في حمأة الصيف، اختار القدر فارس الكلمة الشعرية، وشاعر القضية الفلسطينية بامتياز، فهو المعروف بضعفه أمام حرارة الصيف، والعاشق لفصل الشتاء. "" تترنح الذكريات ، ويأخذك الماضي بأسره إلى معانقة حلم فتى البروة، وعاشق فلسطين،وأسير الشعر والقصيدة، ورجل المواقف والمناضل المدادي، والصوت الجهوري، سليل شعرية مسافتها تمتد إلى غابر الزمن، والحفيد الأصغر للمتنبي، حيث أغرم بفضاءات شعريته وحكمة معانيه؛ فتبنى سجع منطقه، وغرّد أحلى الأغاني، فقاوم عُسر الأسر والاعتقال، وراح يفتش عن مختبر آخر، يخترع فيه الكلم، ويركب أبدع الصور الشعرية، فاستلهمته "أوراق الزيتون"، وأخرج من "أحمد الزعتر"، ماء ا جديدا للشعر، وأعلن عن تمرده على القديم ولو كان شعره، فهو العاشق للحداثة في انسياب إيقاعها، وترنم أوزانها، معلنا انزياحه، عن الستة عشر وزنا، رافعا عباءة المزج، و باحثا عن لون يتفرد به في كل إبداع، وفي الحقول والأشجار، يجد ضالته، فبين أحضانها تربى وترعرع، وفي شطآن الطفولة، بُصمت الحياة، وتقلبات الزمن الفلسطيني، و سنوات" السياحة المؤقتة". حب الوطن، وجلباب الأبوة، وحضن الأمومة، علمته كيف يبعث من رماده كالفينق، فيجيش المشاعر ويلهبها؛ لترفع البندقية، وتخرج غضبه الكامن في نفسية الفلسطيني المشرد عن أرضه، فينهض من نومه كحبيبته التي تستيقظ على جرح في النفس، وتطير العصافير، بأجنحة الحب، و يقول" أحبك أو لا أحبك". وفي مديح الظل العالي"، يقف حائرا من عرب رموا صَبرا خلفهم، وينعى الطريقة التي ودعت بها فرسانها ورماتها، والذائذين عن جغرافيتها. وتستمر الحياة بقسوتها، معلنة عن مفاجئات الغربة والحنين والمنفى والأنين، وضياع الهوية، وصولة المحتل الغاشم، فلا يجد أبلغ من شهوة الانتماء، ويعلنها صراحة في بطاقة هوية":" سجل... أنا عربي .. وأعمل مع رفاق الكدح في محجر وأطفالي ثمانية، اسلّ لهم رغيف الخبز والأثواب والدفتر من الصخر ولا أتوسل الصدقات من بابك ولا اصغر أمام بلاط أعتابك...... فهل تغضب.... سجل.. أنا عربي يعيش بفورة الغضب جذوري قبل ميلاد الزمان رست". فغنى بشعره المغنون، وأبكى المكلومين والمحزونين، وزرع في الروح الفلسطينية والعربية، كهربائية الثورة والغضب، و عشق الأرض والجبل، والقدس وهي تتربع عاصمة أبدية لفلسطين. وحاول أن يرقى بالشعر إلى لحظة المساءلة الصعبة، الزمن والآخر المحتل، والظلم والقهر، والسلطة المفقودة، التي سيّجت الوطن المزعوم في اتفاقية أوسلو، فصار على حد زعمه سجنا واعتقالا، " نحن سجناء في وطننا"، لكن رغم كل ذلك فقد أحب الحياة، وهو في المقهى مع الجريدة، حيث عاش طقوسا وعادات أحبها، وأعلن صراحة بأنه يعشق الحياة"إني أحب الحياة، بين الصنوبر والتين، لكن ما استطعت إليها سبيلا"."، ويطالبها بأن تسير الهوينى، كي يتسنى له ملاحقة السنوات التي تقطفها السنون " سيري ببطءٍ ، يا حياة، لكي أراك بكامل النقصان حولي. كم نسيتك في خضمّك باحثاً عنّي وعنك. وكلّما أدركت سرّاً منك قلت بقسوةٍ: ما أجهلكْ! قلْ للغياب: نقصتني وأنا حضرت ... لأكملكْ!". فلم يكن الشعر عنده متردم قول، ولا مكرور صور وألفاظ، ولا معلقات طبق الأصل، بل جعل دستوره التجديد، والتمرد على الماضي الشعري، ولو كان في ملكه، وتوظيف الأسطورة والتاريخ، فأبدع" جدارياته"، وعلق فيها سوانحه ، وأطلق العنان لمخيلته وجوامحه، ليطير من جديد. وفي الطريق يعثر على نصفه الضائع، ولغزا قد حيره، فيدخل الطفولة الضائعة، محمولا على جناح حمامة سلام بيضاء. ويتذكر الألم العضال، والمرض الذي أخار قواه وحمله منطقه المميت، لكن يجد في الكلمات الغوامض سر الإشارة وجمالية العبارة، وسفر الاستعارات، وجمالية التشكيل، ويرحل مع قصيدة خضراء، فيتسلق أفنان أشجار الكلمات الخضراوية، وأوراق المعاني المكتشفة ، في شعرية أخرى، وحب ينتظره، وقد لا يستطيع دخوله، لأن الزمن ينتظره، "أَيُّها الزَمَنُ السريعُ ! خَطَفْتَني مما تقولُ لي الحروفُ الغامضاتُ : الواقعيُّ هو الخياليُّ الأَكيدُ يا أيها الزَمَنُ الذي لم ينتظِرْ ... لم يَنْتَظِرْ أَحداً تأخَّر عن ولادتِهِ ". وفي" أبعد من زهر اللوز"، دخل اليومي ، ولقمة العيش" وأنت تعد فطورك، فكّر بغيرك". لكن الحياة وتقلباتها علمته، أن لا يعتذر عما فعل، فالماضي ثابت لا يتغير، والمستقبل مجهول، والحاضر زئبقي المذاق، والحياة برمتها يحبها ويحياها، لكن قبل الموت المحتوم، يرفع عقيرته " أنا لاعب النرد"، وفيها يسبر خبايا الذات، ويدخل حد التساؤل، ويلبس لغة الفلاسفة" مَنْ أَنا لأقول لكمْ، ما أقول لكم". ويختم قائلا: وَهْيَ ثنائيَّةٌ والختامِ الأُحاديّ:" تحيا الحياة". وفي الموت يغيب درويش، لكن اللقاء يتجدد، و تبقى الكلمات وسيطنا الدائم، مع فارس الكلمة والقضية. رحمك الله يا درويش