غالبا ما عرفت العلاقات المغربية الفرنسية منذ فجر الاستقلال إلى يومنا هذا نوعا من الثبات والاستقرار الثنائي على مختلف الأصعدة السياسية منها والاقتصادية والأمنية، فطبعت هذه العلاقة نموذج ذو خصوصيات متميزة من أشكال الصداقة بين الدول. وحسب اللغة التلميعية التي يحب أن يستخدمها الكثيرون عند وصف علاقة المغرب وفرنسا بأنها علاقة ذات بعد وعمق تاريخي والحقيقة أنها علاقة ذات بعد وعمق استعماري، اتسمت دوما هذه العلاقة الثنائية بالمتينة والوطيدة نظرا لنوعية الروابط والشراكات الاقتصادية والاستثمارية التي تجمع البلدين، وكذا لمدى التوافق والتقارب المثالي بين البلدين في الملفات والقضايا ذات المنحى السياسي وأبرزها ملف الصحراء المغربية، بل وحتى على المستوى القانوني والتشريعي كان ولا يزال القانون الفرنسي مصدر إلهام للمشرع المغربي. حتى نضع التوصيفات والمفاهيم في موضعها المناسب، فلكي توصف علاقة بلد بآخر بالعلاقة التاريخية، فمعنى ذلك أن يكون ما يجمع هذين البلدين هو قواسم مشتركة تتمثل أساسا في المصير الواحد واللغة والثقافة والدين، وليست هذه القواسم هي التي تجمعنا بفرنسا حتى نقول أن العلاقة بين المغرب وفرنسا هي علاقة ذات عمق تاريخي، وإنما ما يتجلى في العمق التاريخي هنا بين البلدين هو البعد الاستعماري، فالمغرب الذي خرج من رحم الاستعمار الفرنسي سنة 1956 لم يدفع السلطة الحاكمة لإعمال قطيعة ثقافية وفكرية ومجتمعية مع هذا البلد المستعمر بل على العكس بقي المغرب يترعرع تحت وطآة العلاقة الأبوية الوصية لفرنسا، هذه العلاقة أنتجت حزمة من المتناقضات خصوصا على المستوى الثقافي انعكست بدورها على ذهنية وشخصية الإنسان المغربي، تمثلت هذه المتناقضات في علاقة التضاد بين طبقات المجتمع المغربي في شكل فئات نخبوية فرنكوفونية لا تأبه لقيمة اللغة العربية اللغة الرسمية للبلاد، علاوة على نخبة من المثقفين والسياسيين والمهاجرين المغاربة الذين اختاروا فرنسا ملاذا وملجئا لهم، وفئات ساحقة أخرى من المجتمع المغربي تتقن العربية ولا تسعفها الفرنسية. وحتى ننطق بالحق كما هو، لم تكن هذه الوضعية نتيجة مفرزات ومخلفات استعمارية فقط بل هي أيضا مفرزات نظام تعليمي تائه ورديء. تعتبر زيارة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند للمغرب التي لا تقاس أهميتها في مدتها الزمنية المتمثلة في يومين 3و4 أبريل 2013، وإنما تقاس أهميتها في نوعية القرارات وحجم الاتفاقيات المبرمة بين البلدين، تعتبر الزيارة محطة نوعية تضاف إلى ذاكرة العلاقات المغربية الفرنسية التقليدية، فيحين إن ما أخرج هذه الزيارة عن الطابع التقليدي الذي اعتاده المغرب في علاقته مع فرنسا من خلال زيارات أسلاف هولاند من رؤساء الجمهورية الفرنسية الخامسة السابقين، يتركز في نقطتين أساسيتين والتي تناولهما المراقبون والمتتبعون في رصدهم وتحليلاتهم، تمحورت إحداها في بوادر وإشارات زيارة هولاند للجزائر قبل المغرب وتوجس المغرب من هذه الزيارة، وأخرى في المعطيات الجديدة التي تفرض نفسها والمنصبة في التحولات الإقليمية التي شهدتها دول المغرب العربي ودول منطقة الساحل والصحراء على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأمني انطلاقا من مؤثرات الربيع العربي والأزمة الاقتصادية وانتهاء عند ملف أزمة مالي. هذه المعطيات اجتمعت لكي لا تجعل من زيارة هولاند للمغرب مجرد زيارة كلاسيكية اعتيادية فقط، وإنما جعلتها زيارة لمواكبة ومسايرة