بعد أن توسعت مساحة التعبير والرأي وتطورت وسائل الكتابة ، وبعد أن أصبح انتشار الرأي والفكر متاحا لكل كاتب ومثقف بدأنا نرى في المغرب ظاهرة استقالة المثقف في هذا البلد ، من دوره وعمله الذي يتجلى في إبداء رأيه في القضايا والمشاكل الاجتماعية التي يعيشها المواطن المغربي بصفة عامة . لقد ابتعد المثقف المغربي عن الحياة اليومية وعن قضايا المواطن ، ورام الكتابة الأدبية – وذلك في صمت يكاد يكون مبينا – هدفا في الابتعاد عن المشاكل مع السلطة والبحث عن راحة البال . وصار الشاعر يكتب عن الحب أكثر ويمارس التقية الشعرية – إن صح التعبير – في قصيدته ، وأصبح القاص يكتب قصصا هي أقرب إلى الميوعة منها إلى نقد الظواهر الاجتماعية المختلفة داخل المجتمع المغربي ، بينما بات الروائي يستغرق في كتابة الرواية البوليسية والجنسية وغيرها من المواضيع التي تبتعد عن الحياة اليومية للمغاربة . "" في عقود مضت كتب المبدع المغربي في كل شيء وساهم في طرق مواضيع سياسية واجتماعية كانت كافية لإدخاله السجن أو إعدامه ، بل هناك من المبدعين المغاربة من عاش حياته على التهديد بالتصفية ولكنه لم يتراجع عن مواقفه وآرائه وخطه الإبداعي لأنه كان مؤمنا برسالته الثقافية التي تفترض فيه تنوير المجتمع وتثقيفه وفضح ممارسات السلطة . بينما اليوم نعيش فراغا ثقافيا واضحا ، ولا نسمع للمثقف المغربي صوتا في قضاياه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحتى الثقافية . فالمبدع غائب عن ممارسة إبداعه النقدي والتحريضي ، والمسرحي قد مات في غيابات الدعم الرسمي لأعماله والذي يصعب عليه أن ينتقد السلطة من خلال المسرح لأنه لا يمكن إنكار جميلها المادي ، وحده الصحفي المستقل الذي يعاني في الساحة لكي ينقل الوقائع للشعب المغربي وتنويره بالحقيقة لكنه يحارب بكل الوسائل ولا يجد أحدا إلى جانبه . وللأسف الشديد فإن هذه الاستقالة الواضحة للمثقف المغربي تجاه قضايا بلده ووطنه ومجتمعه قد تركت الحرية للسلطة في البلد أن تفعل ما تريد . وبالتالي فعوض خلق مناظرة بين السلطة وبين المثقف للجمها عن أفعالها ومنعها من التمادي فيها ، فإننا أصبحنا نعيش نوعا من المداهنة عند بعض المثقفين المغاربة تجاه السلطة الحاكمة . وما دمنا لا نؤمن بتعميم الظواهر المرضية على أي فئة أو مجتمع ما فإننا مؤمنون أيضا بأن هناك بعض المثقفين المغاربة وخاصة الشباب منهم ما يزالون على العهد ويحافظون على الشعرة التي تمثل مواصفات المثقف المبدع الحقيقي الذي يؤمن بدوره في تنوير المجتمع وبناء ثقافته وحضارته . لقد احتلت النظرة التبسيطية للأمور أفكار ورؤى العديد من المثقفين والأدباء المحسوبين على الأجيال الأولى أي أجيال الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات . وأصبحت الرؤية السطحية للقضايا الاجتماعية ديدن البعض منهم ، فتارة يكتبون مقالات لا تناقش هذه القضايا من الداخل وفي العمق وتحلل الظواهر الكامنة فيها ، وتارة نعيش موتا سريريا – إن صح التعبير – لبعض المبدعين والمثقفين الذين تقاعدوا مبكرا خلافا لأشقائهم في المشرق العربي . لقد بلغت مأساة الصمت عند المثقف المغربي إلى ذروتها ،وتأكد بالملموس ضعفه في مجاراة الوقائع والأحداث المجتمعية التي يعاني منها أغلب الشعب . والحكمة في هذا الصمت هي تمكن البعض من المثقفين من تحقيق متطلبات العيش الرغيد ، وقبول البعض منهم بكذبة المصالحة الوطنية التي أقنعتهم بصدق مقولاتها ونتائجها الهزيلة التي لم ترق إلى مستوى مطالب العديد من الهيئات الحقوقية والسياسية في المغرب . وهكذا صار المثقف المغربي الذي استقال من عمله ورام الصمت والانتماء إلى جمعيات وإطارات لا تهش ولا تنش ، بل تبارك كل قرارات السلطة في البلاد ببيانات ميتة قبل قراءتها والاطلاع عليها ، وباع صوته لها مقابل عضوية وانتماء لا يسمن ولا يغني من جوع . وبقي له فقط أن يبصم بالعشرة على سياسات الدولة مادامت راضية عنه وعن إطاره الثقافي والجمعوي . المثقف هو صوت الشعب المقهور ، هو لسانه القوي الذي يندد بالقرار المجحف في حقه ، هو المدافع عن حقوقه المهدورة بكل الوسائل ، هو الملجأ الذي يبقى للشعب بعدما يخيب رجاؤه في كل الملاجيء الأخرى . فهل استطاع المثقف المغربي أن يقنع الشعب المغربي بهذا ؟ . وباستدعاء بعض المحطات التي حدثت فيها الكثير من التجاوزات من طرف الدولة المغربية في حق بعض فئات الشعب ، فإننا سنتبين حقيقة المثقف الذي كان الصمت هو السمة البارزة عليه في هذه المحطات . فأحداث صفرو وسيدي إفني والزيادات المتتالية في أسعار المواد الاستهلاكية والسياسات الممنهجة ضد إصلاح التربية والتعليم والصحة والحالة الاجتماعية للمواطن ... كل هذه الأحداث أبانت عن استقالة هذا المثقف وتورطه في مباركة سياسات الدولة من حيث يدري أو لا يدري... عزيز العرباوي كاتب وشاعر مغربي [email protected]