عندما وصلت وحدات التّدخل لإنقاذ عمّال وحدة النّسيج في طنجة من الغرق، كانت جثثهم تطفو على السّطح. كان المشهد قاسيا ودراماتيكيا..حقيبة يدوية تعود لشابّة كانت تقصد "المعمل السّري" في الصّباحات الباردة من أجل أجر زهيد تتلقّاه في آخر الشّهر وُجدت غير بعيد عن جثّتها.. وبقايا طعام لم يتمكّن صاحبه من تناوله بعدما فاجئه التّيار المائي وأخذ روحه. "مازالت وجوه الضّحايا بين عيني. أن تغرق في مقرّ العمل أمر لا يتصور. الناس يغرقون في البحر أو النهر.. ولكن غرقى في العمل ...لا أستوعب هذا الأمر"، الشّهادة هنا لطبيب استقبل جثث الضّحايا صبيحة أمس الإثنين. الحادث الذي هزّ المغرب خلّف إلى حدود اللّحظة، 29 قتيلا، غالبيتهم من النّساء. بينما تستمر السّلطات في إنقاذ باقي العالقين الذين نجوا من الموت بأعجوبة. جثث بدون هوّية الإثنين 8 فبراير يوم عادي داخل ورشة للنّسيج تضمّ أزيد من 100 عامل، غالبيتهم من النّساء، قدمن من مدن مختلفة إلى طنجة بحثا عن عمل يضمن كرامتهنّ، كانت مظاهر الحياة داخل هذا المعمل الذي وصفته السّلطات ب"السّري" عادية، فالكلّ كان منهمكا في عمله، وهناك من كان ينسج أحلاما داخل قبو "الفيلا"، بينما كان الموت في الجهة المحاذية يستعدّ للانقضاض على أرواح بريئة... عند حدود السّاعة الثامنة وعشر دقائق، بدأت مياه الأمطار تقتحم مقرّ الورشة "السّرية"، حاول بعض العمال الاتّصال بعائلاتهم من أجل نقل معاناتهم وطلب الاستغاثة، بينما كان الجميع في حالة ذهول كبيرة.. مع مرور الدّقائق، أصبح المكان ممتلئا عن آخره بالمياه، وانطلق التّدافع وسط العمّال؛ وفيما كان بعضهم يحاولون الخروج والإفلات بروحهم، كان آخرون قد استسلموا لقدرهم وسط صيحات العالقين. لحظات خانقة ومربكة..كان الذّعر ينتشر في كلّ مكان، وصيحات النّساء تخترق جدران الورشة السّرية، بينما اكتظّت بوابة المنفذ الوحيد للخروج بالنّاس.. الكل يتسابق للخروج إلى برّ الأمان، وهو ما جعل عملية الفرار من الغرق أكثر تعقيدا بسبب وجود منفذ وحيد يؤدّي إلى الخارج...فيما استطاع العمال المشتغلون في الطّابق الأول الخروج والإفلات من الموت. علي جبلي، طبيب في مستشفى الدوق دو طوفار، استقبل ضحايا "المعمل السري" عند حدود السّاعة الحادية عشرة من صبيحة أمس الإثنين، يحكي تفاصيل الفاجعة قائلا: "تلقينا الخبر حوالي الساعة 11 صباحا عن وجود إصابات نتيجة فيضان داخل معمل، وعن أن هناك موتى. قلت في نفسي ربما يتعلق الأمر بحالات ابتلال وانخفاض درجة حرارة الضحايا، وعندما بدأت سيارات الإسعاف تصل وجدنا أن الضحايا عبارة عن جثث". وأوضح الطّبيب ذاته أن "الجثث بدأت تصل تباعا إلى المستشفى"، ويضيف: "طوال مشوار عملي داخل جناح المستعجلات الذي يقارب ستّة عشر عاما لم أعش هاته اللحظة. نحن دورنا إنقاذ وإسعاف الجرحى، ولكن هذه المرة قمت بدور طبيب يلاحظ الوفاة ويؤكدها ويملأ ورقة ‘arrivée décédé'.. نعم دور عجز ودور ترى فيه الموت يحيط بك". ويسرد الطبيب نفسه: "قمنا بعزلهم في مكان وإعطاء أرقام لهم، لأنهم كانوا بدون هوية.. كلهم شباب، والنساء أكثر من الذكور. وقلت في نفسي إنهم كانوا بأحلام ويذهبون للعمل من أجل لقمة