وأنت تمر "بشارع سيرفانطيس" بمدينة طنجة ، تستوقفك بناية واحدة دون غيرها، بهالتها ،شموخها، شيخوختها، و تصميمها المعماري الخارجي الذي يذكرك كثيرا بالبنايات الأوربية. رسومات منحوتة على الجدران لشخصيات مسرحية وتماثيل صغيرة تآكلت مع مرور الوقت بسبب الإهمال. تحمل واجهة البناية مسلكين يقفلان في سماء المسرح، يفضيان بك مباشرة إلى القاعة الكبرى الخاصة بالعروض المسرحية. و يتوسط سطح البناية تمثال إلهة فن تعزف الكمان، وعلى جانبيها تماثيل أخرى تحمل آلات موسيقية لإضفاء عمق فني على هذه التحفة الفنية المنحوتة و المرجحة للانهيار في أي لحظة. يحدث أن يثيرك أيضا ذلك الإطار المزخرف بمزيج من الألوان على الواجهة الأمامية للبناية، كتب عليه بخط عريض:" « Gran Teatro Cervantes 1913. شارع سيرفانطيس إذن أخذ عن المسرح إسمه، ومسرح سيرفانطيس حمل بدوره إسما لأبرز وألمع أسماء الكتاب الإسبانيين هو "ميغل دي سيرفانطيس". شيء ما يوحي لك بعصر ذهبي مر من هنا، تاريخ باذخ بالاحتفالات و الشهرة والأضواء رغم الإهمال والهجران الذي يظهر على البناية. وأنت تقف وقفة متحسر تستعيد أمجاد المكان وتبكي على الأطلال وتبكيك. مسرح سيرفانطيس في ذكراه المئوية ما إن تطأ قدميك قاعة العروض حتى ينتابك شعور برهبة المكان وعزلته، ظلام حالك يحجب عنك الرؤية ، لولا مصباح حارس البناية الذي يضيء به المكان لكل زائر. داخل القاعة توجد رسومات متنوعة على الجدران أيضا. صورتين لبطل سيرفانطيس "دون كيخوطي دي لا مانشا" وهو على صهوة حصانه يحارب طواحين الهواء. تعلو صالة العرض قبة مستديرة يظهر عليها زخرفات كلاسيكية ورسومات ادامية لملائكة سماوية تسبح في ملكوت المسرح . أما بهو المسرح فهو عبارة عن صالة تتكون من طابقين معظم الكراسي الموجودة بالقاعة محطمة و مقتلعة من مكانها بعدما كانت القاعة تتوفر منذ مائة عام على أكثرمن 1400 مقعد حسب المعلومات التي حصلنا عليها من المعهد الإسباني بطنجة . وبعد مرور قرن منذ تشييد مسرح سيرفانطيس سنة 1913، و رغم العزلة والحالة المزرية التي يعيشها منذ أربعين عاما يستعيد أنباء المدينة ذاكرته الحافلة بالأنشطة الثقافية بكثير من الحسرة والحرقة. يقول عبد الحليم عبد اللطيف مدرس اللغة العربية وهاوي لفن المسرح: "لقد حضرت العديد من العروض المسرحية في مسرح سيرفانتيس منها مسرحية "هشوبة والعياشي" و مسرحية "طريق المجد" ، والعديد من الأنشطة الثقافية والعروض التي كان ينظمها المسرح في أواخر الستينات " نوفل اشتغل حارسا لمسرح سيرفانطيس لأكثر من ثلاثة عشرة سنة بتكليف من القنصل الاسباني، يقضي يومه بالكامل في حراسته من اللصوص والمشاغبين . نوفل الذي اتخذ من المسرح سكنا له ولعائلته يرى مسرح سيرفانطيس تحفة لا تقدر بثمن، تحتوي على مجموعة من الأشياء القيمة كرسومات دون كيخوطي ،تماثيل ، ديكورات الجبص ...