قال الدكتور محمد الحافظ الروسي إن كثيرا من أهل العلم فضلوا أن يترفعوا عن الرد على عصيد مكتفين بما كتبه غيرهم خشية أن يصبحوا حديث المجالس وأن يلحقهم ما وصفه بسباب أنصار عصيد ما لا تتحمله أنفس العلماء. مؤكدا أن القراءة لا تكون بالهوى والفهم السقيم، وإنما لمن يمتلك الأدوات، ولا يظن محمد الحافظ الروسي أن أحمد عصيد من أهل العلم باللغة والسيرة وفقه الحديث، ولا ممن يحسن الجمع بين النصوص الشرعية والموازنة بينها، ولا ممن يعرف قواعد الترجيح بينها، ولا ممن يتغلغل إلى خفايا المقاصد، ولا ممن يرجع إليهم في تصحيح الأسانيد لكي يتسنى له الخوض فيما خاض فيه من غير علم. أستاذ البلاغة بجامعة عبد المالك السعدي، أعرب في حواره أن عصيد كان يبحث في الكتب المدرسية عن شيء يؤلب به الناس على مجموعة من رجال التعليم أخلصوا لوطنهم، ودينهم. كيف تقرؤون رأي الناشط الأمازيغي أحمد عصيد في رسائل الرسول الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ؟ وصف عصيد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجملة من الأوصاف هي: أولا: إنها رسالة تهديدية. ثانيا: إنها رسالة ضد حوار الأديان. ثالثا: إنها رسالة ضد الحريات. رابعا: إنها رسالة غير صالحة لكي تدرس للتلامذة الصغار. خامسا: إنها رسالة إرهابية. سادسا: إنها رسالة ترتبط بسياق قديم كان فيه الدين ينشر بالسيف والعنف. ومعنى ذلك أن الإسلام دين عنف نشر بالسيف. وهذه خرافة قديمة يقول بها من ينقل بغير تثبت ولا تمحيص، ويتكلم بغير علم ولا معرفة ولا فهم. وقد فرغ الناس من ردها، وبينوا تهافتها. بل إن بعض المؤرخين الإسبان وهو إغناسيو أولاغي كتب كتابا صدر في برشلونة سنة:1974م تحت عنوان : الثورة الإسلامية في الغرب. دحض فيه الرأي القائل بأن الإسلام دخل الأندلس بالسيف. وقد لخص مضامين هذا الكتاب الأستاذ إسماعيل الأمين في كتاب سماه: العرب لم يغزوا الأندلس: رؤية تاريخية مختلفة. سابعا: إن معنى الرسالة كما فهمه عصيد وبينه هو : إما أن تسلم وإما أن تموت. ثامنا: إن تدريس هذا المعنى شيء غير مشرف. تاسعا: إنها من الأمور التي تتعارض كليا مع ما نتحدث عنه من قيم وحقوق الإنسان. وهذه أوصاف يكفي بعضها إذا وصف به كلام أن يُسقط قيمته في نفوس السامعين، خاصة إذا كان السامع خالي الذهن من تصور سابق، أو جاهلا بحقيقة الأمر الذي يتحدث عنه عصيد. والواقع إن تصور الكلام لا يكون بمنأى عن تمثل صاحبه، فنحن نقدر الناس بكلامهم وبما يصدر عنهم من أقوال وأفعال، فيرتفع شأنهم عندنا أو ينزل. والقائل هنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشارح هو عصيد. وقد قيل لعصيد بعد ذلك في حوار معه : إن بعض الفقهاء يفسرون هذه العبارة بمعنى أسلم تسلم لك الآخرة. وهو سؤال يوحي بأن صاحبه يميل إلى عصيد ميلا عظيما أو أنه لا علم له. لأن ما قاله عصيد لا يوجد إلا في بعض الكتابات الأعجمية، ولم يقل به أحد من علماء الإسلام فيما نعلم. فأجاب عصيد: هذه قراءة، وهناك قراءة أخرى. يقصد فهمه الخاص لهذه العبارة. وهذا لا يسمى قراءة، لأن القراءة هي ما يدل عليه النص بوجه من الوجوه، ولو عن طريق المجاز، وما قامت عليه القرائن، ودلت عليه اللغة، وشهد له الاستعمال، ورجحه السياق. لماذا لا يمكن أن نعتبر ما قاله أحمد عصيد قراءة ؟ لأن القراءة لا تكون بالهوى والفهم السقيم، وإنما يضطلع بقراءة النص من يمتلك أدوات قراءته، ولا أظن عصيدا من أهل العلم باللغة والسيرة وفقه الحديث، ولا ممن يحسن الجمع بين النصوص الشرعية والموازنة بينها، ولا ممن يعرف قواعد الترجيح بينها، ولا ممن يتغلغل إلى خفايا المقاصد، ولا ممن يرجع إليهم في تصحيح الأسانيد. وإنما هو رجل تكلم فيما لا يفقهه، فجره ذلك إلى خطل كثير، وقديما قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى : ومن تكلم في غير فنه أتى بمثل هذه الأعاجيب. ثم أظهر له جِلَّةٌ من العلماء أن فهمه للنص غير صحيح، فلم يصحح فهمه، ولا أظهر لهم الوجه الذي أدركه هو وخفي عنهم في فهمه لهذا النص. وإنما فزع إلى التهديد والتخويف، ووصف مخالفيه بجملة من الصفات المرعبة. فأخرج الحوار عن جوهره، وهو النص نفسه، إلى ما له علقة بكل شيء إلا النص. وهو في كل ذلك يدعي الحوار والعلم والتفتح والمعرفة والتحديث والمعاصرة وما شئت من الصفات التي يسبغها على نفسه وينزعها عن غيره. ففضل كثير من أهل العلم أن يترفعوا عن جوابه مكتفين بما كتبه غيرهم خشية أن يصبحوا حديث المجالس وأن يلحقهم من سباب أنصار عصيد ما لا تتحمله أنفس العلماء. من خلال كلام عصيد وموقفه ما هي الصورة التي يمكن أن ترتسم في ذهن المتلقي ؟ لك أن تتخيل السامع يتصور الصورة التي يوحي بها كلام عصيد، وهي صورة مجموعة من التلامذة الصغار، وهم يدرسون هذا النص النبوي. وقد وقف أستاذ يشرح لهم الدرس، مستغلا سذاجتهم، وضعف علمهم، وقلة تجربتهم، ورغبتهم في التحصيل. فيسألهم: ماذا فهمتم من هذا النص؟. فيقولون: معنى النص أنه يجب أن نكتب لرؤساء العالم وملوكه نقول لهم: إما أن تسلموا وإما أنكم ستموتون. فيقول لهم الأستاذ: أحسنتم. وقد يقترح عليهم من باب بيان ما في النص من معان دقيقة، ومن باب اختصار الوقت أيضا أن تكتب رسالة تهديدية واحدة إلى رؤساء الكفار المجتمعين في الأممالمتحدة، ومجلس الأمن فيها هذا المعنى. وهذا كلام لم ينطق به أستاذ واحد من أساتذة التربية الإسلامية بالمغرب، ولا يمكن أن ينطق به مجنون في بيمارستان. فكيف ينسب لسيد الخلق هذا المعنى وما يمكن أن يترتب عنه من دلالات؟. وأنا أجزم لك أن ما يستنبطه أهل العلم من رسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم مجموع في نقائض الأوصاف التي ذكرها عصيد. فقد ذكر أنها رسالة تهديدية. وأنها رسالة ضد حوار الأديان. و ضد الحريات. و غير صالحة لكي تدرس للتلامذة الصغار. وأنها رسالة إرهابية. وأنها ترتبط بسياق قديم كان فيه الدين ينشر بالسيف والعنف. وأن معناها هو : إما أن تسلم وإما أن تموت. وأن تدريس هذا المعنى شيء غير مشرف. وأنها تتعارض كليا مع ما نتحدث عنه من قيم وحقوق الإنسان. والحقيقة: إنها رسالة حب، وسلام، وحوار، ودفاع عن حرية المستضعفين، ورفض للعنف، ودعوة إلى كلمة سواء، وأن من يريد أن يتعلم الحوار، والحب، واحترام الآخر، والدفاع عن حقوق الإنسان بما هو إنسان، عليه أن يعتكف على فهم دقائق هذه الرسالة ومعانيها الخفية. فوجب تحفيظ هذه الرسالة للتلاميذ، وتبيين ما قاله العلماء فيها، لنربي جيلا يعرف قيمة الحوار ودلالاته معرفة قائمة على الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيعلم أن ذلك من باب العبادة والتقرب إلى الله عز وجل. فيجتنب استعمال هذه المفاهيم التي لا خلاف فيها من أجل سلب الناس كل ما تدل عليه هذه المفاهيم من معان سامية، أو من أجل تفسيق المجتمع، أو من أجل إكمال مشروع استعماري لم تعد أهدافه بخافية على أحد. في رأيك لماذا كل هذا الجدل ؟ لست أظن إلا أن عصيدا كان يبحث في الكتب المدرسية عن شيء يؤلب به الناس على مجموعة من رجال التعليم أخلصوا لوطنهم، ودينهم، فأجهدوا أنفسهم في كتابة كتب للناشئة تنفعهم، فذكر أن ما سماه مشكلا سببه أمر واحد هو: هيمنة تيار إيديولوجي معين على تأليف كتب التربية الإسلامية. ولست أعلم من يقصد، ولا إلى من يشير؟. وهل يرغب في أن يُسَلَّمَ ناصية التلاميذ ليقدم لهم نموذجه الخاص في كتابة درس التربية الإسلامية. ولكنه خص مؤلفي كتب هذه المادة بنقده، ثم قال: ولهذا يصنعون عالما خاصا بهم داخل المنظومة التربوية. فتجد درس التاريخ والفلسفة والآداب والإنجليزية والفرنسية في واد، ودرس التربية الإسلامية وحده في واد آخر. هذا شيء خطير، لا بد أن نلفت الانتباه إليه، لأنه لم يعد مقبولا.اه.وأنت ترى أنه لم يذكر درس العربية، وأنه وصف ما يدرسه التلامذة في درس التربية الإسلامية بوصف الخطورة. ثم حكم أنه لم يعد مقبولا. وفي هذا من التهويل والتهديد ما لا يخفى. ثم اقترح أن يحذف من الدين الذي هو وحي ما لا يطابق ما سماه المرجعية الكونية لحقوق الإنسان، وهي اجتهادات بشرية لا يد لعصيد فيها، وفيها مما يخالف الفطر السوية ما لا يخفى على المطلع على هذه المرجعية التي يصر عصيد على أنها كونية. وقد قدم لنا قياسا فاسدا قاس فيه الإسلام على النصرانية، والمغرب على النرويج، ووصف دين الله تعالى بأنه الماضي، وغيره بأنه اتجاه التاريخ. ودعا إلى أن نقتصر من الدين على ما يرضي أصحاب المرجعية الكونية. فالدين عنده يُصحَّح بالمرجعية الكونية. فعلينا أن نعطي جزية الأفكار ونحن صاغرون. وأن نخضع الدين للأهواء والرغبات والمصالح. وتأمل قوله إن شئت: المثال على ذلك: مقرر النرويج. النرويج عندها دين رسمي في الدستور. أديان رسمية كالمغرب. في الدستور النرويجي. ولكن كيف يدرس الدين في النرويج؟. تمت مطابقته بشكل كامل مع المرجعية الكونية لحقوق الإنسان. كل ما يتعارض مع هذه المرجعية يقصى من التعليم. هذا هو المرجع. المرجع هو اتجاه التاريخ، وليس أبدا هو الماضي.اه. إذا لم يكن المقصود ما صرح به أحمد عصيد هل لكم أن تذكروا لنا ما قاله العلماء في هذا الباب ؟ ما شرحناه سابقا هو مذهب عصيد ورأيه وفهمه الذي تفرد به بين آلاف العلماء الذين كتبوا في هذا الموضوع وقتلوه بحثا نذكر منهم من القدماء الإمام محمد بن طولون الدمشقي(880 953ه) في كتابه: إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين. وابن حَديدة (ت:783ه) في كتابه: المصباح المضي في كُتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي. والعلامة الزرقاني في شرحه للمواهب اللدنية بالمنح المحمدية للقسطلاني. ومن المعاصرين نذكر جملة من أهل العلم وهم: محمد حميد الله في كتابه: مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة. ود. محمد مصطفى الأعظمي في كتابه: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم. ود. مختار الوكيل في رسالته: سفراء النبي عليه السلام وكتابه ورسائله. وعلي بن حافظ بن سالم الوادعي في رسالته للماجستير التي قدمها بجامعة طيبة تحت عنوان: فقه الدعوة في