تحل الذكرى العاشرة للأحداث الإرهابية التي هزت ضمير ووجدان المغاربة ليلة 16 ماي 2003 والمغرب يعيش نفس الأجواء التي هيأت لها إن لم تكن أخطر . كان أمل المغاربة أن تقطع الدولة دابر التطرف وتجفف منابعه الفكرية التي غزت المجتمع ومؤسساته الدينية . وقد غذّى هذا الأملَ نجاحُ الأجهزة الأمنية في تفكيك ما لا يقل عن 115 خلية إرهابية على مدى السنوات العشر المنصرمة . وساد الاعتقاد أن سنوات الاعتقال غيرت في شيوخ التطرف قناعاتهم الفكرية وعقائدهم التكفيرية فمالوا إلى الاعتدال اقتناعا وليس إكراها وتقية . وكان لهذا الاعتقاد أثره على نفسية شباب حركة 20 فبراير التي ترجمته إلى شعارات طالبت بإطلاق سراح الشيوخ . وسرعان ما تبين أن التغيير لحق المواقف دون العقائد لدى أغلب الشيوخ الذين صدئت قلوبهم حتى عن تقديم العزاء لأهل وأبناء الفقيدة آسية الوديع رحمها الله التي كرست جهودها لتحسين أوضاع السجناء والتخفيف من معاناتهم . كل الأمل في القضاء على التطرف والإرهاب تبخر بفعل عوامل كثيرة غذّت التطرف ووضعت المغرب في نفس الأجواء التكفيرية التي سبقت أحداث 16 ماي وهيأت لها . بل إن المغرب اليوم يعرف تقاطبا إيديولوجيا أشد خطورة على أمنه الروحي واستقراره السياسي من أي فترة سابقة . وقد أججت حالة التقاطب هذه عوامل عدة أخطرها : 1 اندلاع ثورات ما بات يُعرف خطأ "بالربيع العربي" الذي أسقط أنظمة كانت تمنع استنبات التطرف والإرهاب على أراضيها . الأمر الذي استغلته التنظيمات المتطرفة في السيطرة على المساجد وفرض نمط تدينها على المجتمع باستعمال العنف ( إحراق الفنادق والمقاهي وإغلاق الكليات في تونس + تشكيل شرطة خاصة بالمتطرفين لزرع الرعب بين المواطنين عبر الاغتيالات والاعتداءات الجسدية ، الاغتصاب الخ ) ؛ مما اضطر نحو 7 آلاف تونسي إلى طلب اللجوء السياسي في ظرف شهرين فقط إثر اغتيال المعارض شكري بلعيد . وهذه مفارقة خطيرة ؛ حيث يفر الشباب التونسي من بلده وهو الذي فجر الثورة وقادها من أجل الحرية والكرامة ، علما أن الشباب لم تضق به أرض تونس على عهد النظام السابق ، فضاقت به على عهد حكومة الثورة . وصول تنظيمات الإسلام السياسي إلى الحكم مما وفر للتيار المتطرف الحماية من كل متابعة قانونية ، الأمر الذي شجع المتطرفين على الجهر بعقائدهم والسيطرة على المساجد واستغلال وسائل النقل العمومية لنشر فقه الغلو وثقافة الكراهية ؛ فضلا عن إعادة فتح "دور القرآن" التي أغلقتها السلطات العمومية بسبب ما تبثه من عقائد مدمرة للروح الوطنية وخارجة عن ثوابت الشعب المغربي وقيمه وعاداته . تواطؤ تنظيمات الإسلام السياسي مع التيار المتطرف في إطار تبادل الخدمات والمنافع . فالتيار المتطرف يوفر كتلة ناخبة لتنظيمات الإسلام السياسي الموجودة في السلطة مقابل أن تضمن له حرية الحركة والانتشار والدعاية والاستقطاب والتأطير . فالطرفان معا يحكمهما مبدأ "أنا وابن عمي على الغريب" ، كما يوحد بينهما هدف إقامة دولة الإسلام وتطبيق الشريعة وفق منظور هذه التنظيمات . تختلف الوسائل والهدف واحد. غياب الحوار لقلة خبرة علماء وزارة الأوقاف وضعف زادهم المعرفي للرد على أسئلة شيوخ التطرف وبيان فساد عقائدهم . فالفراغ الذي تركه علماء المغرب استغله شيوخ التطرف في ركوب التحدي عبر طرح سلسلة أسئلة لم يجرأ المجلس العلمي الأعلى على دراستها أو الرد عليها ، فأحرى محاورة المتطرفين على أساسها وبيان عورها . ورغم هيكلة الحقل الديني ليكون العلماء في صلب حركية المجتمع ، ومعاركه القيمية من أجل النهوض بالإنسان وإشاعة قيم حقوق الإنسان في بعدها الكوني ؛ ظل علماؤنا على هامش معركة التغيير