تضعك سيارة التاكسي أمام بابها الرئيسي.. كأن سائقها يريد أن يترك لقدميك فرصة الاحتفاء بلحظة دخولها، هي دمنات، المدينة الصغيرة النائمة على سفوح الأطلس الكبير، التي لم تنم إلا بعد الاستقلال بعدما كانت نقطة تتوهج نشاطا تجاريا جعلها من الممرات الآمنة لكل التجار القادمين من فاس نحو مدن الجنوب، وبعدما كانت مساحة من التعايش بين الإسلام واليهودية بشكل قلّ نظيره في كل البقاع العربية. "أراو نتمازيرت"، أي أبناء البلد، هي الجملة التي يخبرك بها كل دمناتي عن اليهود الذين عاشوا هنا في وقت من الأوقات، إلى درجة أن أعدادهم حينذاك كانت قريبة جداً من أعداد المسلمين. هسبريس اقتفت أثر تعايش ديني في غاية التسامح، قدمته مدينة بسيطة ربما لا يعرفها الكثير من المغاربة. زواياها وأضرحتها، مقابرها ومساكنها، كل شيء هنا يوحي بمدينة متعبدة حتى النخاع. مدينة الأراضي الخصبة الماء يجري من تحت مساكنها وأزقتها، ربما لهذا سميت ب"دمنات"، (عربياً جمع دمنة) التي تعني الأراضي الخصبة، غير أنه يبقى تعريفاً قصيراً لمدينة أمازيغية معتزة بهويتها دون إفراط في جرعة الاعتزاز، نسجت هي الأخرى سوراً عظيماً واستطاعت أن تقي نفسها من هجمات المتآمرين، خاصة وأنها كانت ملجأً للمعارضين بعد تأسيسها؛ فمولاي رشيد الذين كان سلطاناً على المغرب في القرن ال17 يدين لها لأنها هي من حمته وجعلته يُكَوِّن نواة جيشه ضد أخيه مولاي محمد، بعد أن تغلب عليه هذا الأخير وطرده خارج قلاع الحكم. غير أن السور العظيم لم يلبث أن تشوّه في السنوات الأخيرة، فتحول إلى مجرد ديكور يقف باكياً على أجزاء عدة منه تحطمت إما بفعل عوامل طبيعية، أو عوامل "الفأس" الذي حملته السلطات ذات يوم من أجل توسعة مداخلها. تَشوّه السور ألقى بظلاله على إرث ديني فَقدَ الكثير من معالمه الجميلة. يهود دمنات لا يُعرف وقت محدد لسكن اليهود في دمنات، لكن الرأي السائد هنا هو أنهم سكنوا المدينة قبل تأسيسها، وأول ما استقروا في المنطقة، تواجدوا في قرية اسمها "بوحلو" بسبب المكان الاستراتيجي لهذه النقطة الكيلوميترية التي شكلت ملتقى تجارياً بين فاس ومكناس من جهة، ومراكش والجنوب من جهة أخرى، فبراعة اليهود في التجارة جعلتهم يستغلون المنطقة لصالحهم، إلى حين تأسيس المدينة رسمياً في القرن السادس عشر، بعدما استطاعوا أن يبنوا حيهم المعروف ب"الملاح" الذي يُعدّ أقدم بأربعة قرون من ملاح مراكش. لكن لسوء حظهم، فإن تواجد حيهم قرب قنوات الريّ التي تسقي المدينة، جعل المسلمين يشكونهم إلى السلطان الحسن الأول، مطالبين بإبعادهم عن ذلك الحي لأنهم "يدنسون" الماء، حسب المعتقدات المحلية، فاستجاب السلطان للطلب ورحّل اليهود إلى حي جديد قريب من الباب الرئيسي للمدينة يسمى بباب "إعرابن"، وقد استجاب اليهود دون أيّ مقاومة، كما يقول لنا أحمد قابو، أستاذ لمادة التاريخ بالمدينة، وتمت تسمية الملاح القديم بحي الفلاح، بتبديل الميم فاء. رغم