1- أحدثكم اليوم عن (الإذاعة). حديث القلب قبل أي شيء. وأحسب أن تجربتي الإذاعية تؤهلني لأطرق هذا الموضوع. تجربتي التي عشتها باللحم والدم والأعصاب. ولا تقاس التجارب الوجدانية بالسنوات لمن يسألني ذاك السؤال البارد الشارد عن سنوات خبرتي في العمل الإذاعي. عمري كله، أجيب دون أن ألتفت. وحفظ الله عبد الكريم برشيد الذي قال إن المبدع يولد مبدعا. كان هاجسي أن أنتج برامج إذاعية بخلفية تنموية.. أي طموح كان طموحي أنا ذاك الشاب الغض الطري الذي يخطو أولى خطواته على درب الإذاعة الشائك والشائق في آن؟ ومن أين جئت بكل تلك الطاقة لأتحمل متاعب البدايات ومصاعبها؟ وما كان أكثرها لو جئت أقول. اليوم، وبعد أن مضت سنتان على نهاية تلك التجربة العاصفة أعود إليها لأقدم عصارة تجربتي غضة طرية للإذاعيين من شباب بلدي. أسارع إلى القول إن برامجي الإذاعية كانت من أنجح البرامج من حيث التصور والتفاعل والامتداد الجماهيري (وكل ذلك كان محكوما بالشرط الجغرافي إذ لم تكن تغطي الإذاعة إلا حيزا جغرافيا محدودا). قلت إن الهاجس الذي طالما أقامني وأقعدني كان هو البحث عن السبيل الذي يجعل كل برامجي محكومة ب(خلفية تنموية مواطنة) تصنع المواطن الفاعل المبادر المنخرط. وكانت المعالجةُ إذاعيةً فنيةً تستثمر كل الإمكانيات الإبداعية التي تمنحها الإذاعة وتتجنب الخطاب الوعظي المباشر. وجمعتُ في برامجي بين الشكل الجذاب والمضمون الرصين والرسالية المواطنة الهادفة دون أن يطغى أي منها على الآخر. وأحسب أنني حققت تلك المعادلة الصعبة التي تساوي فيها الجودةُ الامتدادَ الجماهيري. ولعمري إنها المعادلة التي تُخْرِس الأصوات التي تزعم، في صلف، أن ضرورات "التسويق" تبرر شيئا من الإسفاف والابتذال و"الشعبوية" (التي ابتلينا بها هذه الأيام) على المقاس الإذاعي. 2- حين دخلت عالم الإذاعة قبل ثماني سنوات، كانت تشغلني تساؤلات أدرك اليوم كم كانت سابقة لزمانها. كنت كالذي اكتشف عالما واسعا فسيحا يعيش الناس في أرجائه في ضيق شديد ! ولأني إيجابي، بالطبع والسجية لا بالتطبع والاختلاق، فقد فكرت طويلا في "نحت" برامج تنزل إلى المتلقي لترتقي به ولا تهوي به إلى الحضيض لتمرغه فيه. وها هنا، خيط رفيع لا يبصره عشاق "الثرثرة عبر الأثير". وتساءلت كيف يختصر إذاعيونا هذا الفن العظيم في صوت وميكروفون وأغان تنساب عبر الأثير ثم انتهى السؤال. وكيف يطرقون مواضيع مكرورة بلا هدف ولا رؤية، حاسبين أن وظيفة الراديو هي الثرثرة الفارغة من أجل تزجية الوقت ! ثم لا شيء. الإذاعة، قبل أي شيء، تصنع الخيال وتثريه وتمضي به صعودا نحو تشكيل الوعي الحافز على الإبداع. ولا يمكن، بأي حال، أن تُختزَل في صندوق ناطق يصدر أصواتا ويذيع أغان. كيف أمكن، إذن، أن تُجْتثّ أجنحة هذا الكائن الساحر فلا يحلق في فضاءات الحلم والخيال والجمال؟ وكيف استحالت بعض البرامج الإذاعية "مقاه أثيرية" لتمضية الوقت؟ وهل تحترم برامجنا الحد الأدنى من "مبنى التذييع ومعناه"، لكل لا أقول أكثر، حتى لا تتحول إلى منابر ضجيج "سياسي" يرفع يافطة البرامج الحوارية؟ ويضيق صدري ولا ينطلق لساني. 3- كنت معنيا، من خلال كل برامجي، بأن أجيب على سؤال كبير أٌقدر بأنه يجدر بسياستنا الثقافية (لا أعرف إن كان ثمة شيء يسمى هكذا في بلدي) أن تضعه نصب العين والقلب وأن تبدع، عبر كل الأجناس الفنية والإبداعية والتربوية، في الإجابة عنه. سؤال كشاف يلقي الضوء على الحاضر ويستشرف المستقبل ويعد العدة لكل التحديات الراهنة والمستقبلية. السؤال الذي ضمنته كل برامجي الإذاعية، عند إعداد التصور وأثناء التنفيذ والتقييم، هو ببساطة: (كيف أَصنع نجاحي الشخصي وأساهم، من موقعي وبإمكانياتي وإن تكن بسيطة، في صناعة نجاحنا الجماعي؟). كيف ؟.. (نكمل في مكتوب قادم).