على حين غرة وبدون سابق إنذار وجد العالم نفسه مهددا بكارثة عالمية، تسبب فيها الانتشار السريع لوباء كوفيد 19، الذي لم يكن أحد قادرا على كبح جماحه أو محاصرته في منطقة محددة، فرغم التكنولوجيا المتقدمة، والثورة المعلوماتية التي جعلت العالم قرية صغيرة، فشل العالم وفي مقدمته الدول المتقدمة في وقف الغزو الوبائي المستجد؛ فبعد أن استوطنت منطقة ووهان في الصين أخذت كورونا تتسلل خلسة إلى باقي البلدان، المنتشرة عبر قارات العالم، فأضحينا بحق أمام ما يمكن تسميتها ديمقراطية الوباء. ونتيجة لهذا الانتشار الكاسح للجائحة تبين للجميع وبالملموس أن التعليم المجال الحيوي الأكثر هشاشة، إذ سرعان ما بادرت مجموعة من الدول إلى غلق المدارس وتوقيف التعليم الحضوري لتعوضه بالتعليم عن بعد حينا، أو بالاستغناء عنه إلى إشعار آخر حينا آخر، جاعلين بذلك تراتبية جديدة للحقوق، مفادها أن الحق في الحياة يتقدم على باقي الحقوق، رغم مجادلة البعض في ذلك، باعتبار أن الحياة بدون تعليم لا تستحق اسمها الذي تعتز به. ولم يكن المغرب استثناء في هذا الأمر، إذ بادرت السلطات المغربية إلى توقيف التعليم الحضوري معوضة إياه بالتعليم عن بعد، محاولة بذلك الفوز بالحسنيين، أي المحافظة على حياة الناس دون التفريط في حقهم في التعليم. وقد عرفت هذه الفترة نوعا من التجاذبات ما بين مقتنع وغير مقتنع بجدوى التعليم عن بعد، خاصة الآباء الذين لم يكونوا مهيئين لمواكبة أبنائهم في مسارهم التعلمي بشكل مباشر، فرأوا في التعليم عن بعد ثقلا تخففت منه المدرسة، لترمي به على كاهلهم المثقل أصلا بمتطلبات توفير العيش الكريم، خاصة بعد توقف الأنشطة الريعية لكثير منهم. في هذه الفترة الحرجة، اجتهد الأساتذة في التواصل مع التلاميذ عبر بنية تواصلية هشة، لا يمكنها تحقيق المرجو منها، فكثير من التلاميذ لا يتوفرون على أجهزة إلكترونية تؤهلهم للتواصل مع أساتذتهم؛ هذا فضلا عن عدم توفر الشبكة الإلكترونية أو التغطية ببعض المناطق. كما أن كثيرا من الأطر التربوية تفتقر إلى التكوين في هذا المجال، إذ وجد بعضهم أنفسهم وجها لوجه إزاء وضعيات لم يكونوا مستعدين لها، ولا هم توقعوها يوما، خلافا لقلة من الأستاذة كانت سريعة في التكيف مع الوضع الجديد، بل ساهمت في خلق محتويات تربويات ضمن كبسولات إلكترونية، حاولت تغطية النقص المسجل في هذا المجال. كما أن بعض القنوات التلفزية بادرت إلى بث برامج تربوية تتضمن دروسا، أنجزتها تحت إشراف الإدارة المركزية أو الأكاديميات فئة من المدرسين، الذين تجندوا لإنجاح هذه المهمة تحت إشراف بعض المفتشين والأطر الإدارية في المديريات والأكاديميات والوزارة. وبعد مرور المرحلة الصعبة، وتمرير امتحانات البكالوريا حضوريا، بما يعني إنقاذ السنة الدراسية، عاد التلاميذ بعد العطلة المدرسية إلى حجرات الدرس بتصور جديد، مفاده الاحتفاظ بنصف الوعاء الزمني لتحقيق التباعد المرغوب، الذي يمنع العدوى من الانتشار، فأصبحت الأقسام تضم نصف عدد التلاميذ المعتاد، وهو المطلب الذي ما فتئ المعنيون بالعملية التربوية ينادون به من أجل خلق بيئة مناسبة لتعليم جدي، يحقق الأهداف المسطرة. وقد أدت هذه الوضعية الجديدة إلى التركيز على المواد الأساسية لتقدم للتلاميذ بشكل حضوري ومباشر، فيما يتم تحفيزهم على توظيف خاصية التعلم الذاتي بالنسبة لباقي المواد. وقد ساهمت هذه المنهجية في استمرار الدراسة بشكل حضوري، فيما توقف عدد محدود من المدارس عن التدريس الحضوري وتم تعويضه بالتدريس عن بعد، خاصة بعد انتقال العدوى إلى تلاميذها أو أطرها التربوية والإدارية بشكل ملموس، ويدعو إلى القلق. وبعد هذه التجربة الجديدة في مجال التعليم في عهد كورونا يمكن للمتتبع أن يخرج بجملة من الملاحظات، يمكن إجمالها في ما يلي: – يجب عدم الاطمئنان إلى الوضع العادي للتعليم واعتباره مكسبا ثابتا، بل يتعين الأخذ بعين الاعتبار أنه وضع هش قد يتغير في أي وقت، بسب كارثة طبيعية أو إنسانية، لذا يجب وضع بدائل تراعي عددا من الاحتمالات الممكنة. – يعد التعلم عن بعد حلا من الحلول، لكنه يحتاج إلى بنية تحتية قوية، تساهم في إنجاحه، فلا تكفي في هذا المجال النيات الحسنة، بل لا بد من تجهيزات يستفيد منها كل من الأساتذة والتلاميذ على حد سواء. – ضرورة تكوين الأساتذة على الوسائل التقنية الحديثة، من خلال إنجاز كبسولات تربوية إلكترونية، متعددة المضامين، وقابلة للتجديد والتطوير. – ضرورة مراعاة العدد المثالي للتلاميذ داخل القسم، رغبة في تحقيق مدرسة جاذبة، بعيدا عن ضغط الاكتظاظ الذي يؤثر على نفسيات المتعلمين والأساتذة كذلك. – التركيز على التعلمات الأساسية في المنهاج الدراسي، وتعديل المقررات التربوية لتكتفي بما هو مفيد ومهم وهادف. – تحفيز التلاميذ على التعلم الذاتي، خاصة بالنسبة لمواد تعد من حيث العمق تكميلية. – الإكثار من الأنشطة الموازية والمسابقات الثقافية والفنية والرياضية، التي بلا شك تحفز التلاميذ على صقل مواهبهم، وتدفعهم لتقديم أقصى ما لديهم من أجل تحقيق التميز. – الاهتمام بفعل القراءة، واعتباره حجر الزاوية في العملية التربوية، إذ لا يمكن الحديث عن تعلم ذاتي بدون قراءة، وخاصة بالنسبة للكتب الأدبية؛ فلا بديل عن فعل القراءة لتنمية قدرات المتعلمين التأملية والتحليلية والذوقية والقيمية...لذا يجب ألا تظل القراءة عملية مزاجية تخضع لمزاج التلميذ أو الأستاذ، بل لا بد أن تصبح عملية منظمة يمتحن فيها التلميذ بطريقة ما ويحصل من خلالها على علامة تحتسب في نتيجته النهائية. – ضرورة تشكيل لجان جهوية لاختيار كتب أدبية، تغطي جميع المستويات، بحيث يقرأ التلاميذ ثلاثة كتب على الأقل في سنة دراسية واحدة؛ مع الحرص على تغيير الكتب بعد فترة زمنية محددة حتى لا تخضع العملية للاحتكار.