رسائل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء. وفيها رد جيد على شبهات بعض المستشرقين. ود. محمد أرشد العقيلي في كتابه: السفارات النبوية إلى ملوك العالم وأمراء أطراف الجزيرة العربية. واللواء الركن محمود شيث خطاب. في كتابه: سفراء النبي صلى الله عليه وسلم. وخالد سيد علي في كتابه: رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء والقبائل. وحميد محمد العقيلي في كتابه: الأثر والدلالات الإعلامية لرسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والقادة. ومحمد بن عبد اللطيف في كتابه: حول رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والرؤساء. وبالجملة فهذا باب عريض طويل لا يتم حصره إلا بتفرغ تام ، ومشقة كبيرة. ولكنني أذكر لك أن هذه الرسائل قد تعاورت عليها الأفكار، واشتغلت بها العقول، وتناولتها الأقلام، فحللت من كل وجه بما في ذلك تحليلها أسلوبيا وبلاغيا ونحويا. فلم يترك جانب منها إلا وقد قتل بحثا. ومن ذلك الرسالة التي قدمها صالح بن حمد بن محمد الفراج في جامعة أم القرى ونال بها درجة الدكتوراه وكان عنوانها: بناء الجملة في رسائل النبي صلى الله عليه وسلم: دراسة نحوية. غير أن هؤلاء جميعا قديمهم وحديثهم، وعلى اختلاف تخصصاتهم ومشاربهم وقدراتهم عجزوا عن أن يتوصلوا إلى جوانب الإرهاب والتهديد في رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك إلى أن ظهر عصيد فقال بهذا الإفك العجيب، وشغل الناس به، وأصر عليه، دون حجة ولا بينة ولا برهان ولا علم من الكتاب. ومن بعض ما ذكره العلماء مما تضمنته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم من رحمة وتفتح وتواصل وحسن ديبلوماسية ما أذكره لك: 1 فقد وصف هرقل بأنه عظيم الروم، ولم يذكر اسمه مجردا. وفي هذه العبارة من التأليف والإكرام والعناية ما يوافق منهج الإسلام الذي استدلوا عليه بقوله تعالى في سورة طه:"فقولا له قولا لينا". مع أن المخاطب هو أحد جبابرة الأرض، وهو فرعون. وقوله تعالى في سورة النحل:"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن". ولك أن ترجع إن شئت إلى شرح الزرقاني رحمه الله تعالى لتطلع على كلامه وكلام غيره في هذا الموضوع. 2 وخاطب هرقل بقوله:"سلام " قبل قوله: أما بعد فقدم السلام قبل شروعه في مضمون الكتاب. 3 وتكلف اتخاذ خاتم يختم به الكتاب مراعاة للقواعد الديبلوماسية في عصره. 4 واختار الرسولَ العاقلَ الفصيح الجميل الهيئة والصورة، وهو دحية بن خليفة الكلبي. وقد كان يعد من أجمل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. عنايةً بالرسالة وبالمرسَل إليه. فإن المهدد لا يبعث من هذه صفته، وإنما يبعث من تنخلع القلوب لمرآه. 5 وبعث معه رجلا على دين هرقل وهو عدي بن حاتم. فقد كان يومئذ على نصرانيته. وكيف يكون مهددا من لم يسلم بالقتل من جعل أحد رسوليه على دين المرسَل إليه؟. فاختيار مثل هذا الرسول فيه من معاني الود والتسامح والدعوة إلى كلمة سواء ما لا يخفى على أحد. وقد ذكر هذه المسألة ابن السكن في الصحابة، ونقلها عنه الزرقاني في شرحه على المواهب. 