إن من بين أسس البناء الديمقراطي الحقيقي أن نمتلك أحزابا سياسية في مستوى الرهان تملك من مقومات الفعل ما يمكنه من سلطة التقرير، حيث تكون سيدة قرارها، وإذا كانت مسألة التموقع في الأغلبية أو المعارضة تنبني على معايير ديمقراطية تحترم فيها إرادة الاختيار لدى الأجهزة التقريرية للأحزاب، وتكون الأحزاب سيدة قرارها، فمن الطبيعي جعل هذه القرارات بمنأى عن أي تخل خارجي أو تعليمات أو أوامر، إذا كنا نتحدث بمنطق الأحزاب السياسية الديمقراطية التي تحترم نفسها وقراراتها. وأظن أن رهن قرار حزب الاستقلال بالتحكيم الملكي هي مسألة تطرح الكثير من الإشكاليات، وقد تكون لها تداعيات على الحقل السياسي ومسألة التنزيل الديمقراطي للدستور ، في الوقت الذي يتم تركيز النقاش على مسالة انسحاب حزب الاستقلال وخلفياته والدوافع المحركة له. فبفعل هذه الممارسات الحزبية يمكن أن نعطي للفصل 42 من دستور 2011 قوة نفاذية وحمولة قانونية وكثافة ممارساتية، بإمكانها ان تعطل مختلف باقي فصول الدستور مما سيطرح معه اشكال ميزان القوى بين مختلف السلطات والمؤسسات والعلاقة فيما بينها وسيجعل مسالة التنزيل الديمقراطي للدستور محط استفهام كبير، والتي سنعيد من خلالها ايضا ترسيم نفس إحداثيات معظم الاشكالات التي كان يطرحها الفصل 19 من دستور1996 ، من خلال استراتيجية النفخ فيه وإعطائه تفسيرا واسعا يمكنه أن يأتي على مختلف الفصول الدستورية الاخرى التي يمكن أن تأسس لمسالة التوازن والفصل ما بين السلطات وهذا انسجاما واحتراما لبراديغم التنزيل الديمقراطي للدستور. إن هذه المسألة تعيدنا أيضا إلى فتح نقاش محوري حول مدى استقلالية الأحزاب السياسية في اتخاذ قراراتها في التعاطي مع مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية ؟ أم أن الأمر لا يعدو ان يكون سوى تكريس للاستمرارية في التبعية المطلقة للأحزاب للملك التي تأتمر بأوامره وتنهى عن الفعل بنواهيه ؟ والملاحظ أنه بغض النظر عن الخلفيات الظاهرة والدوافع الكامنة التي كانت وراء انسحاب حزب الاستقلال من التحالف الحكومي، فإنه تبقى الأجهزة الحزبية الداخلية هي سيدة قرارها. ونعني بذلك خاصة المجلس الوطني للحزب الذي صوت لصالح الانسحاب، وبالتالي ما الداعي إلى انتظار الضوء الأخضر من الملك للحسم بشكل نهائي. وما الفائدة من هذا القرار الحزبي اذا كانت الكلمة النهائية بيد الملك ، بمعنى آخر ما الفائدة من اقرار الانسحاب من الحكومة اذا كانت التأشيرة النهائية تعود للملك بالأساس؟ وهنا يمكن الخروج بقناعة محورية وهي أن الأحزاب السياسية في المغرب مازالت تشتغل بنفس المنطق ونفس الأدبيات والأبجديات في علاقتها مع الملك، بمعنى أنها ليست سيدة قرارها وهي في حالة تبعية وخضوع ولا تتمتع بأية استقلالية . فالكثير من التحليلات تتعامل مع مسألة انسحاب حزب الاستقلال بأنه يشكل كارثة ومأزق سياسي ليس المغرب بحاجة اليه في هذه الظرفية بالذات، في حين أن تأهيل النسق السياسي المغربي بحاجة إلى حراك ورجات من أجل التصحيح والتصويب والتقويم، من أجل عقلنة وترشيد المشهد السياسي بصفة عامة والتحالفات الحكومية بشكل خاص، وأيضا عقلنة الفعل الحزبي في تعاطيه مع مسالة التحالفات سواء في الأغلبية او المعارضة وهي عملية بإمكانها ان تساهم حتى في تأهيل العمل الحكومي والدفع به نحو الأداء الجيد ، ففي كثير من الدول الديمقراطية تلعب هذه الانسحابات دورا تقويميا لسير التدبير الحكومي من خلال الرقي به وتجاوز مكامن الخلل، وهذا طبعا دون استحضار خلفيات الانسحاب وقياس مدى وجاهته وجدوائيته. كما أن طلب التحكيم الملكي قد يفهم في سياقه الصحيح لو تم الاحتكام إليه قبل اتخاذ قرار الانسحاب، لكن طلبه بعد اتخاذ القرار يعتبر في غير محله وخارج سياق تحصين الفعل الحزبي من التعليمات والأوامر، لأن الأشكال هنا يعيدنا إلى نقطة الصفر بخصوص مدى إمكانية تمكين القرار