نشاطهم التجاري، فإن غالبية يهود المدينة كانوا أناساً بسطاء، ومارسوا مهناً وحرفاً جنباً إلى جنب مع المسلمين، بل تشارك أبناؤهم المدارس مع أبناء المسلمين. ويتذكر أحمد الحوزي، أحد أبناء المدينة، كيف كان يدرس مع يهودية كانت تقرأ العربية بلهجة غريبة، وهو الأمر الذي لم يكن يشكل لها أيّ حرج. وحتى بعد حصول المغرب على استقلاله، استمر تواجد اليهود بالمدينة؛ فأول رئيس للمجلس البلدي لدمنات كان يهودياً، بل إن حضورهم تعزز بمجموعة من الراهبات المسيحيات اللواتي فضلْن البقاء بالمغرب وعدم الرحيل نحو أوروبا رغم استقلال المغرب، وقمن بمجموعة من الأعمال الخيرية كتوليد النساء في وقت لم تكن دمنات تتوفر فيه على مستشفى. ولم يثبت أبداً أن كن ينشرن التبشير، بل إن عشقهن للمدينة جعلهن يستمررن في نسج علاقات الحب مع ساكنتها إلى حين سنة 1984 التي عرفت أحداثاً دامية بالمنطقة في تطورات انتفاضة ذلك العام، الأمر الذي جعلهن يقررن الرحيل. ياقوتة.. اليهودية المصرة على حفظ الإرث حملة التهجير التي عرفها المغرب، والتي همت غالبية اليهود المغاربة ممّن أظهروا رغبة في الرحيل نحو "إسرائيل"، أتت على جل يهود دمنات، بينما رحلت قلة قليلة نحو مدن مغربية أخرى لتوسعة نشاطها التجاري، العائلة الوحيدة التي بقيت هي عائلة عمران، وتحديداً الأب والأم وابنتهما ياقوتة بعدما فضّل بعض أفراد الأسرة الرحيل. رحل الأبوان نحو دار البقاء، وبقيت ياقوتة لوحدها تحرس أملاك العائلة رغم أنها وصلت إلى سنها السبعين. انتظرناها قرب بيتها الذي يحتل مساحة واسعة وسط المدينة، الساحة الصغيرة أمامه تحوّلت إلى موقف لسيارات الأجرة، وأبوابه العديدة استحالت مركنا للأزبال مادامت العجوز الوحيدة لا تدلف إلا من واحد منها، بضعة أمتار أمام بيتها استغلها مصلح دراجات لجني قوت يومه، أخبرنا بأن اليهودية وافقت على السماح له باستخدام المكان، سوء حظنا جعلنا نقضي اليوم برمته في انتظارها دون أن تأتي، فهي دائمة الحركة وتتنقل من مكان إلى آخر بخفة أبناء العشرين، وقد تحدث إلينا أحد جيرانها بأنها ربما في زيارة لأختها بالبيضاء. يروي لنا عبد اللطيف عمراوي، واحد من أصدقائها، أن والدها كان من أغنياء المنطقة، تعايش مع المسلمين إلى آخر لحظة من حياته، وكان يقدم قروضاً لكل من يريد بدء تجارة جديدة دون اشتراط أي فوائد، ووالدتها هي من جلبت ماكينات الخياطة "سانجير" إلى المدينة قصد تعليم المسلمات الخياطة والاعتماد على أنفسهن في سبيل تحصيل لقمة العيش. وعندما توفيا، رفضت ياقوتة كل العروض المقدمة لها، وبقيت وفية لوظيفتها بباشوية المدينة كمكلفة بالاتصال. وحتى بعد تقاعدها، ترفض حتى الغياب طويلاً عن منزل العائلة الذي انتقلوا إليه من الملاح عندما هجره اليهود وطالب به المسلمون. تقول ياقوتة لجيرانها إن سفينة نوح بُنيت هنا في دمنات، وتقتنع بأنهم هم أصحاب الأرض والمسلمون في ضيافتهم، وسيأتي يوم يعود فيه أصحاب الأرض للاستقرار هنا نهائياً. لم تتزوج، ولم تتبنَ طفلا، بقيت لوحدها تتمشى في منزلها الواسع، وأحياناً عندما يَهدّها المرض، تتصل بأصدقائها المسلمين لمساعدتها. تكره الحديث عن السياسة، وتقضي جلّ وقتها في التنقل بين أحياء دمنات سائلة عن الحال والأحوال، "ولّفْناها بزاف..