التحولات المستجدة حتى تضمن فرنسا مصالحها الخاصة ومستقبلها أولا مع تواجدها في العمق الإفريقي انطلاقا من المغرب، وسنفرد بالوقوف عند هذين المعطيين ما يلي: * مدى صحة التوجسات من زيارة هولاند للجزائر قبل المغرب: برزت العادة التي تحولت إلى قاعدة دبلوماسية تقليدية أن يكون أول بلد يزوره أي رئيس فرنسي بعد انتخابه هو المغرب قبل أي بلد إفريقي آخر، لكن فرنسوا هولاند وهو الرئيس القادم من الحزب الاشتراكي الفرنسي كسر هذه القاعدة وقام بزيارة الجزائر قبل المغرب، قد لا يبدو أي معنى في إعطاء أمر زيارة هولاند للجزائر قبل المغرب قيمة أكبر من أنها فقط مجرد زيارة، إلا أن هناك من اعتبر أن هذه الخطوة لا تخلو من إشارات وإيحاءات ذات دلالات سياسية من الرئيس الفرنسي. لم يتأكد بعد مصدر هذه التوجسات التي طفت على سطح بعض البيانات والتحليلات الإخبارية والسياسية هل هي من جانب دبلوماسي رسمي، أم أنها مجرد استنتاجات وقراءات لمراقبين ومتتبعين. كيفما كان الحال يجب على المغرب أن يتحلى دوما بالثقة في النفس، فأن يزور هولاند الجزائر قبل المغرب أو يزور المغرب قبل الجزائر فذاك شأنه، نعم وبكل بساطة نقولها ذاك شأنه، المهم ألا تهتز مصالح المغرب، ويبقى المغرب رقما مهما في قواعد اللعبة الدبلوماسية وعارفا بكيفية إدارة سباق الإبقاء على العلاقات المتميزة مع الدول لجهته وصالحه، ويظهر أن المغرب لا يقل تجربة في ذلك. تلخصت دوافع الرئاسة في فرنسا من زيارة هولاند في دجنبر من السنة الفارطة للجزائر في رغبة الرئيس الفرنسي في إعادة بلورة علاقات جديدة مع الجزائر وتحسينها حتى تستفيد فرنسا من الجانبين وتلعب على الحبلين (المغرب والجزائر)، فكما هو معلوم أن العلاقات الجزائرية الفرنسية ليست بالجيدة وبقيت دائما متوترة نظرا للحزازات والمخلفات الاستعمارية التي تركتها فرنسا في نفوس الجزائريين، ولطالما طلبت الجزائر بلد المليون ونصف شهيد فرنسا بالاعتذار للجزائر على المستوى الشعبي والحقوقي كرد اعتبار لأبناء الجزائر الذين راحوا ضحية الاستعمار الفرنسي على مدار أزيد من 130 سنة من الاحتلال، حتى توهم البعض أن هولاند سيقدم اعتذارا رسميا باسم فرنسا للجزائر عقب زيارته لها ولكنه لم يفعل، فكانت إذن زيارة الرئيس الفرنسي للجزائر مجرد ظرف طارئ خصوصا وهي التي كانت تستعد للتدخل العسكري في مالي مما استوجب على فرونسوا هولاند الذهاب للجزائر من أجل التمهيد لذلك، ورأينا كيف تم التعاون والنهج المزدوج بين فرنساوالجزائر والمغرب أيضا على صعيد موازي في ملف مالي حين فتحت الجزائر والمغرب كل منهما لمجاله الجوي لتسهيل مرور الطائرات الحربية الفرنسية المتجهة إلى مالي. من جهة أخرى لم تنطوي زيارة هولاند للجزائر على هذا الأمر فحسب، بل اشتملت كذلك محاولات تسويقية من فرنسا لإقناع الجزائر بشراء أسلحتها الفرنسية الصنع وإتمام صفقات في ذلك، علما أن الجزائر اعتادت أن تقتني أسلحتها من روسيا والصين وبريطانيا أحيانا، فيحين أن المغرب يفضل الأسلحة الفرنسية والأمريكية، وعليه لم تدخر فرنسا جهدا في محاولة كسب الجزائر السخية في شراء الأسلحة كسوق جديدة لترويج أسلحتها وصناعتها الحربية، ولكت فرنسا لا زالت تفشل في إبرام صفقات عسكرية علنية مع الجزائر. وعليه فزيارة هولاند للجزائر أولا، هو حادث عارض بالنسبة للمغرب، وعلى دبلوماسية المغرب وقيادته ورأيه العام ألا يبدون توجسات وتخوفات من لا شيء، الأهم لدينا هو الانعكاسات والنتائج. * الاقتصاد هو