الحزبي من الاستقلالية ، وهذا ما يؤكد بأن قرار الانسحاب هو مجرد زوبعة في فنجان، وهو يذهب في اتجاه تغليب مصلحة الحزب من خلال إعادة ترتيب تموقعه في التحالف الحكومي، وليس مصلحة الوطن والمصلحة العامة بصفة عامة . وبالتالي فان مثل هذه السلوكيات والممارسات الحزبية لن تساهم في مأسسة النسق السياسي والحزبي بقدر ما ستساهم في تكريس الاستمرارية من حيث طبيعة اشتغال هذه الاحزاب التي ستزيد من وهنها وضعفها ولن تتمكن من الخضوع لإرادتها في اتخاذ القرارات وإنما تخضع للإرادة الملكية ، حيث يظل الملك هو المهيمن على الحقل السياسي ويتحكم في خيوطه وحراكه بما يتلاءم مع استراتيجية تدبير السلطة والحكم. إن هذا الفعل الحزبي يعيدنا الى تكريس تيمات الدستور العرفي/الضمني، خصوصا مع اعطاء الفصل 42 التفسير الواسع الذي يمكن الملك من التدخل الحكمي/التحكمي في الحقل السياسي ، بما يتنافى مع روح دستور 2011 الذي تأسس على مبدأ الفصل ما بين السلطات والتوازن فيما بينها من خلال التحديد الدقيق لاختصاصات الملك وباقي المؤسسات الاخرى ، بمعنى تفريغ الدستور من محتواه واستعصاء الولوج الى نطاق التنزيل الديمقراطي للدستور الذي تتشدق النخب السياسية/الحزبية في التلفظ به دون العمل به. إن النسق السياسي المغربي من خلال هذه السلوكيات الحزبية سيظل محكوما بمنطق الشخصنة القائم على أساس العلاقات الشخصية وإصدار الأوامر والتعليمات في كل القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، حيث يظل الملك هو الفاعل المحوري والرئيسي دونما الاحزاب السياسية التي تظل في حالة تبعية وخضوع للإرادة الملكية ، فما معنى أن يتم استنفار الاجهزة التقريرية في حزب الاستقلال (المجلس الوطني واللجنة التنفيذية )،لاتخاذ قرار الانسحاب مع الانتظار والاحتكام الى التحكيم الملكي من خلال الفصل 42 ، مع أن القرار الحزبي غير مرتبط بهذا الفصل ،فليس هناك ما يؤكد ان اتخاذ أي قرار حزبي ونفاذيته رهينة بالتحكيم الملكي بغض النظر عن حجم تداعياته ونتائجه ، فالأمر كان من الممكن أن يحتكم إلى آليات اخرى تعزز من نضج الفعل السياسي الحزبي سواء من خلال اعادة ترتيب البيت الداخلي للتحالف الحكومي أو تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها من أجل تجاوز اختلالات التحالف الحالي والتي ستشكل محطة حقيقية لتقييم الاداء الحكومي بصفة عامة. فما معنى أن يتم الابقاء على تحالف حكومي عناصر التشرذم والتفكك فيه اكبر من عناصر الجمع والتجانس ،والذي يؤثر على الاداء الحكومي بشكل كبير ،حيث ان تكلفة الابقاء عليه قد تكلف المواطنين والوطن مدة زمنية قد تتجاوز مدة ولايته وقد تستمر تداعياته ونتائجه لمدة طويلة في حين ان اجراء انتخابات سابقة لأوانها قد تكون تكلفتها قليلة ، أو إعادة ترتيب البيت الداخلي للتحالف الحكومي وفق قواعد وشروط معقولة . وحتى من ينادي بضرورة تغليب منطق الحفاظ على الاستقرار السياسي /الحكومي على حساب الاداء الحكومي الجيد هو منطق مرفوض ومقلوب ،خصوصا وان هذه الهزات والرجات السياسية التي تقع يمكنها ان تؤول الى نضج الفعل السياسي والحزبي وتساهم في عقلنة المشهد السياسي ويمكن ان تكون لها نتائج ايجابية على المدى المتوسط والبعيد ، عكس إبقاء الأمور على حالها وخلق الاغلبيات الحكومية الآلية والقسرية غير المبنية على اسس ايديولوجية وسياسية واضحة، والتي تشكل الارادة الملكية صمام امان بالنسبة لها فقط. إن البناء الديمقراطي الحقيقي بحاجة إلى أحزاب سياسية قوية تملك سلطة التقرير بما يخدم مصلحة الوطن والمواطنين بعيدا عن المزايدات السياسية الضيقة ، حيث هي المعنية في التعبير على سلوكيات وممارسات تسير في اتجاه التأويل الذي يخدم التنزيل السليم والديمقراطي للمقتضيات الدستورية ، ولعل المضي في هذا المنحى والمنوال المعتلين دائما ما يؤدي ضريبته الديمقراطية والمواطن على حد سواء.