بادرة طيّة قام بها مجموعة من قدماء تلاميذ " ثانوية أبي يعقوب البادسي" بمدينة الحسيمة بإنشائهم على وسائل التواصل الإجتماعي "مجموعة خاصّة " عبرالشبكة العنكبوتية ( الفايسبوك) . جميع المنضوين تحت هذه المجموعة سبق لهم أن درسوا فى هذا المعهد العتيد الذي أسّس عام 1959، والذي لعب دورا طلائعيا هامّا فى التربية، والتعليم، والتلقين، وإرتقاء سلاليم الثقافة، والعلم، والمتابعة، والتحصيل فى مختلف مجالات العلوم والمعرفة، مع الحرص على تأصيل مبادئ النضال الطلابي المبكّرالذي كان يتغلغل فى قلوب التلاميذ، ويعشعش فى وجدانهم منذ ذلك الزّمن البعيد على إختلاف مشاربهم، والتشبّع بالرّوح الوطنية الصّادقة، وتأجّج مشاعرالدفاع عن المصالح العليا الحيويّة للبلاد، والذود عن كرامتها، وعزّتها، وشرفها، وكانت الإنتصارات الباهرة التي حقّقها الزّعيم محمّد بن عبد الكريم الخطّابي والآلاف من المحاربين، والمجاهدين، والشّهداء، من المواطنين الرّيفييّن الصّناديد رحمهم الله جميعا برحمته الواسعة حضورقويّ لدى جميع هؤلاء التلاميذ، حيث كانت هذه الإنتصارات التي تنتهي إلى قلوبهم، وأفئدتهم، وعقولهم تدغدغ عواطفهم، وتلهب حماسهم، وتملأهم بالأنفة، والعزّة، والزّهو، والفخار. وكان التلاميذ والطلبة يلتحقون بهذا المعهد من كل صوب وحدب، من أقاصي بلاد الرّيف إلى أقصاها، وكذلك من مناطق نائية، وأصقاع بعيدة من مختلف ربوع وطننا الحبيب . وكان يدرّس به أساتذة ومعلّمون من مختلف الجنسيّات من المغرب، ومصر، وفلسطين، وسوريا، وإسبانيا، وفرنسا، وحتي من بعض بلدان أوربا الشرقيّة فى ذلك الإبّان. خواطر من وحي الخاطر كان الصّديقان جمال الفكيكي، ومحمّد اليخلوفي قد تفضّلا منذ بضعة أشهر بسرد وتدوين بعض ذكرياتهما الدراسية الجميلة فى ثانوية أبي يعقوب البادسي، ونشرا مقتطفات من هذه الذكريات فى بعض الصّحف الوطنية، وعلى حائطهما أو جدارهما على الفايسبوك ، ولا تخلوهذه الذكريات من متعة، وفائدة، وثقافة، وثراء معرفي خصب ، كما كانت هذه المعايشات تحفل بالحكم، والحكايات، والطرائف، وفيض غامر من الحنين إلى ذلك الماضي السّحيق الذي ذهب أدراج الريّاح ولم يبق منه سوى صور، وومضات باهتة " تلوح كباقي الوشم " فى ظاهر الذاكرة، وثبج الأيّام . هذا السّرد المثير والمؤثرّ، ردّني فى لمحة عين إلى ذلك الماضي الذي غبر وولّى، والذي إعتدنا أن نطلق عليه " بالزّمن الجميل"، لأنّني كنت كذلك واحدا من تلامذة هذه الثانوية القلعة الحصينة، والمنبر الشامخ منذ سنين طويلة خلت، هذه المؤسّسة التعليمية الثانوية، كنّا نطلق عليها كذلك فى أيامنا إسم المعهد، فعدت بدوري الزّمان القهقرى، إلى أن وصلت إلى الستّينيات من القرن المنصرم ، ولا ريب أنني ورفاقي فى الدراسة إبّانئذ كنّا نشكّل الدّفعة الأولى من المائة الأوائل من التلاميذ الذين إلتحقوا لأوّل مرّة بهذه المؤسّسة، وتابعوا دراساتهم بهذا الصّرح التربوي والتعليمي التليد . من الأساتذة الذين ما زلت أذكرهم بالإضافة إلى المرحوم أبي خالد الصّارم دائما (أحمد التمسماني) صاحب النظارة السّوداء الذي كان قد تابع دراسته بالقاهرة،كان رحمة الله عليه يكثر من إستعمال حرف(الحاء) فى بداية كلامه متأثّرا بطريقة النطق عند إخواننا المصرييّن ، فكان يقول مثلا : حتدرسوا ولّا لا..؟ حتجتهدوا ، ولاّ حتلعبوا. أذكر كذلك الأستاذ توفيق عليّ الضبع المصري الجنسيّة الذي أحدث ثورة تعليمية حقيقية فى هذه الثانوية فى ذلك الوقت، وكانت له مواجهات، ومشاكسات عنيفة مع اليهودي الناظر العام (دون ليّون) ،وكان مدير المعهد على أيامنا المرحموم الأستاذ عبد الكبير الإدريسي من تطوان، قبل أن يعيّن الأستاذ التمسماني فى هذا المنصب فيما بعد . وأحدث الأستاذ توفيق رحمه الله بالمعهد العديد من الأنشطة الثقافية، التربوية، والترفيهية، مثل المجلّة الحائطية التي كانت تحمل إسم المعهد، وحصّة المطالعة الإختيارية ، حيث كنّا نقوم بقراءة بعض الكتب وتلخيصها والتعليق عليها، والمسابقات الأدبية التي غالبا ما كانت إدارة المعهد تقدّم للفائزين فيها بضعة كتب كان معظمها-على ما أتذكّر- لعبّاس محمود العقّاد، ومصطفي لطفي المنفلوطي، ومصطفى صادق الرّافعي ولكتّاب آخرين، فضلا عن الرّحلات الترفيهية، و"جمعية الخطابة " التي كا ن يحضرها ويشارك فيها التلاميذ بطريقة إختيارية كذلك، حيث كان الأستاذ توفيق يكتب موضوعا فى الصبّورة مثل (الحريّة) فكانت تنطلق حناجرنا كلّ على إنفراد، فى خطب حماسية إرتجالية تلقائية عصماء، وكنّا غالبا ما نطعّمها بالأشعار والأقوال المأثورة ، والحكم السّائرة (وللحريّة الحمراء باب.... بكلّ يد مضرّجة تدقّ) فى سباق وتباري وتنافس تطبعه البراءة، والمودّة، والإخاء،وكانت هذه الأنشطة غالبا ما تنظّم أيّام الجمع وأيّام العطل. ضحك ولعب...وعلم وتحصيل.. .! كانت الدّراسة بهذا المعهد مختلطة، منذ ذلك الوقت المبكّر، بمعنى أننا كنّا قد سبقنا الزّمن والمطالبة بالحريّات والمساواة.. ! كنّا نقاسم الطالبات فى الفصل بالتساوي أيّ كان نصفه من الذكور، ونصفه الآخر من الإناث فى إحترام ومسؤولية ووقار، حتى وإن كان بعضنا أو جلّنا يسترق النظرات بين الفينة والأخرى، ويختار له خليلة فى خياله فى سريّة وكتمان من التلميذات، بل لقد وقع بعضنا فى شباك الحبّ والهوى،والصبابة والجوى، ولكن دائما من بعيد وبحبّ أفلاطوني عذريّ بريئ وعفيف... ! ،كما كان هناك صراع شرس وعنيد بين المتعاطفين والمعجبين بالمطربين المصريين المرحومين فريد الأطرش،وعبد الحليم حافظ، ولم يتورّع بعضنا فى العديد من المناسبات عندما يخلو القسم من الأساتذة بالإنخراط فى الدّندنة، بل كانت فى بعض الأحيان تصدح أصواتنا بأغاني وروائع ونغمات هذين المطربين اللذين كانا فى ذلك الأوان يملآن الدّنيا ويشغلان الناس .. ! وما زلت أذكر أنني كتبت ذات يوم على سبيل الدّعابة بضعة أبيات أصف فيها القسم أو (الفصل) الذي كنّا نتابع فيه دراستنا ودخل فجأة علينا على حين غرّة أبو خالد ( التمسماني) (الذي كان آنذاك أستاذا مدرسّا بالمعهد)، وقال: من منكم كتب هذا ..؟ فلم يتأخّر كثيرا فى معرفة صاحب الأبيات، إذ غمز ولمز وأومأ له بعض التلاميذ خوفا إليّ، فأفهموه أننّي كنت صاحبها . القصيدة الصّبيانية كانت تقول بعض أبياتها فى تلك السنّ المبكّرة من العمر: فصل من فصول المعهد....