المحرك الرئيسي للعلاقات بين المغرب وفرنسا: ليس فقط ما يربط النظام المغربي بفرنسا هو التوافقات السياسية أو العلاقات الشخصية، وإنما ما يربط البلدين أكثر مصالح وشراكات اقتصادية واتفاقيات تجارية بحثة في مختلف القطاعات، خصوصا أن الاقتصاد في عالمنا اليوم أصبح يهيمن على السياسة، بل الأكثر من ذلك أضحت المفاتيح التي تدار بها دهاليز الحياة السياسية في العلاقات بين البلدان تدار من منطلق المصالح الاقتصادية الضخمة، لأن التوافقات والتقاربات في المواقف السياسية بين الدول قد لا تدوم ويمكن أن تشهد بعض التقلبات والتأرجحات في هذه المواقف عند مجيء حكومات جديدة أو رؤساء جدد من مشارب سياسية وإديولوجيات حزبية مختلفة، وأما المصالح والروابط الاقتصادية فغالبا ما تدوم وتستمر. إن ما دعا المغرب لفرنسا وما وجه فرنسا نحو المغرب هو تثبيت الروابط الاقتصادية التي تجمع البلدين ومضاعفتها أولا وثانيا وبعدها قد يأتي التعبير عن المواقف السياسية الداعمة ثالثا أو رابعا إن صح هذا الطرح نظرا لأهمية المصالح الاقتصادية، ولعل هذا ما المعطى الأساسي هو الذي دفع بفرنسوا هولاند للانطلاق نحو المغرب. بعيدا عن لغة الأرقام المملة المتوفرة في كل مقام، لا مبالغة إن قلنا أن فرنسا كعضو مهم في الاتحاد الأوروبي هي المتحكم الأول في اقتصاد المغرب، فالشركات الفرنسية تمتلك حصص عظمى من أسهم القطاعات الحيوية بالمغرب وتتكلف أيضا بتدبيرها في مختلف المجالات كمجال الاتصالات والنقل والفلاحة وصناعة السيارات والسياحة ومجددا قطاع ترحيل الخدمات...وغيرها، حيث يعود تعزيز التواجد الاقتصادي الفرنسي في المغرب بالأخص في أواخر التسعينيات من القرن الماضي عندما قررت السلطة في المغرب دخول تجربة الخوصصة لتجاوز السكتة القلبية، فلم يكن للشركات الفرنسية إلا أن تستأثر بالفوز آنذاك بصفقات ما يسمى بالتدبير المفوض، وبقي هذا الوضع مستمرا إلى يومنا هذا. ظلت فرنسا على مدار سنوات هي الشريك الاقتصادي الأول للمغرب باستثناء سنة 2012 التي تراجعت فيه فرنسا للرتبة الثانية كشريك المغرب الاقتصادي لصالح إسبانيا، علاوة على انفتاح السوق المغربية على عدد من الدول الأخرى كالصين وتركيا وأمريكا ودول المشرق العربي، الذي من شأنه أن يجعل من المغرب آنفا منطقة حرة للاستثمارات والمبادلات التجارية العالمية، وسيولد ضغوط تنافسية مستمرة على مستقبل الشركات الفرنسية بالمغرب، مما دفع وسيدفع فرنسا دائما لترسيخ وجودها الاقتصادي في المغرب من خلال توقيع عدد أكبر من الاتفاقيات التجارية ومنح المغرب حزمة من القروض المالية، وهذا ما تم بالفعل إثر زيارة الرئيس هولاند، مما تبين معه استعداد المغرب الدائم لفتح ذراعيه لفرنسا والتي من جهتها هذه الأخيرة لا تتردد أبدا في عدم التخلي عن وضعيتها الاقتصادية المتميزة داخل المغرب وتركها تتراجع. * العلاقات المغربية الفرنسية وملف الصحراء: عندما استكمل المغرب وحدته الترابية إثر استرجاعه ما تبقى من الأقاليم الجنوبية من الاحتلال الإسباني سنة 1975 وبصرف النظر عن اتفاق المغرب مع موريتانيا على تقسيم الصحراء آنذاك، لم ينعم ولم يهنأ المغرب بهذه الوحدة الترابية بل للتو بدأت التصدعات الداخلية مع جبهة البوليساريو ومع الجارة الجزائر ومع إسبانيا، في فبراير 1976 بعد أشهر قليلة عن حدث المسيرة الخضراء أعلنت جبهة البوليساريو عن جمهوريتها الصحراوية المزعومة بمباركة ودعم من الجزائر، وتجاوزا لتفاصيل بعض الأخطاء التي ارتكبها