لكن المغاربة لا يقدرون قيمتها، وحدهم الأجانب من يقدرون ذلك. ويضيف " لقد كانت هناك مبادرات مغربية اسبانية لإصلاح المسرح كان ذلك في 2005 لكن سرعان ما توقفت سنة 2006 ،ولم يتم إصلاح سوى أعمدة المسرح الأساسية التي توجد في الطابق السفلي. اليوم لا توجد اصلاحات فعلية يوجد فقط أشباح وعفاريت تقوم كل ليلة بعروضها على خشبة المسرح ". التقينا أمام المسرح بمدرك مصطفى الذي جاء ليزور المكان أيضا. مصطفى كان يعرف مسرح سيرفانطيس قبل أن يأتي من وجدة إلى العمل في طنجة يقول: "أشعر وأنا هنا كأنني في أوروبا ، أتنفس هواء اسبانيا. ويضيف : "مسرح سيرفانتيس ليس فقط معلمة اسبانية بل مغربية كذلك ، وخسارة أن تندثر هذه التحفة في خلافات تافهة بين الجانبين المغربي والاسباني ". يقاطعه نوفل حارس البناية قائلا :" المسرح حتى بعد أن أغلقت أبوابه في السبعينات ، فقد زاره العديد من الشخصيات العربية والعالمية وبفضل مسرح سيرفانطيس حصلت على صور شخصية مع الفنان الجزائرية وردة عندما زارته سنة 1993 ،وفاندام،و روبيرت دي نيروا..." لماذا أغلق مسرح سيرفانطيس؟ أربعون عاما من العزلة والنسيان منذ إغلاق مسرح سيرفانطيس سنة 1974 . السنة نفسها حين تنازلت عنه السلطات الاسبانية كليا من خلال عقد كراء رمزي لجماعة طنجة. عبد العزيز الزايدي رئيس مصلحة العلاقات الخارجية والبروتوكول بجماعة طنجة يوضح أن عقد الكراء قد أبرم مع الجماعة الحضرية في 15 غشت 1974 إلى غاية 1993. بعد ذلك أصبح المسرح في عهدة السلطات الاسبانية ومن ضمن ممتلكاتهم. يقول الزايدي:" اكترى مسرح سرفانطيس بثمن رمزي للجماعة الحضرية لا تزيد مستحقاته عن درهم واحد فقط ، و لمدة تسعة عشرة سنة كان تحت تصرف جماعة الحضرية لطنجة " التآكل والإهمال الذي طال هذه المعلمة الثقافية التاريخية لا يعرف من أسبابه سوى هشاشة بنية المسرح وعدم قدرتها على استيعاب الأنشطة الثقافية للمدينة، في حين يرجع آخرون أسباب تعثر " إعادة الزمن الجميل" لسرفانطيس إلى أسباب دبلوماسية بين المغرب وجارته اسبانيا . في هذا الصدد يقول مندوب وزارة الثقافة بطنجة عبد العزيز الإدريسي: "مسرح سيرفانطيس أغلق بسبب تقادم البناية وعدم قدرتها على استقبال الأنشطة والعروض التي كانت تستقبلها في الماضي ، ومن الأسباب التي أدت إلى تأخير تهيئة و ترميم المسرح هي جانب التمويل المالي من أجل ترميم هذه البانية وعندما نتحدث عن الترميم علينا الأخذ بعين الاعتبار أن البناية ليست ملكا مغربيا بل ملكا اسبانيا وبالتالي لا يحق للمغرب الإقدام على أي خطوة إلا بالتوافق مع الجانب الاسباني " . ويضيف أن مدينة طنجة لا يجب أن تعول كثيرا على مسرح سيرفانطيس لأن ساكنة طنجة اليوم أضعاف ساكنة طنجة في عهد سيرفانطيس ، وبالتالي لن يلبي حاجيات الثقافية لهذه الساكنة ، مما يعني ضرورة خلق مسارح ومؤسسات ثقافية أخرى ونهج ما بات يصطلح عليه بثقافة القرب أو دمقرطة الفعل الثقافي داخل المدينة ولا نكتفي بالحديث عن مسرح سيرفانطيس فقط ، خصوصا وأن مدينة طنجة تفتقد لمسارح ولا تتوفر إلا على مسرح وحيد وهو مسرح محمد الحداد الذي يفتقد لكل خصائص المسرح نظرا لموقعه الاستراتيجي الغير المناسب داخل المدينة ". ترميم مسرح سيرفانتيس رهان مدينة طنجةواسبانيا لسنة 2013 نداءات كثيرة