطعون جلسات الجنايات وصناديق المحاكم لأسبوعين    مرصد الشمال لحقوق الإنسان يجمد أنشطته بعد رفض السلطات تمكينه من الوصولات القانونية    صرف معاشات ما يناهز 7000 من المتقاعدين الجدد في قطاع التربية والتعليم    تسجيل حالة إصابة جديدة ب"كوفيد-19″    بوريس جونسون: اكتشفنا جهاز تنصت بحمامي بعد استخدامه من قبل نتنياهو        باريس تفتتح أشغال "قمة الفرانكفونية" بحضور رئيس الحكومة عزيز أخنوش    فيلا رئيس الكاف السابق واستدعاء آيت منا .. مرافعات ساخنة في محاكمة الناصري    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    الجماهير العسكرية تطالب إدارة النادي بإنهاء الخلاف مع الحاس بنعبيد وارجاعه للفريق الأول    إيقاعات ناس الغيوان والشاب خالد تلهب جمهور مهرجان "الفن" في الدار البيضاء    اختبار صعب للنادي القنيطري أمام الاتحاد الإسلامي الوجدي    دعوة للمشاركة في دوري كرة القدم العمالية لفرق الإتحاد المغربي للشغل بإقليم الجديدة    لحليمي يكشف عن حصيلة المسروقات خلال إحصاء 2024    الدوري الأوروبي.. تألق الكعبي ونجاة مان يونايتد وانتفاضة توتنهام وتصدر لاتسيو    النادي المكناسي يستنكر حرمانه من جماهيره في مباريات البطولة الإحترافية    التصعيد الإيراني الإسرائيلي: هل تتجه المنطقة نحو حرب إقليمية مفتوحة؟    ارتفاع أسعار الدواجن يجر وزير الفلاحة للمساءلة البرلمانية    الاتحاد العام لمقاولات المغرب جهة الجديدة - سيدي بنور CGEM يخلق الحدث بمعرض الفرس    الفيفا تعلن تاريخ تنظيم كأس العالم للسيدات لأقل من 17 سنة بالمغرب    الفيفا يقترح فترة انتقالات ثالثة قبل مونديال الأندية    وزارة الصحة تكشف حقيقة ما يتم تداوله حول مياه "عين أطلس"    تقدير موقف: انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي وفكرة طرد البوليساريو "مسارات جيوسياسية وتعقيدات قانونية"    عزيز غالي.. "بَلَحَة" المشهد الإعلامي المغربي    آسفي.. حرق أزيد من 8 أطنان من الشيرا ومواد مخدرة أخرى    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المقامات العشر في استتاب أحمد التوفيق قبل الحشر
نشر في هسبريس يوم 18 - 08 - 2008


الجزء الأول
1-
شُؤونٌ تستدعي شُؤونا.. ""
قفز اسم أحمد التوفيق إلى الساحة السياسية في بداية هذه الألفية بتحصليه لحقيبة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، بعد أن كان معروفا في أوساط الباحثين في التاريخ الوسيط والمعاصر بأبحاثه وتحقيقاته لبعض المتون الصوفية خصوصا.. وكان قبل نائبا لقيدوم كلية الآداب فمديرا لمعهد الدراسات الافريقية فمحافظا للخزانة العامة بالرباط ثم مديرا لمؤسسة آل سعود بالدار البيضاء.. تلك كانت بداية البداية للتوفيق في الحياة العامة بالمغرب وقد جمعته مع المرحوم الأستاذ محمد حجي علاقة صداقة وعمل.. تولى التوفيق إذن مهمة تسيير شؤون وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي يكتب كثير من المشارقة همزتها فوق الياء "شئون" فيما احتفظ التوفيق بهمزتها فوق الواو "شؤون" وفي لسان العرب:"الشَّأْنُ: الخَطْبُ والأَمْرُ والحال، وجمعه شُؤونٌ وشِئانٌ والشَّأْنُ: مَجْرى الدَّمْع إلى العين، والجمع أَشْؤُن وشُؤون. والشؤون: نَمانِمُ في الجَبْهة شِبْهُ لِحام النُّحاس يكون بين القبائل، وقيل: هي مواصِل قبَائِل الرأْس إلى العين، وقيل: هي السَّلاسِلُ التي تَجْمَع بين القبائل. الليث: الشُّؤُونُ عُروق الدُّموع من الرأْس إلى العين." ترى هل جرت شؤون الوزارة على التوفيق شؤون العين المقصود بها أدمعها لتوالي النِّقم لا المِنَح عليه من كل جانب..؟
-2
القول الأوّاه
في عدم تحصيل الوزير للدكتوراه
يبدو أن تحلية "الدكتور" من ضمن التحليات التي يحلى بها التوفيق في وزارته أو يلقب بها من دون حيازة هذه التحلية او اللقب أو الرتبة العلمية من الناحية العملية. فالتوفيق وإن كان منجزه العلمي ذا بال فإنه لم يحصل على شهادة الدكتوراه إلى الان وهذا مما يجهله كثير خَلا زملائه وطلبته ومعارفه.. فالوزير وإن كان ناقش دبلوم الدراسات العليا المعمقة في التاريخ عن موضوع "إينولتان، المجتمع" فإن موضوع أطروحته "الإسلام في المغرب من 92ه إلى 292ه" ما زال شاغرا لمن أراد الاشتغال به، بمعنى أنه لم يناقش بعد منذ مدة طويلة، ومن ثم فإن السيد الوزير لم يكن يوما دكتورا رسميا وإنما كان تحليته بذاك اللقب من باب تسمية الوزراء بغير مسمياتهم، والدليل على أن الدكتوراه منيةُ الوزير في هذا المقام الغير الصوفي لا غنيته هو عدم إشرافه الفردي على أطروحات الدكتوراه المناقشة بالكليات المغربية، خصوصا بكلية الرباط، إذ كان إشرافه عليها دائما مزدوجا أي بمعية أستاذ حاصل على الدكتوراه.. وبناء عليه، فإن الوزير غير ذي دكتوراه في التاريخ أو غيره على الرغم من تحليَّته كذلك، فليتنبَّه إلى هذا الأمر رحمكم الله.
-3
تنبيه المغترّين
إلى بدعة وجود التلفزيون في مساجد المسلمين
كان الفقيه المغربي متربصا بالمستحدثات التقنية والتجارية في المغرب في التاريخ المعاصر، فقوّم عددا منها في فتاويه ونوازله وأجوبته الكثيرة التي أتى بأمثلة عنها علاّمة المغرب سيدي محمد المنوني رحمه الله، ومن ذلك التلغراف والتلفون وطاموبيل وفونوغراف (ماكينة الكلام) والراديو والمكَانة (الساعة المحمولة) المحلاّة بالذهب.. وبعض المواد التجارية كالشاي والسكر والجُبن والدجاج الرُّوميين والأدوية والزيت والتبغ والكاغد الرومي وصابون الشرق والملف والحرير وقلنسوة النصارى (البرنيطة) وصندوق النار وشمع البوجي.. ولعل نخبة الفقهاء كانت ناظرة إلى الحادث من حيث كونه صنيعة كفرية بيد الكافر الأجنبي عدوّ الدين بمعنى أنها نَجَس.. أو من حيث نقضها لركن من الدين قائم، أو يمكن أن يكون ذلك دلالة على مواكبة النخبة للحادث وتفحصّه بعين الفقيه النوازلي الأصولي النظّار.. ومن ثم فلا يمكن بحال وسم هذه النخبة بمجابهة الحداثة.. وهَبْ أنهم كذلك، (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ.) البقرة: 148.