الله يعمرها دار، غير شي وحدين فينا صراحة كيقللو عْليها الاحترام"، يقول لنا عبد اللطيف عمراوي. الزوايا والأضرحة.. عنوان التعايش أينما وليت وجهك في دمنات، هناك زاوية ما، في كل حي من الأحياء يتوسط بناء ديني الزقاق، فرغم أن المدينة صغيرة نسبياً ويمكن أن تتجول في كل أرجائها في مدة لا تتجاوز الساعة الواحدة، إلا أنها تحتضن تسع زوايا، من أشهرها الزاوية التيجانية الموجودة بحي الفلاح، والزاوية العيساوية بحي القصبة، والزاوية الحمدوشية بحي آيت كنون، وزاوية الدليل بحي أرحبي. زوايا دمنات وإن لم تتجاوز مساحتها بضعة أمتار، فإن تكاثرها يجعلنا نتفهم كيف أن مسلمي المدينة قرروا في وقت من الأوقات المضاعفة من جهودهم قصد نشر تعاليم الدين الإسلامي بمدينة تواجد فيها اليهود بكثافة، لذلك أنشؤوا هذه البنايات التعبدية، وجعلوا كذلك من مدينتهم محجاً للأضرحة المتعددة، ففي كل دواويرها، هناك ضريح لولي من أولياء الله، كسيدي ناصر أوعلي وسيدي واكريان وسيدي حداني. أضرحة تقصدها الساكنة وزوار المدينة، تيمناً ببركة يرون أنها انقرضت في هذا الزمان، ولا طريقة لعودتها إلا بالتضرع برجل توفي منذ زمن طويل. وإن كان بعض المسلمين أنانيين في بعض أضرحتهم، فقد قَبل يهود المدينة مشاركة إخوانهم أضرحتهم الخاصة، ففي دوار "بوحلو" ضريح مشهور باسم تابلوحت، يعود لولية صالحة عاشت في زمن ما، يتبرّك به اليهود والمسلمون، ويزوره في كل وقت وحين كل من يريد التضرع إلى الله لتحقيق أمنيته، شأنه في ذلك شأن سيدي" ناصر أومهاصر" الموجود بمنطقة إمنفري، الذي تزوره الفتيات طمعاً في الزواج، فيغتسلن بالقرب منه، ويتركن ملابسهن الداخلية هناك، لعلّ الولي الصالح ينفث فيها من بركته، فيأتي العرسان على عجل إلى بيوت العذارى. معالم قتلها الإهمال عندما رحل اليهود عن ملاّحِهم تاركين خلفهم ذكريات متعددة وكنيساً كانت تقام فيه صلواتهم، لم يكلف المجلس البلدي نفسه عناء الإبقاء عليه، بل تمّ تحويله إلى مسجد يصلي فيه التجار والحرفيون ممّن أقاموا قيسارية في الملاح القديم الذي لم تبقَ منه سوى بعض الأعمدة وجزء من السور المحيط به، شأنه في ذلك شأن الكثير من منازل اليهود التي بقيت موصدة منذ مغادرتهم، في انتظار أن تنهار يوماً ما. أكبر معالم الإهمال تتجسد في المقبرة اليهودية: روث بهائم منتشر بين جنباتها، أزبال متناثرة هنا وهناك، وقبور متصدعة، بعضها نُبش لاستخدامه في أعمال السحر والشعوذة، وبعضها جعلت فيه الأمطار ندوباً صغيرة لكنها تكفي للنظر داخله والعبث بمحتوياته وعرضها أمام الجميع. حارس المقبرة يتحدث عن كون أسرته تكلّفت