اللّهو فيه دائم التجدّد... فيه عمرو وشعيب ....ويليهما حمّو ذو سؤدد... فيه كلّ غثّ وسمين.. ..وقصير وطويل زائد.... فيه أبطال وشجعان.. ..ينصرون دين محمّد... إلخ . وهذه الأوصاف والنعوت كانت موجودة ومتطابقة بحذافيرها بالفعل على الفصل بدقّة متناهية ، وعندما قرأ المرحوم التمسماني الأبيات إنخرط فى ضحك مسترسل لدرجة أنه كان يقهقه، ولم يستطع أن يتمالك أو يتماسك نفسه ، وكانت أوّل مرّة نراه فيها يخلع نظّارته السّوداء و يضحك فيها بهذا الشّكل، كان رحمه الله بمثابة (الرّجل الغامض بسلامته) فى الأفلام المصريّة الحالية، إذ كان إلى الصّرامة والجدّية أميل ،ثمّ أسرع وجاء بالأستاذ توفيق (المصري) رحمه الله الذي كانت له حصّة فى القسم المجاور، فندّت شفتاه هو الآخر عن إبتسامة عريضة، وأمرنا بنقل الأبيات من الصبّورة على دفاترنا ، وما زال العديد من رفاقي وأصدقائي الأعزّاء فى هذا الفصل يتذكّرون هذه الحكاية ويتنادرون بها إلى اليوم.إذ بالفعل كان بالفصل أو بالقسم عمرو، وكان به شعيب، وكان به تلميذ إسمه حمّو، الذي كان شديد الإعتداد والإعتزاز بالنفس والأنفة والسّؤدد، وكان هناك تلميذ يدعى (بوغازي) فى منتهى النّحافة، وهناك آخريسمّى (عمار) فى منتهى البدانة، وكانت هناك تلميذة (من خارج المدينة) قميئة فى منتهى القصر،التي لابدّ أنّها كانت تمقت البيت التالي: ( تبيّن لي أنّ القماءة ذلّة ... وأنّ أعزّ الرّجال(أو أعزّ النّساء) طوالها) ، وتلميذة أخرى (من تازة) فى منتهى الطول، كان يروقها ولا شكّ عجز البيت السّابق ، وصدر البيت التالي: (طويلة دون الأنام لها فضائل)،على منوال (طويل دون البّحور له فضائل) وكان بالقسم تلميذان من ذوي العضلات المفتولة، يتميّزان بعزّة نفس عالية، و يتباهيان بالقوّة والشّجاعة والبطولة، وهما لا يتوانان فى نصرة دين محمّد. ومن الطرائف التي كنّا نتندّر بها فيما بيننا كذلك أنّ أستاذ الجغرافيا والتاريخ "دون ألبرتو"( إسباني الجنسية) كان يسألنا عن عواصم العالم فى درس الجغرافية، وعندما يصل إلى عاصمة إثيوبيا ، كنّا بدلا من أن نقول (أديس أبيبا)،إتّفقنا فيما بيننا (خاصة التلاميذ الذكور بشكل خاص) أن نقول عند الجواب : ( أعدّيس نحبيبا) (مدغومة)، وهذه الكلمة الرّيفية التي تعني "بطن حبيبة" قريبة جدّا فى النطق من أديس أبيبا، وكانت بالفصل تلميذة إسمها حبيبة، وكانت تتضايق بلطف، كلما سألنا أو أعاد علينا الاستاذ نفس السؤال، وكان الضحك يغلبها هي الأخرى مع الجميع ، وكان القسم ينفجر ضحكا أكثر فأكثر، عندما يقول الأستاذ ألبرتو بعد الجواب جذلا ومبتسما muy bien أي أحسنتم ..!!! حمامة الأيك بعد هذه المرحلة إلتحقت بمعهد القاضي عيّاض بتطوان العامرة "الحمامة البيضاء" (حمامة الأيك من بالشّدو طارحها...