6 وبشره بأمرين أولهما: إنه إذا أسلم سلمت له دنياه وآخرته. ولهذا قال العلماء: لو أدرك هرقل ما أدركه النجاشي من هذه البشرى لما خشي على ملكه. لأن الذي منعه من الإسلام خوفه على ملكه كما هو مفصل في كتب السير. فمعنى: تسلم. أي: تسلم لك آخرتك، وتسلم لك دنياك، وتسلم من عذاب النار وغضب الجبار، وتسلم من الوساوس والخوف إلى غير ذلك. ولهذا ذكرت هذه الكلمة في جوامع الكلم النبوي. قال الزرقاني رحمه الله تعالى :"فيه غاية الاختصار، ونهاية الإيجاز والبلاغة وجمع المعاني، مع مافيه من البديع، وهو الجناس الاشتقاقي..إلى آخر ما قاله في كتابه". وثانيهما: الأجر المضاعف لإيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإيمانه بعيسى بن مريم، أو لإيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكونه سببا في دخول أتباعه دين الإسلام. 7 وقال له: إن توليت، ولم يقل له: إن أبيت أو نكصت وما أشبه ذلك. تلطيفا للعبارة، لأن أصل التولي أن يكون بالوجه ثم استعمل مجازا في الإعراض عن الشيء، فهو استعارة تبعية. وهو معنى لطيف ما لم يقرن به على سبيل الإضافة أو غيرها ما يشنعه. 8 وذكره بمن يتحمل مسؤوليتهم، وفي هذا أمران: أمر متعلق بهرقل، فهو يذكره بمسؤوليته، ويُعَظم الأجر الحاصل عن تحملها. وأمر متعلق بالإحساس بمعاناة وآلام هؤلاء الفلاحين الفقراء التابعين الذين لا حول لهم ولا قوة. وهم الأريسيون. وتشرح ذلك رواية ابن إسحاق ولفظها: فإن عليك إثم الأكارين، أي الحراثين. وعند المدائني: فإن عليك إثم الفلاحين. وعند أبي عبيد: وإن لم تدخل في الإسلام، فلا تحل بين الفلاحين وبين الإسلام. وهذا هو منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: خلوا بيني وبين الناس. وهذا الفهم أقوى وأوسع من فهم من ذكر أنه يقصد أتباع الراهب آريوس، ودلائله أوضح والروايات الأخرى تعضده. بالإضافة إلى أننا إذا صدقنا علماء الكنيسة فسنقول بأن آريوس لم يؤمن بإله واحد، بل بثلاثة، الأول خالق، والثاني مخلوق وخالق، والثالث مخلوق. ولم يقل بأن المسيح إنسان، بل قال: إن الابن لما تجسد حل في جسد بلا روح إنسانية. وأن الكلمة/الابن حل في الجسد محل الروح الإنسانية. فهو عنده لم يكن إنسانا مطلقا، بل إله حل في جسد إنسان، ولم يتخذ الطبيعة الإنسانية الكاملة، بل احتجب في جسد بلا روح. وما تقوله عنه المصادر العربية لا يستقيم. وقد أفاض علماء الكنيسة في شرح مذهبه. 9 وفي هذه الرسالة من الدعوة إلى الحوار واعتماد المشترك الذي هو كلمة التوحيد ما لا يخفى. وذلك قوله: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم. يقصد: لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل، وهي كلمة التوحيد. 10 وفيها من الدعوة إلى الحرية واستعمال العقل بترك ما أحدثه رجال الدين من التحليل والتحريم، لأنهم بشر مثلنا. قوله:"ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله". 11 وأخيرا فإن العلماء قد اتفقوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في قوله: أسلم تسلم بين الأمر والترغيب. ولم يذكر أحد أن في: "تسلم" معنى الترهيب. وإنما سياق الترهيب عندهم في انتصار النبي صلى الله عليه وسلم للمستضعفين والفقراء في قوله: فإن عليك إثمَ الأريسيين. وفي ذلك يقول الخطابي:"المراد أنه عليه إثم الضعفاء..". وماذا بعد؟.. فقد قال عصيد:"المشكل أن عددا من الناس يعتقدون أن الأفكار التي أقول هي أفكاري، وإنما هي أفكار تيار واسع في المجتمع: أفكار حركات مدنية وسياسية، وأحزاب، ومثقفين، وفنانين، ونخب كبيرة لها نفس الرأي. والدليل على ذلك تضامنهم معي. جميع المنظمات الحقوقية في البلاد تضامنت معي، ناس مختصون في حقوق الإنسان. لو كنت على خطأ لنبهوني. الحركات المدنية، الحركات النسائية، الحركات الأمازيغية، المثقفون، شخصيات وطنية وازنة. ماذا يعني هذا التضامن؟