العيش. القدر ومشيئة الله كانت أقوى. إنه ابتلاء. يجب أن يكون وطننا دولة تطبيق القوانين، واحترام مدونة الشغل وشروط السلامة في العمل". أم تفقد بناتها بالقرب من مقرّ الورشة بحي الإناس، اختلطت مشاعر الحزن والصّدمة، أب فقد ابنته الوحيدة تبدو عليه علامات الانهيار يحكي بصعوبة لوسائل الإعلام: "توفّيت بنتي.. مشات الدرية عند الله.. لا أتصوّر حياتي بدون ابنتي. بنتي كانت تشتغل بدون أي وثيقة إدارية، بغيت حقي وحق بنتي"، يقول الأب المفجوع بفراق ابنته. وطالبت والدة إحدى الضّحايا إظهار كل الحقيقة وليس فقط فتح تحقيق في الموضوع، مشيرة إلى أن "ابنتها كانت تشتغل في المعمل لمدة فاقت سنتين، لكنها توقفت بسبب جائحة كورونا، قبل أن تعود خلال الأسابيع الأخيرة إلى العمل". كما ناشدت سيدة فقدت بناتها الأربع بسبب "فاجعة طنجة" الملك محمد السادس "ياخدلي حقي"، وقالت في تصريح لوسائل إعلام: "الراجل ماتلي وبناتي بربعة مشاو عند الله دقة وحدا"، مبرزة أن "اثنتين من بناتها الراحلات كانتا متزوجتين وأخرى مخطوبة، بينما كانت الصّغيرة تستعد للزواج"، وتابعت: "أربع أميرات ذهبن عند الله". وتمّ دفن الضّحايا ليلة أمس الإثنين بحضور لفيف من عائلاتهم. وأشارت السلطات المحلية لولاية جهة طنجة – تطوان – الحسيمة إلى أن "وحدة صناعية سرية للنسيج كائنة بمرآب تحت أرضي بفيلا سكنية بحي الإناس، بمنطقة المرس بطنجة، عرفت صباح الإثنين تسربا لمياه الأمطار، ما تسبب في محاصرة عدد من الأشخاص الذين كانوا يعملون داخلها". وأرجع عدد من الساكنة بالمكان سبب الاختناق السريع الذي تعرضت له البالوعات إلى وجود عدد من الأغصان المقطوعة والأزبال وبقايا الأعشاب بأماكن متفرقة في المنطقة، التي ظلت في مكانها لمدة طويلة جدا دون أن يتم إبعادها. مسؤولية ثابتة طالب مرصد الشمال لحقوق الإنسان بتوقيف ومتابعة المتورطين في ما وصفها ب"جريمة" معمل طنجة، التي راح ضحيتها أزيد من 29 شخصا، مضيفا أن هؤلاء كانوا يشتغلون في وحدة صناعية للنسيج في مرآب تحت أرضي في فيلا سكنية في حي الإناس، في منطقة المرس بطنجة، بعدما حاصرتهم مياه الأمطار داخله، مؤكدا أن "مسؤولية السلطات المحلية، بما فيها ولاية طنجة، والجماعة الحضرية لطنجة، واضحة في هذه الفاجعة". وتساءل المرصد: "كيف يمكن لعشرات العمال والعاملات أن يلجوا منذ سنوات مرآب بناية سكنية وسط حي سكني دون انتباه ومراقبة السلطات المحلية والإقليمية؟ وكيف يمكن لوحدة صناعية في مرآب فيلا الحصول على التيار الكهربائي المرتفع دون الحصول على الرخص من السلطات المختصة، التي تكون بناء على تقرير لجنة، تضم مختلف القطاعات؟". وأكد المرصد نفسه أن الحادث المؤلم لا ينفي مسؤولية شركة أمانديس في ما يخص تدبيرها لقطاع الماء والكهرباء والتطهير السائل، معبّرا عن أسفه لما تضمنه بلاغ ولاية جهة طنجة – تطوان – الحسيمة من "محاولة للتخلي عن مسؤولياتها الواضحة". وطالب المصدر بتوقيف فوري للمسؤولين الإداريين المباشرين عن الحادث، بدءًا من والي جهة طنجة – تطوان – الحسيمة، لمسؤوليتهم المباشرة في تدبير المجال الترابي، الذي وقع فيه الحادث المؤسف، وفتح تحقيق مع جميع الجهات المتدخلة فيه.