من جانب المجتمع المدني من أجل ترميم هذه اللوحة الفنية التي تعتبر ارثا تاريخيا للمدينة من جهة ، و تعهدات ولقاءات عديدة بين الجانبين المغربي والاسباني في السنوات الأخيرة من أجل إعادة تهيئة هذه المرفقة الثقافية من جهة أخرى. لكن سيرفانطيس كان حظه عثرا ولم ينل من هذه اللقاءات سوى المزيد من الإهمال و تآكل بنايته . ولحد اليوم لم تسفر هذه المبادرات عن أي قرار فعلي بشأنه، ما عدا بعض الإصلاحات الضئيلة التي أجريت سنة 2006 . اخر لقاء من أجل ترميم المسرح كان في فبراير الماضي بين عمدة مدينة طنجة فؤاد العمري والقنصل العام للمملكة الاسبانية في طنجة . وحسب بلاغ لعمدة طنجة فإن الإجتماع قد خصص إلى موضوع ترميم مسرح سيرفانطيس والوقوف على وضعيته المزرية والعمل على إعادة تهيئته وبث الروح فيه. و في هذا الصدد حدثنا عبد العزيز الزايدي رئيس مصلحة العلاقات الخارجية بجماعة طنجة عن بعض ملامح هذه الاتفاقية يقول: "اتفق الطرفان على رسم منهجية اجرائية للشروع في ترميم البناية ، تبدأ بإجراء دراسة لتحديد التكلفة المالية لأشغال الترميم ، ومن ثم تحديد طرق ومصادر التمويل والجهات التي ستشرف على ذلك، ومن أجل العمل على ذلك قام كل من الجانبين بتكوين لجنة مشتركة من المسئولين مغاربة وإسبان قصد ايجاد التمويل الضروري للخروج بهذه المنشأة الثقافية من حالة المزرية التي توجد عليها ". عن الميزانية المخصصة ل عملية الترميم يحدثنا عز الدين البدراوي ،الكاتب العام للجماعة الحضرية يقول في هذا الخصوص :" ترميم مسرح سيرفانطيس يتطلب ميزانية ضخمة ، والجماعة الحضرية التزمت بدفع حصتها المتفق عليها مع الجانب الاسباني وتقدر بملايين الدراهم " معلقا بأن مصاريف ترميم أي منشأة تاريخية يتطلب مصاريف مضاعفة أكثر من بناء أي منشأة أخرى جديدة ، وذلك يرجع لاعتبارات هندسية معمارية وتاريخية ". من جانب عزيز الادريسي مندوب وزارة الثقافة بطنجة فيرى أن ترميم المسرح في حد ذاته يعتبر اشكال ، وعند بدء عملية الترميم يجب أن نتساءل هل سنحافظ فقط على واجهته الأمامية ، لأن المسرح من الداخل مخرب بالكامل أم سنعيد بناءه من جديد ؟ وبالتالي بعد ترميمه سيفقد طابعه كمعلمة تاريخية لأن عمليات الصيانة والترميم ستقضي على تصميمه ومحتوياته الداخلية التاريخية ، فنكون أمام بناية وفق تصميم جديد من الداخل ،فقط واجهة المسرح هي من ستحتفظ بطابعها التاريخي " عصر سيرفانطيس الذهبي يحمل مسرح سيرفانطيس ملامح العصر الذهبي لمدينة طنجة، حيث كان يعد من أكبر المسارح في المغرب وفي شمال إفريقيا. المسرح الأكثر احتفالا والأكثر بريستيجا بني بمبادرة من اسباني كان يعد من أكبر ملاك الأراضي في المغرب يدعى"مانويل بينا "Manuel pena" إلى جانب زوجته " اسبيرانزا أوريلانا " " Esperanza orellana". وقد شيد المسرح على إحدى ممتلكات مانويل الخاصة . ومن أشهر المراجع التي وثقت البدايات الأولى لمسرح سيرفانتيس كتاب " Tanger regard sur le passé ce qu'il fut.. " للكاتب I.J.Assaya . يقول فيه متحدثا عن الخطوة الأولى لبناء المسرح : "لقد افتتح مسرح سيرفانطيس رسميا في 12 دجنبر 1913 ، ووضع حجره الأساس في 2 أبريل 1911، بحضور العديد من الشخصيات الأوربية والمغربية، من بينها الحاج عبد السلام بنعبد الصادق باشا طنجة، الشريف المنبهي، ووسائل الإعلام المغربية والإسبانية من أجل توثيق هذا الحدث الثقافي الأول من نوعه في الحياة الثقافية للمدينة". وحسب نفس المصدر فقد أراد "مانويل بينا" لمسرحه أن يكون تحفة فنية معمارية بامتياز، فاستعان بمهندسين معماريين متخصصين ، مثل المهندس المعماري لاسباني "دييغو غمينيز" "Diego gimenez " الذي وضع التصاميم الهندسية للبناية على الطراز الإسباني وعلى غرار " Le teatro de la Zarzuela " الموجود في العاصمة الإسبانية مدريد. واستعان أيضا بالفنان الاسباني التشكيلي "فيديريكو ريبيرا" " Federico Ribera" الذي زين المسرح برسومات وزخارف فريدة ذات الطابع الكلاسيكي". ويشير الكتاب إلى أن أول عرض افتتح به مسرح سيرفانطيس كان عرضا صامتا بعنوان " Quo vadis" تلاه بعد ذلك بأربعة أيام وثائقي عن الاستعمار الفرنسي. من المراجع الأخرى التي تتحدث عن أنشطة مسرح سيرفانطيس كتاب " نشأة المسرح والرياضة في المغرب" لعبد القادر السميحي الذي يذكر فيه مجموعة من العروض المسرحية التي قدمت على خشبة سيرفانطيس من بينها : مسرحية" البر كييرو" ، ومسرحية "غادة الكاميليا للكاتب ألكسندر توماس الصغير" التي عرضتها فرقة الممثلة سيسيل سوريل ... " . كما استقطب أكبر المغنيين الاسبانيين انذاك من بينهم luisita Esteso و Irma Villa ،Antonio Marena . مسرح سيرفانطيس استقبل كذلك العديد من كبار الفرق الموسيقية العالمية ، واحتضن الحركة المسرحية الناشئة سنة 1920 خصوصا مع تأسيس مجموعة الهلال الفنية التي نظمت العديد من العروض المسرحية العربية والعالمية على خشبة سيرفانطيس مثل مسرحية صلاح الدين الأيوبي سنة 1929 ،ومسرحية مجنون ليلى لكاتبها أمير الشعراء أحمد شوقي. و مسرحيات عالمية أبرزها مسرحيات الكاتب المسرحي العالمي ويليام شكسبير مثل مسرحيات هاملت ،عطيل التي عرضت سنة 1929، وروميو وجولييت سنة 1934. وفي الثلاثينات كان مقرا للاجتماعات واللقاءات السياسية الكبرى المناهضة للاستعمار ، وداخل هذا المسرح التأم شمل الحركة الوطنية بالتوقيع على ميثاق الجبهة الوطنية سنة 1952، بإشراف وفد من الجامعة العربية وبإيعاز من الأمير محمد عبد الكريم الخطابي. كما كان قبلة للعديد من الفرق الموسيقية وإحياء سهرات وأمسيات جعلت من طنجة مدينة لها وقعها في الساحة الثقافية الدولية قبل الحماية الفرنسية وقبل اقرار النظام الدولي على طنجة ،فكان مسرح سيرفانطيس يعتبر رمزا لمكانة طنجة الثقافية والفنية منذ نهاية القرن التاسع عشر وإلى منتصف القرن العشريين . وفي انتظار ترميم مسرح سيرفانطيس وغيرها من المآثر التاريخية المنسية والمتخلى عنها بعروس الشمال مدينة طنجة ، يظل بطل سيرفانطيس دون كيخوتي متأبطا صهوة حصانه ، يحارب طواحين الهواء من أجل البقاء. ❊ طالبة بمعهد البحر الأبيض المتوسط للصحافة وتقنيات الاعلام طنجة