إنه يعني أن عصيدا لا يقول كلاما هو وحده يقوله..". ومعنى هذا أولا أن عصيدا يقول ما لا يستطيع غيره أن يقوله علنا. وأن غيره يأكل الثوم بفمه. ومعناه ثانيا أن عصيدا لا يعتبر الخطأ خطأ إلا إذا نبهه عليه هؤلاء. أما ما نبهه عليه غيرهم فإنه لا يلتفت إليه. لذلك قال: لو كنت على خطأ لنبهوني. ومعناه ثالثا أنه لا يعترف من الحركات النسائية، والحركات الأمازيغية إلا بمن يعضده وينصره وهو على باطل. ومعناه رابعا أنه يهول على الناس ويذكر كثرة من معه دون التفات إلى الحق في نفسه. ثم توجه عصيد إلى من صحح له أخطاءه فخاطبه بلسان غليظ حديد وحشد له من الصفات ما تراه في قوله:" ينبغي أن نزيل ثقافة التحريض والتهديد والوعيد والإشاعة الكاذبة. ونخدم بالمعقول الذي هو الفكر الحي والأدلة والبراهين والمحاججة والمناظرة". وبما أنه وصف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه تهديدي، فقد كان حريصا على أن يذكر أتباعه بأنهم يتصفون بالصفات نفسها التي وصف بها كلام رسولهم، صلى الله عليه وسلم، ثم نزع عنهم صفة الفكر الحي، ففكرهم ميت إذن، ومع ذلك دعاهم إلى المناظرة ثم تطوع بتعريفها فقال:" يذهب الناس للمناظرة على أنهم مختلفون، ويتبادلون الأفكار لكي يتقاربوا لكي يصلوا إلى ما نسميه المشترك العام الذي يجمع المغاربة". غير أنه يقول بعد ذلك:"هناك تفكير لم يستفد شيئا من عصرنا، وما زال يستمد معجمه ومصطلحاته من فكر فقهي وإنساني قديم، مر في مرحلة لم تعد باقية، وينبغي أن يجدد نفسه. ينبغي لهذا الفكر الديني أن يجدد نفسه، ويستفيد من علوم العصر، ويستفيد أيضا من قيم عصرنا لكي نستطيع التفاهم على اختلافنا". فوضع شرطا للتفاهم هو أن يستفيد الفكر الفقهي من علوم العصر وقيمه. ولأننا نعرف أن عصيدا لا يفقه شيئا في الفقه، ولا يعرف كيف يكون التجديد فيه، ولم يطلع على أعمال المجددين فيه أيضا. فهو في مصطلح العلماء لا يناظر وإنما يجادل، لأنه يشترط في المناظرة معرفة حجج خصمك، ولا يشترط ذلك في المجادلة، لأنها ضرب من المنازعة بغاية إلزام الخصم. وأنا أظنه قد فهم بعدما سمع ردود العلماء أن ما قاله عن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم خطأٌ بَيِّنٌ، وقد قالوا: فإذا علم بفساد كلامه وصحة كلام خصمه فنازعه فهي المكابرة. فهو هنا في مقام المكابرة، وهو هناك في مقام المجادلة. وهما مقامان لا يكون منهما خير. وإن من الفضائل الرجوع إلى الحق، والتماس طرقه. فإذا رأيت الرجل لا يطلب الحق، وإنما يطلب الشهوة والصخب والثرثرة، فاعلم أن له مآرب أخرى. ومما يريده طائفة من الناس إسقاط مكانة النبي صلى الله عليه وسلم من النفوس، وجعله مادة للبحث والنظر بقصد الانتقاد، وإسقاط هيبة الوحي، وجعل خطرفات المخلوقين مقدمة على كلام الخالق. وهم يسمون ذلك: تكسير الطابوهات. فإن لم يكن لهم إلا هذا فقد حققوا شيئا، حيث سيصبح مثل هذا القول مقبولا ، لا يحرج أحدا، ولا يحرك عاطفة، ويذكر أصحابه في ديوان أصحاب الفكر الحر، والنظر البعيد، وهم أبعد خلق الله تعالى عن فكر، وعن نظر، وعن علم.