ومن وراء الدّجى بالشوق ناجاها)، ومكثت بهذه المدينة الجميلة سنة واحدة لا غير، وهي السنة الدّراسية الرابعة من سلك التعليم الثانوي فى ذلك الإبّان، حيث تقدّمت حرّا لإمتحان الباكالوريا (وجاب الله التيسير) فطويت سنتين دراسيتين إثنتين (الخامسة والسادسة)، ومن الأساتذة الكرام الذين أتذكّهم فى هذه الفترة الأستاذان محمّد الزفزافي، والرّيسوني رحمهما الله تعالى برحمته الواسعة ، والأستاذ أحمد المرابط مدّ الله فى عمره. ومن الطلبة الذين كانوا رفاقي فى الدراسة آنذاك، وهم اليوم من أعزّ أصدقائي أذكرمنهم : نجيب العوفي، ومحمّد بوخزّار، ومحمّد الأمين الخمليشي، وإبراهيم الخطيب، وعبد الغني القاسمي وسواهم، وهم جميعا اليوم من فرسان القلم، ومن كبار الكتّاب والنقّاد والمبدعين فى هذا البلد الأمين، مدّ الله فى عمرهم جميعا، وأدام عليهم أردية الصحّة والهناءة والعافية. ومن الطرائف التي أذكرها عن هذا المعهد أنّ ألأستاذ الذي كان يدرّس اللغة العربية وآدابها رحمه الله ، الذي كان يشبع الطلبة فى كلّ وقت الأصفار فى الإمتحانات حتى أطلقوا عليه لقب الإشفنجة.. ! حيث أصبح معروفا بهذا اللقب بين جميع الطلبة فيما بعد سامحه الله وسامحنا نحن كذلك..! . كان يشرح لنا ذات يوم أبيات قصيدة عمرو إبن كلثوم التغلبي الشهيرة التي من أبياتها: ألا هبّي بصحنك فاصبحينا......ولا تبقي خمور الأندرينا أبا هند فلا تعجل علينا...وأنظرنا نخبّرك اليقينا بأنّا نورد الرّايات بيضا... ونصدرهنّ حمرا قد روينا إلى أن يصل إلى البيت القائل: بأنّا المطعمون إذا قدرنا...وأنّا المهلكون إذا إبتلينا حيث كان الأستاذ رحمه الله يشرح لنا هذا البيت بأنّ أهل تغلب (قوم الشاعر) إذا إستطاعوا وكان فى إمكانهم ذلك(أي إذا قدروا) أطعموا الناّس جميعا، فقلت له أنّ هذا المعنى ينتقص ويقلّل من شيمة الكرم والجود عندهم ، إذ هم لا يطعمون إلاّ إذا كان فى مقدورهم ذلك، وأنّ الذي يقصد الشّاعر فى الواقع ب :" إذا قدرنا " هو أنّهم مطعمون دائما متى نصبت القدور، "مفردها قدرأو قدرة" (بكسر القاف وسكون الدال)،وهنا يتجلّى معنى الكرم والجود، فصارالأستاذ يصيح بصوت عال وهو يقول" براكا من التشويش".." براكا من التشويش". وبعد هذه الحادثة إشتكى بي للحارس العام فى مؤسّسة القاضي عيّاض الذي عاقبني بطردي من المعهد لمدّة ثلاثة أيام، وكلّ ما فى الأمر بكلّ بساطة، أنّ الأستاذ توفيق رحمه الله،كان قد شرح لنا معنى هذه الأبيات بالذات بإفاضة من قبل فى معهد أبي يعقوب البادسي فى الحسيمة...! . ومن تطوان إلى القاهرة، حيث شاءت الأقدار، وقيّض الله تعالى لي من جديد أن ألتقي بالأستاذ توفيق الذي كان قد سبقني وعاد إلى مصر بعد نشوب أزمة حرب الرّمال مع جارتنا الجزائرعام 1963،بعد تورّط مصر فى ذلك الإبّان فى هذا الخلاف، حيث أبعد الأساتذة المصريّون، وأعيدوا إلى بلدهم. وقد أحسن هذا الأستاذ الفاضل الجليل وفادتي وأكرمني، وفى اليوم التالي ذهب بي إلى منزل شقيق الأميرعبد الكريم الخطّابي ورفيقه فى الكفاح السّيد محمّد (فتحا) رحمهما الله تعالى وأكرم مثواهما ، حيث صرت أزوره كلّ يوم خميس من كل أسبوع، فى منزله بحي الدقّي، كما كنت أزور أنجال الزعيم عبد الكريم الخطابي طيّب الله ثراه بين الفينة والأخرى بمنزلهم بحيّ حدائق القبّة. وفي أرض الكنانة طفقت مرحلة أخرى جديدة من العمرالذي إنساب كأمواج البّحر مسرعة مهرولة ، مزبدة هادرة حينا ، وساكنة هادئة حينا آخر، والحديث ذو شجون يشدّ بعضه إلى بعض.