من المفاهيم التي أثلها الفيلسوف طه عبد الرحمن في كتابه المتفرد :" روح الدين من ضيق العَلمانية إلى سَعة الائتمانية"، مفهوم الشهادة، و كل ما اشتق من مادة ) ش،ه، د)، ومن الاشتقاقات الواردة في كتابه:" الشهود، الشهادة، التشهيد، الشاهدية، شاهد، مشاهدة، شهيد، تشهد، الشهادتان، الشاهد، شهود، الشاهدين، أشهدك ما شاهدت، شهودك من إشهاده، إشهاد، المشهد، المستشهد.. "، و يسري هذا المفهوم في كتابه، سريان الدم في العروق، هو مفهوم أصل، تتوزع تحته الكثير من الفروع، مشكِّلة منظومة مفهومية متميزة. على هذا الأساس، ابتكر طه نظرية اصطلح عليها "التواصل الشَّهادي"، جاء ذلك نقدا لنظرية الفيسوف الألماني يورغان هابرماس في "التواصل الاستدلالي" .. ببساطة، نظرية " التواصل الشَّهادي" تستند على رؤية عميقة، و فهم دقيق " للإنسان"، فهو يوجد في عالم الشهادة، و ينْوجِد في عالم الغيب، فهو ظاهرة مركبة، لا تستسلم لمنطق الأحاديات، ثم إن كينونته الإنسانية، تتجاذبها نزوات " النفس" و أشواق " الروح "، فطه يميز تمييزا بديعا بين معنيي النفس و الروح، فكل آفة شريرة مبعثها من الأولى، و كل آفة خيرة مبعثها من الثانية، فيعيش الإنسان بين كِفتين، في كل مرة؛ إحداها راجحة أو مرجوحة.. استثمر طه هذا التصور في مناقشته لمسألة التواصل و الحوار بين الناس في " الفضاء العمومي"، فلم يكتف بنظرية التواصل الاستدلالي العقلاني، الذي حدد قيمه و شروطه هابرماس، بل زاد على ذلك، بعبقرية مذهلة في التدقيق و الاستنتاج، حيث ذهب إلى أن المُحاور الذي يتوسل بآليات الاستدلال مثلا، في حالة ما إذا كان استدلاله خاطئا، نقول إن هذا المُستدل أخل بموجبات العقل، و انتهى الموضوع !، لكن بالنسبة للمُحاور الذي يريد التخلق بقيمة الشهادة، في حالة ما إذا كانت شهادته خاطئة، لا نقول إن شهادته باطلة، و ختمنا الحوار، بل نتصوره أنه أوقع نفسه في فضيحة أخلاقية مزلزلة، و أول وصف نرمي به في وجهه، إنك كذاب، و تسقط عدالته !.. واضح أن طه يتقصد الوصول إلى عمق أزمة التواصل بين الناس، فليس الإشكال، هو الإخلال بمقتضايات الاستدلال المنطقي، بل الإشكال الأكبر يتعلق بطبيعة " النفس البشرية" ، التي تميل مع أهواء التعصب و الكذب و الحقد و الكراهية، هذه النفس إذا ما تخلقت بقيمة " الشهادة" باعتبارها الإخبار عن معلوم مشهود بصدقه، و إشهاد الناس على أن يبلغوه صادقا كما هو، إذا تحققت بجوهر هذه القيمة، ستتعامل مع التواصل بروح وثقافة أخرى.. يبين طه أن الشاهِد في محاوراته، تكون صلته بأدلته، صلة الإيمان الوجداني، بل قد يصل إلى درجة الاعتقاد بما سيخبر به، عكس المستدِل في محاوراته، أفقه هو الاقتناع بما سيخبر به دون أن تربطه به علاقة وجدانية ملتهبة، ولذلك يقول طه:" فالشاهِد يكون أحرص على صدق شهادته، من حرص المستدل على صحة دليله، لأن في ذهاب صدقها، إتلاف وجدانه، فضلا عن ذهاب عدالته، في حين أن ذهاب صحة الدليل لا يذهب بعدالة المستدِل، فضلا عن أن يتلف وجدانه". إن طه عبد الرحمن؛ نعم يحلق في سماء الفلسفة الممزوجة بتسابيح الروح، لكنه لا يعزل نفسه في برج سماوي، بل ينظر من سمائه إلى واقع أزمات الإنسان المعاصر أكان مسلما أم غير ذلك، و أخطر الأزمات، أن سكان العالم كسروا طول المسافات، متحدثين بابتهاج عن " القرية الصغيرة"، فتحقق لهم الاتصال، و تدفقت الأخبار و المعلومات و المعارف، لكنهم عاجزون عن إطفاء صوت المدافع و البنادق، عاجزون عن التعايش و التوافق في ظل الأمن و الأمان، عاجزون عن احترام الرأي المخالف و مناقشته بأسلوب حضاري.. أمام نظرية طه، نكتشف أن الإنسان المعاصر في تواصله، تخلى عن آليات الاستدلال المنطقي، و تخلى عن قيمة الشهادة، يا للهول !، الشيء الذي يدفع إلى طرح السؤال: هل أصبح الإنسان ذئبا ضاريا يعيش في غابة الغلبة المخادع؟ [email protected]