ومن اصطلاحات الفقهاء المتداولة في نوازلهم عبارة "عموم البلوى" أي إن شيئا ما عمت به البلوى في زمان ما.. وللأسف الشديد فإن الولوج اليسير لجهاز التلفزيون إلى المسجد لم تواكبه نازلة واحدة بَلْهَ نوازل كثيرة تقوّمه وتُفصّل في حكمه الشرعي.. فماذا يا ترى سيقول أحد علماء المغاربة المالكية عن هذه البلوى لو تحققت في زمانهم؟ ما تُرى التاوديَّ ابن سودة ومحمد بن جعفر الكتاني وأبا الإسعاد الفاسي والمسناوي والعباسي وبردلة والونشريسي.. يقولون.؟ وما تراهم يسوّدون ويبيّضون في نوازلهم.. إزاء ما تقدم؟ وإنها لعمري منقبة يا لها منقبة لو انصرفت طائفة من علماء المغرب لتجويز دخول التلفزيون إلى المسجد ومكوثه به أو عدم تجويز ذلك.. فلنُمثِّل لما ذهبنا إليه بهذه العنوانات التي ليست بالضرورة مؤلفات، ولا توجد في أي من الخزائن الدانيات أو القاصيات:
1. كشفُ النِّقاب، عن هتك التلفزيون بالجامع لأستار الحجاب.
2. نَيلُ الأرَب، في النَّكير على صُندوقِ العَجَب.
3. القول الفصل، في الافتتان بالتلفزيون لمن ليس له خَصْل.
4. المرشد الجامع، في كراهة الصندوق العجيب بالمسجد الجامع.
5. دلالة الحائرين، إلى ردّ أقوال المغترين، بجواز صندوق العجب في مساجد المسلمين.
6. جواب في مسألة استعمال التلفزيون والنظر إليه ومشاهدته في المسجد.
7. رسالة في التلفزيون وما إليه.
8. نازلة في ظهور الآلة العجيبة المسماة بصندوق العجب في جوامع المغرب الأقصى.
9. الإعلام، بما يتعلق بالتلفزيونات من الأحكام.
10. رفع الإلباس، وكشف الضرر والباس، عن مسألة صندوق العجب الذي وقع الخوض فيه بين الناس.
لكنَّ وُكْدَنا لم نُلْفِهِ ها هنا، ولا مناص من تَكرار كبير أسفنا.. على أن دخول هذه الآلة العجيبة المسماة في المغرب ب "صندوق العجب" في الستينيات زمان الأبيض والأسود فالبث الملّون ثم الانفجار الفضائي الآن (سنة 1428ه/2007م) استوطنت المساجد بعناية الوزير التوفيق، فاقتُنيت آلاف الأجهزة العجيبة ووُزّعت على عدد من مساجد البلاد؛ لم تكن مساجد إلا من حيث الاسم لا العمران والاعتناء.. فأخذ الجهاز العجيب موضعه قرب المحراب أو فوقه أو بجانبه وشيكا.. فصار واعظا بدل الواعظ ومرشدا بدل المرشد وربما إماما بدل الإمام.. فكان الناس ما بين مستغرب ومنكر وضاحك وغاضب ومكبّر ومحوقل.. (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) آل عمران: 140. ومن هنا استُهل الدخول الرسمي للتلفزيون إلى المساجد.. فكانت المُلح والقصص والأساطير عنه جمّة بَلْهَ الحقائق المطَّردة المحزنة.. فمن المصلّين من هوى على أُمِّ رأسه فشجّه كما لم يشجَّهُ أحد من قبل.. ومن القيِّمين عليه من سها عنه فانتهى الوعظ لتصدح الموسيقى، ومنهم من أطفأ أزيزه فارتاح من همّه.. ومنهم كثير.. ولله في خلقه شؤون.
