ذكرني الجدل الدائر حول فتوى المجلس العلمي الأعلى، بخصوص حكم المرتد في الإسلام، بما واكب أحداث الحادي عشر من مارس الإرهابية، من سجال ونقاش ومزايدات سياسية وإيديولوجية، حيث لم يأل العلمانيون المغاربة جهدا في استغلال تلك الأحداث، بشتى الطرق والأساليب، وإلى أقصى حد ممكن، في تصفية حساباتهم مع خصومهم، وفي البحث عن كبش فداء يؤدي فاتورة تلك الأحداث، فاخترعوا نظرية " المسؤولية المعنوية" لتوريط بعض الأطراف، وشنوا حملة مسعورة على الدعاة والخطباء والوعاظ، وملئوا الدنيا بكاء وعويلا، على ما آل إليه أمر الفتوى – في نظرهم – من تسيب وفوضى، ودعوا إلى إحداث مؤسسة رسمية للفتوى، تلبي حاجة الأمة من العلم الشرعي، ويناط بها أمر الفتوى بشكل حصري، بل دعى بعضهم إلى محاكمة كل من يتجرأ على الفتوى خارج إطار المؤسسة العلمية الرسمية. استجابت الدولة لكثير من مطالب العلمانيين وغيرهم في تلك المرحلة، فجاءت هيكلة الحقل الديني، وتم إحداث المجلس العلمي الأعلى، باعتباره مؤسسة رسمية للفتوى، ومرجعا للاجتهاد الشرعي الجماعي، حفظا للأمن الروحي للمغاربة، وحرصا على وحدتهم الدينية والمذهبية، واحترازا من الفتاوى الجاهزة، والمذاهب المتطرفة، فتحول المجلس – مع الإصلاح الدستوري الأخير – إلى مؤسسة دستورية، تختص بالفتوى وتقديم الرأي والنظر الشرعي دون سواها. استغرقت هيكلة الحقل الديني، وإرساء الهياكل والمؤسسات الدينية الرسمية، مدة ليست بالقصيرة، وكلفت خزينة الدولة أموالا طائلة وإمكانيات هائلة، فبدأت المؤسسات تعمل والنتائج تظهر إلى الوجود، فكان من سوء حظ العلمانيين أن كانت فتوى حكم المرتد من أولى الفتاوى البارزة والحاسمة التي أصدرها المجلس العلمي الأعلى، حسما للجدل الدائر حول ما يسميه البعض ب "حرية المعتقد"، إذ شكلت فرصة مواتية لاختبار مدى احترام العلمانيين للمؤسسة الدينية الرسمية، ومدى التزامهم بمقتضيات دستور المملكة، لكن سرعان ما انكشفت عورة العلمانيين، وظهرت حقيقتهم، وسقط القناع عن وجههم القبيح، وتبين بالمكشوف أنهم لا يحترمون مؤسسة، ولا يرعون لجهة حرمة، ولا يرقبون فيمن يخالفهم إلا ولا ذمة، ولذلك رفعوا عقيرتهم بالصياح مجددا، وشرعوا في شن حملة مسعورة جديدة، على المجلس العلمي الأعلى، وعلى الفتوى التي أصدرها، متهمين إياها بالعيش خارج التاريخ، وبمعاداة الحقوق والحريات، وبالرجعية والماضوية، ولم يدعوا وصفا قدحيا ولا نعتا سلبيا إلا نسبوه إليه، ناسين أو متناسين الحقائق الآتية: أولا: أن المجلس العلمي الأعلى، مؤسسة علمية دستورية، يرأسها ملك البلاد بصفته أميرا للمؤمنين، وأن التشويش عليها تشويش على إمارة المؤمنين، وتشويش على الدستور والمؤسسات الدستورية، وتشويش على الأمن الروحي للمغاربة، الذي بات شأنا منظما ومؤسسا، لا مكان فيه للتسيب والفوضى، كما ظل العلمانيون يطالبون. ثانيا: أن المجلس العلمي الأعلى يضم سبعة وأربعين عالما وعالمة من خيرة علماء المغرب، المشهود لهم بالعلم والفهم، والاعتدال والاتزان، واحترام ثوابت المغاربة التي انعقد عليها إجماعهم التاريخي، وهي: (العقيدة الأشعرية، والمذهب المالكي، والتصوف السني)، فكيف يعترض على اجتهاد اجتهدوه، وعلى فتوى صدرت عنهم، وهم أهل الشأن والاختصاص شرعا وقانونا، وغيرهم تبع لهم وتحت إمرتهم. ثالثا: أن المعترضين على الفتوى لا يتمتعون بأية أهلية علمية، ولا شرعية قانونية، ولا صفة تمثيلية، وإنما هم متطفلون يتدخلون في الصغيرة والكبيرة من عمل كل هيئة ومؤسسة، وينصبون أنفسهم أوصياء على المغاربة وشؤونهم العامة، وإنما هم حفنة من المتطرفين والشذاذ، الذين لا يمثلون إلا أنفسهم، ولا يمثلون مغربيا أصيلا واحدا. رابعا: أنه إن كان هناك من تحفظ أو استدراك، على رأي أو فتوى للمؤسسة العلمية الرسمية، فإنه إنما يكون من علماء الشريعة، ومن أهل الرأي والنظر الشرعي، وليس ممن هب ودب من المناضلين والحقوقيين وأنصاف المثقفين، ممن لا يحفظ آية من كتاب الله تعالى، ولا حديثا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن حفظه لم يفهم معناه، ولم يدر شيئا عن مناطه ومحل تنزيله. خامسا: أن فسح المجال للاعتراض والمشاغبة، على عمل المؤسسات الدستورية، والهيئات المختصة، من غير أهل الاختصاص والأهلية الشرعية والقانونية، من شأنه أن يعوق المؤسسات عن أداء مهامها والقيام بواجباتها، وأن يحول تدبير الشأن العام للأمة إلى تسيب وفوضى، وأن يفسح المجال لكثير من صغار العقول ومرضى النفوس، أن يعبثوا بأمن واستقرار الوطن، وبانتظام واتساق السير العام للدولة والمجتمع، وفي ذلك من التهور والمغامرة ما فيه. وبكلمة، هل سيؤوب العلمانيون إلى رشدهم، ويكفوا عن التشويش والمشاغبة، على عمل المؤسسات الدستورية والهيئات المختصة؟ أم سيركبون رِؤوسهم ويعتصمون بسياسة الهروب إلى الأمام كعادتهم، فيزدادون افتضاحا وانكشافا؟ الأيام القليلة القابلة كفيلة بالإجابة.