بحراسة المقبرة منذ رحيل اليهود عن المدينة، إلا أن ضعف التعويضات جعلها تهمل مهمتها وتعتبرها شأناً ثانوياً. من وقت إلى آخر، تأتي عائلات الموتى من إسرائيل وباقي المدن المغربية لقراءة مقاطع من التوراة، فتكون هذه هي المناسبة الوحيدة للحارس كي ينعم ببعض العطاء الذي يسعفه في الاهتمام قليلاً بمدافن المقبرة. في أعلى المقبرة، هناك ضريح يهودي يسميه أصحابه سيدي "هارون بنكوهين"، بينما يدعوه المسلمون "بولبركات"، لم يتبقّ منه سوى حطام بناية صارت مرحاضاً مفتوحاً للعموم. على جنباته، تتواجد ثلاثة نعوش لأسرة هذا الرجل اليهودي، لا يَتبيّنها الزائر إلا بصعوبة بسبب الفضلات البشرية التي تعم المكان، دون مراعاة لحرمة القبر. غير أن الإهمال لم يطل فقط المعالم اليهودية؛ فقد فرّطت الساكنة حتى في بعض المعالم الإسلامية، كدار مولاي هشام، أحد الأمراء العلويين، التي تحوّلت هي الأخرى إلى مرحاض عمومي مفتوح في وجه كل من لا يجد سبيلا لقضاء حاجته، وصارت جدرانها مناسبة للقاء غرامي لا يأبه برائحة المكان، وسقفها مساحة ألعاب لأطفال المدرسة في أوقات فراغهم. لكي لا تغترب دمنات عن تاريخها قبل أن تدلف إلى الباب الرئيسي للمدينة، تتراءى لك مقبرة واسعة، تسمى مقبرة "الغرباء"، لأن من يُدفن فيها هم الغرباء عن المدينة، أي أولئك الذين يدركهم الموت وهم عابرون بالمدينة. هل من بنى هذه المقبرة كان يُلّمحُ إلى أن المدينة ستتخلى عن قلبها الكبير ولن تحافظ بالقوة نفسها على تاريخها الثقافي الذي بدأ ينسكب من بين أسوارها؟ من فوق "مقهى أغلال" المجاور للملاح، غرق عبد اللطيف في تأمل علامات اليهود بالمدينة الآخذة في الانحسار بمسؤولية الطرفين معا: الطرف المسلم الذي ورث المدينة، والطرف اليهودي الذي فرّط فيها مفضلاً عليها "دولة" في طور التشكل، ليجيبنا عن سؤالنا قائلا: "ستبقى دمنات هي صاحبة القلب الكبير، ولن تفرّط أبداً في إرثها التاريخي". غير بعيد عن عبد اللطيف، كان هناك شاب يعبث بهاتفه النقال، انتظر حتى انتهينا من حديثنا ليرينا مجموعة من الصور التي توّثق وجود اليهود بالمدينة، سألناه هل هو الوحيد الذي يمتلك هذه الصور، فأجابنا بأن نصف هواتف دمنات تحملها، وبأن مجموعة كبيرة من شباب المدينة تصرّ على استرجاع صفحات من تاريخ يريد له البعض أن يُمحى من الأذهان. ومثلما حافظت المدينة على آثار دينصورات تعود إلى عشرات القرون، تستطيع الحفاظ على معالم يهودية تعود إلى عشرات السنوات، هكذا يتحدث عبد الهادي الحيداوي، من شباب المدينة، متشبثاً بالأمل في حفظ جزء كبير من الذاكرة المشتركة. أذان المغرب يعم الأركان، بضعة مصلين يهرولون نحو المسجد المنتصب فوق الكنيس القديم، للوفاء بموعد اللقاء مع الرب. قربهم، كان اليهود يصلون ذات يوم لخالق واحد، يتضرعون جميعاً بأن يحفظ المدينة، وأن يجعلها قرّة في أعين سكانها، وأن يعيدها إلى واجهتها الحقيقية: التعايّش مهما اختلفت الديانات.