الواعظ التلفزيوني من القيمة بمكان لا يطعن في علمه وحِلمه واستبحاره و.. لكنّي استمعت إليه فأعجبني بخلابته لكن مسألة استشكلت عليَّ بَيْنا أنا جالس بين المصلّين أنتظر الصلاة فجهدت في إيجاد سبيل لسؤال ذاك الواعظ القاصي الداني لكنّيَ لم أفلح.. تُرى كيف سيُسأل ذاك الواعظ؟ وكيف سيُستفتى؟ ثم كيف سيجيب إن كان لا يسمع..؟ ومرّت الأيام وأتى على التلفزيون (حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً) الإنسان:1. وكأني بالتلفزيون ينشد:
أَورَدَها سَعدٌ وَسَعدٌ مُشتَمِلْ * ما هَكَذا تُورَدُ يا سَعدُ الإِبِلْ

مجموع الطُّرَف والمُلح الرّائجات
عن مراقبة الأئمة للمساجد بالدرّاجات
"هذه من المشروعات العجيبة التي تفتقت عنها عبقرية الوزير، والحق يقال فهي ذات بال، ولا يتنازع حولها اثنان. ذلك أن تجديد الإمامة والأئمة، والإرشاد والمرشدة (وليست هي مرشدة الهدي بن تومرت) من ضرورات زماننا هذا. فبعد تخرّج الأفواج الأولى من الأئمة والمرشدات، ولَوكِهِمْ أمام التلفزات، لما حفظوه وحصَّلوه، وقرّ في أذهانهم، على رغمهم، مما غدا كلاما مكرورا ذلك هو: المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والسلوك السني.. وإنما يَلوكون ذلك استضعافا وخشية تهديدات الوزير المذكور الذي حذّر بعض أفواجهم، في أول لقاء بهم، من أن الطاعن في دِعامة اليقين هذه، لا حَرج في أن يتركنا، من دون الحاجة إلى مُصانعتنا.. وكأني بهؤلاء الطلبة المساكين، يوافقون ويُدارون ابتغاء الرزق الدائم لا ائتلافا مع كلام الوزير ولا اختلافا.. هذا، وقد تخرَّج الفوج الأول، واستبشر الوزير وبطانته بقرب الفتح المبين، في مجال الدين، ولم تَكُ تلك الأيام إلا بداية المحنة، ثَمَرةً لضَعف الهمّة، فلم يلقوا إلى الأئمة بالا، ولم يحددوا لهم وظائف بل كانوا وبالا، والعلّة في ذلك كما يُشاع في أحيان، انتماءُ عمومهم إلى جماعة العدل والإحسان، فأُرسِلُوا إلى مندوبيات الأوقاف بالمدن الدانية والقاصية، وكان الجميع هنالك في غُنية عنهم، مما اضطرهم إلى الاشتغال بقراءة الجرائد وشرب الأتاي رغما عنهم، إذ لا عمل حُدّد لهم سَلفا، ولا منهاج يتخذونه خَلفا، وهم في الغالب الأعم مستضعفون، لأنهم في حقيقة الأمر متعاقدون (ويعني التعاقد في الملة المغربية الآنية الاشتغال مع ربّ العمل بعقدة يفسخها متى شاء)، فضاعت أموال البلاد بسبب قلّة تصرُّف العباد، والحديث في هذه البلوى ذو شجون، ولله في خلقه شؤون.
لَطيفة: زعموا أن ببلاد المغرب الأقصى طائفة من الذين يُسَمَّون أئمة، وهم الذين تخرجوا من مدرسة الأئمة، كانوا بلا شغل شاغل شطرا من الزمان، فرقّ فؤاد الوزير لمرآهم، ووَجَد الحل الأمثل لما حلّ بهم، فأمرهم بمراقبة نظرائهم من الأئمة في المساجد، ووجّه لهم لابتداء مهمتهم دراجات من التي تفرقع في سيرها، ولابد من الوَقود لمشيها، والتي تُسمّى في عُرف المغاربة "المُوتُور". فكان أن عمت الفرحة الأئمة زرافات، الذين تعبوا من ركوب الحافلات الرائحات والغاديات، فقد آن لهم أن يستفيدوا هم أيضا من بعض المِنَحِ الآتية من العاصمة، وصاروا يَدعون للوزير على الرَّغم من بلواهم القاصمة. فالدرّاجة أُرسلت إلى كل واحد واحد باسمه، واستعملوها في قضاء مآربهم، وإنها لعمري منقبة يا لها منقبة! ولكن لا ينسيَنَّ الواقف على هذا المكتوب، أن الغرض من إرسال الدراجات ليس بالطبع خدمة الأئمة والتخفيف عنهم، بل مبتغى الوزير المذكور مراقبة أئمة المساجد وتتبعهم في صلواتهم وخطبهم، ووعظهم وإرشادهم، وشهيقهم وزفيرهم.. فكأني بالإمام صاحب الدراجة صار شرطيا من دون بذلة، يرفع التقارير السرية ويسوّد المحاضر المبتذلة..