والتحديث ، بل انخرطوا في مشاريع إجهاضها ( نموذج مدونة الأسرة) . فتوى المجلس العلمي الأعلى التي وفرت الغطاء الديني والمؤسساتي لفتاوى التكفير التي أطلقها فقهاء التطرف ضد الأستاذ عصيد وما رافقها من حملات تحريضية تستهدف سلامته البدنية وجرجرته أمام المحاكم بتهم عديدة ليس أقلها "ازدراء الإسلام" و"زعزعة عقيدة مسلم" و"الإساءة إلى الرسول محمد (ص) . ولعل حملة التوكيلات التي أطلقتها جهات معينة تدخل في خانة التهييج ونشر الكراهية بين المواطنين ، وتلك مقدمة لدفع المجتمع إلى حالة الاحتراب الداخلي بخلفية طائفية/اثنية تمس عقيدة ووطنية الأمازيغ الذين اتهمهم حسن الكتاني أحد شيوخ التطرف المعفى عنهم ، بالعداء للإسلام ولأمة العرب . تحول التنظيمات المتطرفة إلى قوة عسكرية ضاربة على حدود المغرب الجنوبية . حيث استطاعت هذه التنظيمات السيطرة على شمال مالي وإقامة إمارة إرهابية باتت تهدد وحدة وأمن دول الساحل والصحراء لدرجة أن كل دول الميدان عجزت عن التصدي لزحف التنظيمات الإرهابية الموالية لتنظيم القاعدة لولا التدخل العسكري القوي والحازم الذي قادته فرنسا لطرد الإرهابيين من شمال مالي . ومن شأن تواجد التنظيمات العسكرية المتطرفة على حدود المغرب أن يهدد أمنه واستقراره نظرا لما توفره هذه التنظيمات الإرهابية من أسلحة ومخططات لدعم العناصر الإرهابية في داخل المغرب . ويؤكد هذا الارتباط بين التنظيمات الإرهابية في الخارج وبين العناصر المتطرفة في الداخل عدد الخلايا الإرهابية التي تم تفكيكها وطبيعة العلاقة التي تربطها بتنظيمات الخارج ، سواء باستقطاب وتجنيد المقاتلين لإرسالهم إلى مناطق التوتر في أفغانستان والعراق ومالي وسوريا ، أو بتنفيذ مخططات تخريبية بالداخل . وجود أعداد هامة من المقاتلين المغاربة في صفوف التنظيمات المتطرفة في سوريا والعراق ومالي . ومن شأن عودة هؤلاء المقاتلين أن تشكل خطرا حقيقيا على أمن واستقرار المغرب اعتبارا لخبرة هؤلاء في القتال وصنع المتفجرات وحرب العصابات . وكانت للمغرب تجربة مريرة مع المقاتلين المغاربة العائدين من أفغانستان الذين أشرفوا على تشكيل الخلايا الإرهابية الأولى التي نفذت هجمات 16 ماي 2003 التي قضى فيها 45 شخصا بمن فيهم العناصر الإرهابية . فهؤلاء العائدون سيصرون على مواصلة "الجهاد" في المغرب ، الأمر الذي سيفتح المغرب على مخاطر جديدة ، خصوصا إذا علمنا أن التنظيمات الإرهابية تطور مخططاتها وأدوات اشتغالها وأساليب عملها تفاجئ حتى الأجهزة الأمنية ذات الخبرة العالية ( نموذج أسلوب الذئاب المنفردة التي نفذت عملياتها الإرهابية في فرنسا (محمد مراح) وفي بوسطن بأمريكا ) . لا شك أن سكوت الحكومة على أنشطة التنظيمات المتطرفة وما تنشره من فتاوى القتل والتكفير ، هو تواطؤ ومشاركة لها في دفع الوطن إلى هاوية الفتن الطائفية وتمزيق نسيجه المجتمعي الذي حافظ على انسجامه وتعدد مشاربه الفكرية والثقافية والعرقية . وما يجري في تونس وليبيا ومصر ينبغي أن يكون درسا للمغرب حتى لا نكرر الأخطاء ونفتح مصير المغرب ومستقبل شعبه على المجهول . خصوصا وأن الإرهاب لم يعد فقط أفكارا وعقائد أو خلايا يمكن التعامل معها وفق ما تقتضيه المقاربة الأمنية التي أثبتت نجاعتها ، بل أصبح الإرهاب قوة عسكرية ضاربة تبسط هيمنتها على أجزاء واسعة من ليبيا والنيجر وتونس ومنطقة الساحل والصحراء ، وتهدد وحدة واستقرار دول شمال إفريقيا . وكل تواطؤ مع التنظيمات المتطرفة أو تساهل مع أنشطتها وعقائدها هو بالضرورة تمكين لها لتحويل المغرب إلى قاعدة خلفية للتنظيمات الإرهابية على النحو الذي يحدث في تونس والجزائر وليبيا ومصر .