تتحدّد المجتمعات التي نسمّيها حديثة بفعل الإبداع والتغيير الذي يسمها، وأيضًا بقدرتها على تدمير ذاتها. أمّا بالنسبة للذين يودون فهمها، فيتعلّق الأمر بتحديدهم من خلال تاريخانيتهم، وقدرتهم على إنتاج هذا التاريخ، لأنّ فهمهم يعني قبل كل شيء تحليل ما يجعلهم يبدعون تاريخهم. إنّ هذه المجتمعات التي يتم تعريفها انطلاقا من حركيتها وتاريخانيتها، تتعارض مع ذلك الصنف من المجتمعات التي تم تحديدها فقط عبر نظامها الداخلي. لقد أخفقت العديد من محاولات تعريف هذه الحداثة، لكونها تتعارض مع بعضها البعض. فبينما يرى البعض في الحداثة انتصارا للفردانية، اعتقد البعض الآخر أنّه فيها تمت ولادة مجتمع الجماهير. وضدا في أولئك الذين اعتقدوا أنهم لاحظوا التبرير وانتشار الروح الصناعية في كلّ مكان، لاحظ البعض الآخر فيها تراجع الزمن المخصّص للعمل، ومؤخرًا ضد أولئك الذين أشادوا بقدرة البشر على التحكّم في الطبيعة، في حين انتبه البعض الآخر أكثر لأزمة المناخ الخطيرة الحالية، حيث لفت الانتباه إلى الضرورة الملحة لاحترام الطبيعة. لذلك دعونا ننسى كلّ هذه التعريفات التي تتعارض مع بعضها البعض، إذ إنّنا لا نرى فقط التفاوتات المتزايدة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الأنظمة الديمقراطية المعروفة، وإنّما الجزء الكبير من البشرية أيضا. لقد أصبح الأفراد يعيشون في ظلّ إمبراطورية الأنظمة هاته التي غدت تتسم بحداثة واستبداد (أو الشمولية) متضايفين، بحيث أصبح هنالك من يعتقد أنّ الدول تهيمن بشكل متزايد على المجتمعات، فيقدمون العديد من الحجج، مثلهم في ذلك مثل أولئك الذين يرون أنّ هذه المجتمعات تفرض على دولها قواعد الديمقراطية التمثيلية. فرض علينا فشل كلّ هذه المحاولات العودة إلى نقطة البداية؛ إذ أصبحت أعرّف الحداثة انطلاقا من إرادة وقدرة هذه المجتمعات على خلق نفسها وتحويلها، بل وتدميرها أيضًا سواء لأجل الأفضل أو الأسوأ. والأهم من كلّ هذا، فهو إدراك كيف أصبحت هذه المجتمعات الحديثة تدرك بشكل متزايد أنّها لم تعد كيانات ذات نظام إلهي أو طبيعي، ولكنها تشكّلت بذاتها ولأنفسها. فالأمر لا يقتصر على استبدال "بيئات طبيعية" أو تغييرها ب "بيئات تقنية" وفقًا للتحليل الكلاسيكي "لجورج فريدمان"، وإنّما الأمر وما فيه، كما أظهر "أنطوني غيدينز" والآخرون، أنّ الفعل الإنساني له أهمية بالغة في هذا الشأن. لقد اكتسبت المجتمعات الحديثة معرفة كافية بذاتها باعتبارها مبدعة ومتغيّرة، وذلك من خلال تعديل الدوائر التقنية القائمة بالفعل. نحن المحدثون لسنا فقط "كيانات" تحددها الهويات والمجتمعات التي ننتمي إليها، ولكن أيضًا، وقبل كل شيء، "ذوات فردية"، أي موجودات محدّدة بوعيها الذاتي. إنّها كلمة التأويل -تلك المستخدمة بالفعل وعلى نطاق واسع، لا سيما من قبل أولئك الذين يدرسون الهيرمينوطيقا- التي تبدو لي الأنسب لتفسير ظاهرة الحداثة. الواقع أنّ جميع المجتمعات الحديثة أصبحت تُعرَّف من خلال تأويلها لذاتها، وهذا ما يؤكّد قدرتها وإرادتها الإبداعية على التغيرية، ولجوءها المباشر أو غير المباشر، نوعا ما، إلى مبدأ القداسة. وفي الوقت الذي تؤكد فيه هذه المجتمعات على القوة، وتجعلها نوعًا من الإله الخالق، فإنها مع ذلك لا تزال تلجأ إلى مبدأ خارجي غير إنساني لإضفاء الشرعية على أفعالها. في الفصل التالي، سوف أميز بين أربع حضارات عظيمة تحددها مستويات مختلفة من الحداثة والتاريخانية، والقدرة على خلق الذات والتحول الذاتي، وسأذكر أن الحضارات الثلاث الأولى أيضًا قد لجأت بوضوح إلى المبدأ الخارجي للشرعية. في المجتمعات التي تحددها الحضارة الزراعية والتي تكون سيطرتها على البيئة الطبيعية ضعيفة، تقدم القوة نفسها على أنها مقدسة (يتجلى ذلك بالأخص عن طريق الغزو)؛ فهي بخلاف للمجتمعات الحديثة، تنزع نحو الحركة أكثر منه نحو النظام: إذ يتعلّق الأمر فيها لقدسية مرتبطة بالسلطة الملكية أو الإمبريالية. أمّا في المجتمعات التي تأسست على التجارة الدولية الواسعة النطاق، والتي هيمنت على القرون الأولى من العصر الحديث، فقد عزّزت فكرة الأخلاق الطبيعية التي انتصرت خلال عصر التنوير، وذلك بفعل فكرة القانون الطبيعي كما حدث مع "روسو" ثم "كانط" بعده. وعندما ترسخ التصنيع بدءا بالقرن التاسع عشر فصاعدًا، فقد شاهدنا مجتمعات تؤمن قبل كل شيء بالعقلانية وبالآلات التي أنشأها العلم والابتكار البشري، فتبنت أيديولوجية التقدم التي أكدت بها نفسها وسعيها الحثيث للبناء وفقا لنظريات التطور الجديدة. أمّا الآن، فيظهر أنّنا أصبحنا مع المجتمع الأكثر حداثة، حيث بعكس الحالات السابق أصبحنا نقترب، من وجهة النظر هذه أيضًا، من شواطئ جديدة: أي من مجتمعات اكتسبت في القرن العشرين زخما كبيرا من خلال وعيها بداتها وبقدراتها غير المحدودة على التغيير والتحويل والتدمير، بتأثير من تقدمات المعرفة العلمية والابتكارات التقنية وعبر الكوارث التي كانت الحربين العالميتين، المحرقة والإبادة الجماعية والقتل الجماعي. ولقد أُجبرت هذه المجتمعات بطريقة ما على التخلي عن مناشدة مبدأ غير إنساني للشرعية. ولعلّ هذا الطابع الفريد تمامًا للحداثة المفرطة هو الذي يفسر رد الفعل المناهض للحداثة والخوف من المستقبل، اللذين كان لهما التأثير القوي لا سيما على قطاعات متطرفة واسعة: اليمينية واليسارية على حدّ سواء.