فَكَيفَ يُراقِبُ الإمامُ الإماما * ولم يكُ ذا مِنْ شِيَمِ الشَّرعِ لا وَلاَ
رَجْعٌ: ومادام الأمر على هذه الحال فلنرجع العنان إلى مقصدنا الذي هو ذكر جملة من الطُّرف والملُح الرائجات، عن الأئمة المراقبين لأئمة المساجد بالدراجات، مع التنبيه إلى أننا لسنا ممن يطعن في أئمتنا الكرام، الحاملين لواء الشريعة بالتمام:
حَاشَا للّه ليس منِّيَ شَيْءٌ * في ذُرَاه العَفِيِّ بالمكْدُودِ
وإنما قصدنا بهذا المكتوب التفكّه ووصف الحال والمآل، لا تَصَيُّد النقائص والمثالب وما إليها من الشوارد والضوال..."
تنبيه: انتهى ما وُجد كما وُجد من كتاب "مجموع الطُّرَف والمُلح الرّائجات، عن مراقبة الأئمة للمساجد بالدرّاجات" للعُبَيد الفَقير أبي البركات وقد وقفنا عليه في إضبارة بإحدى الخزائن الخاصة. وكان غرض المؤلف - والله أعلم- بَسطُ الطُّرف والملُح الرائجات عن الموضوع المومى إليه، لكنّه لم يتيسر له إتمامه، ومن شاءها فيلتمسها عند القُصّاص والظرفاء والإخباريين وجُمّاع المُلح والطُرف ومن أفواه الرجال الثقات، في كل موضع وثَنية، وقد حاولنا من الأمر جهدنا، ولفَّقنا بعضا من ذلك في ديوان من صُنعنا، لكنّا آثرنا إخفاءه، ولم نرد إفشاءه:
وَما زِلتُ عَن حَقِّ الأَئِمَّةِ دافِعاً * حَوادِثَ لَم يَعرِف لَها الناسُ مَدفَعا
المقامة التَّوفيقية الماجِديَّة
حكى توفقان بن ماجدان أن مما يحكى عما وقع في الأزمان السابقة، والتواريخ المضحكة، أنه كان في سالف الزمان في بلاد يقال لها المغرب الأقسى وزير، يُبدي من النباهة القدر الكثير، وكان مكلَّفا بأحباس الرعايا القاطنين والطارئين، من الذين حبّسوا قُوتَ يومهم على الخير والبِرِّ ابتغاءَ وجه رب العالمين، وهذه الأحباس من الكثرة الكاثرة بمكان، بحيث لا تقوَّم بدرهم ولا دولار أو أي شيء كان ما كان، إذ مبتغاها خدمة الدين، والذب عن الأمة من الكفار وأعداء الدين، فما شأن هذه الحكاية الغريبة، والمقامة العجيبة؟
قال توفقان بن ماجدان: منذ عرفت قَبيلي من دَبيري، وأنا مُعملٌ للرحلة في مسيري، فألقيت عصا التَّسيار، في بلاد المغرب الذي فيه للبلايا أوكار، فوجدتها بلادا عجيبة مؤتلفة، غريبة مختلفة، ما بين الجبل والسهل الحزن، والنهر والبحر والخلق ذي الحزن، فإذا أنا بهاتف يهتف:"حللت أهلا، ونزلت سهلا، فأنت في بلاد الوَلِيّ، أقبِلْ ولِجْ بقلب صَفي". فعلمت أنها إشارة، وكما لا يخفى فالحرُّ بالإشارة، إذ المشرق بلاد الأنبياء مَحتدي، والمغرب بلاد الأولياء مَقصدي.
قال توفقان بن ماجدان: فإذا أنا بشذا الطيب والنفح، الآتي من حاضرة رباط الفتح، فولجتها ناظرا بناءاتها المتطاولة، ومستغربا عدد مخلوقاتها المتصاولة، فمررتُ بشارع كبير مكتظ، بكثرة الخلق والدواب ما بين مستبشر ومغتاظ، فعلمت أن السبب وراء ذلك، تحلُّقهم ومطالعتهم لما هنالك. فأجمعت همتي، ومضيت في تعقب أثر أذني، فرأيتهم ويا للعجب قد تحلقوا حول كواغد ملونة على هيئة الطروس، مما يسمونه في عرفهم بالجرائد والصحف التي يكون لها حرب ضروس، فقلت: ما الخطب يا أصحاب، وما العلة يا أحباب؟ فلم يصخ لي أحد سمعا، لأنهم كانوا في شغل عني شغلا مُصِمّا، فأخذت هذه الكواغد الملونة بين أصابعي، وبدأت في تلاوة ما بين سحري ونحري، فعلمت ولله الحول والقوة أن الأمر جلل، وما فيه شيء من لمم، بل هو كبيرة من الكبائر، لا صغيرة من الصغائر.
قال توفقان بن ماجدان: فلما علمت ذلك، وتيقنت مما هنالك، احتاجت نفسي إلى تفصيله، والبوح به وتبريزه، فقد ذكروا أن الوزير المومى إليه في طالعة الكلام، لما كان متوليا شؤون الأحباس الإسلامية، وراعيا لها وحاميا في هذه الإيالة، اشتاقت نفسه والنفس مشتاقة دائما:
لا تَتْبعنَّ هَوَى النفسِ المضِلِّ وعُجْ * واقصِدْ سبيلَ الهدَى لا ضَلَّ قاصده
اشتياق الواهن إلى الصحة، والأبكم إلى البحّة، والشخص المشموس إلى الدوحة، فوهب أحد أولياء نعمته المبجلين، من غير استشارة لعموم الرعايا القاصين والدانين، أرضا ذات هكتارات جمّة وكأنها جَنَّة، من أرباض حاضرة رودانة التي ليس لها من جُنَّة، بقدر يساوي دراهم معدودات، لا تسد حتى رمق الفرد في هذه الأويقات، وما هي إلا أشهر من الأعصار، حتى ذاع الخبر وانتشر في كل الأمصار، وأخذت الكواغد المسماة بالجرائد في النقد والتحليل والاستخلاص، فجعلت من قصة الوزير وصديقه الماجدي خير استخلاص، ومما زاد الطين بلَّة، أن عمد الوزير الذاهل عن كل زلَّة، إلى الاعتراف بذلك في بيان ضاف، صادر عن وزارته إلى وكالة الأنباء في شكل اعتراف واف، وإنها لعمري بلية من شر البلايا، حيث فتح الوزير على نفسه باب جهنم الطافح بالرزايا، فثقف الصحفيون بغيتهم، فحرروا وأعادوا وكبّروا استبشارا بنفاسة عَيبتهم، فقال بعضهم: كفاكم ثلبا في الرجل المسكين، الذي لم يعرف بعد كيف يُدَبَّر مثل هذا الأمر المكين، فقلنا لقد آن لهذه القصة أن تُطوى، وتختفي أخبارها وتُنسى، لكنها امتدت إلى "البرلمان"، الذي فيه الخبر العيان، إذ يضم صفوة المنتخبين، والممثلين لرعايا الإيالة المستضعفين، فصعد الوزير الذاهل إلى مكمنه، وهو يقتبس حديثا في غير أوانه ولا موضعه، فكان أشبة بالأيِّم في الفرح العميم، وباليتيم في مأدبة اللئيم، وصار يضرب أخماسا في أسداس، وأسداسا في أخماس، وعنده من الهمِّ ما يشيب الأبكار ربّات الخدور، ويبيض شعور الفاتنات اللائي هُنَّ كالبُدور، فقلنا لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا مذل العباد إلاّه.
قال توفقان بن ماجدان: ثم إنه قال ما قال، ولم يعد يظهر للعيان إلا عبر مقال، لأنه كان في أسوإ أيامه، وأغبر أعصُره وأحيانه، ولسان حاله ينشد:
وما أنا إلا واحدٌ من جماعةٍ * وقد خُصِّصوا بالقبضِ إذ مُرْنَ بالقَبصِ
هذا ما كان، من أمر التوفيق والماجدي الغريرين بمكان، وما وقع بينهما في القضية المعلومة، والمسألة المشهورة، مما تداوله الخاص والعام، والوضيع والسام، وهو يعد من شرّ البلية، وسوء الطوية، حفظنا الله وإياكم، من مثل هذه الآفات وسواكم.
(يتبع...)
4-
5-


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.