المغرب في تدبير ملف الصحراء وجد المغرب نفسه أمام جبهات مفتوحة عسكريا وسياسيا في معركته على الحدود وصراعه للدفاع عن الأقاليم الجنوبية، فمن الحرب العسكرية مع الجزائر منذ المنتصف الأول من الستينيات وإجلاء القوات الإسبانية من مناطق الصحراء واستمرار المواجهة العسكرية المباشرة مع البولساريو المدعومة من الجزائر وليبيا مرورا بموافقة القصر على مخطط الاستفتاء على الصحراء في مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية بنايروبي سنة 1981 وتراجع المغرب عن موافقته على الاستفتاء ثم إبرام اتفاقية وقف إطلاق النار بين المغرب والبوليساريو مطلع التسعينيات فانتهاء بطرح مقترح الحكم الذاتي سنة 2007، مرورا بكل هذه المنعرجات بقيت فرنسا وهي الدولة صاحبت العضوية الدائمة بمجلس الأمن متمسكة بموقفها الداعم للمغرب في ملف الصحراء، وحتى التوتر المسجل في العلاقات المغربية الفرنسية بين الملك الحسن الثاني والرئيس الفرنسي الاشتراكي فرنسوا ميتيران لم تكن تداعياته تتمثل في تغير موقف فرنسا من قضية الصحراء مع قدوم فرنسوا ميتيران المنتمي للجزب الاشتراكي الفرنسي للحكم في فرنسا ماي 1981 كما ذهب البعض، وإنما انصبت تداعياته في غضب الرئيس الفرنسي آنذاك من اعتقال وحبس نظير حزبه في المغرب الزعيم الاشتراكي عبد الرحيم بوعبيد ورفاقه بسبب معارضته للملك الحسن في قبوله لفكرة الاستفتاء على الصحراء وطرحها في أشغال مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية شتنبر 1981، على اعتبار أن قبول الاستفتاء هو شبه تنازل عن الصحراء ووضعها في احتمال أن تكون مغربية أو قد لا تكون، ولكن سرعان ما تلاشى هذا التوتر بعد الإفراج عن عبد الرحيم بوعبيد بعد شهور من اعتقاله. بعد ذهاب المغرب لاختيار الحل السياسي والدبلوماسي لملف الصحراء منذ بداية التسعينيات إلى الآن، وقبل أن تدخل أمريكا على الخط في قضية الصحراء المغربية باحتضانها لمفاوضات مانهاست، ظلت فرنسا هي الداعم الأساسي للمغرب في قضية الصحراء، خصوصا في فترات حكم اليمينيين جاك شيراك ونيكولا ساركوزي الذي اصطحب معه بعد انتخابه رئيسا لفرنسا لمشروع الاتحاد من أجل المتوسطي الفاشل، لتأتي زيارة فرنسوا هولاند الاشتراكي للمغرب ليؤكد من خلالها عن دعمه وقناعته بواقعية مقترح الحكم الذاتي، فتأييد الرئيس الفرنسي لمشروع الحكم الذاتي كحل للنزاع حول الصحراء لا يخرج عن سياقات متعددة من أبرزها الانزلاقات الأمنية الأخيرة التي شهتدها مناطق الساحل والصحراء بإفريقيا خصوصا بعد التأكد من انضمام عناصر من البولساريو للحركات المتمردة بمالي، وعلما أن أية انزلاقات أمنية تقع دخل إفريقيا تضر مصالح فرنسا. ويبقى من بين ما لا يفهم هو من أين لفرنسا أن تدعم المغرب في ملف الصحراء وفي نفس الآن تسعى لكسب الجزائر كسوق جديدة لبيع الأسلحة وتسويق صناعتها الحربية لديها، أما ما يفهم ويبرر ذلك أن منطق المصالح أصبح بمنظور البراغماتية التي تتحكم في مسار العلاقات الدولية أصبح فوق كل اعتبار وكل موقف جاد وصادق. ختاما أرادت القيادة السياسية في المغرب أن تظهر حفاوة كبيرة في استقبال الرئيس الفرنسي لدرجة أنه حتى أسفلت المدينة الاقتصادية ازدان بوابل من السجاد الأحمر. إن نتائج هذه الزيارة على المستوى الاقتصادي والسياسي وحتى الثقافي أظهرت إيجابياتها للتو بالنسبة للمغرب الرسمي، نقول المغرب الرسمي وليس الشعبي لأن انعكاسات زيارة الدولة الفرنسية هذه في شخص هولاند للمغرب بالنسبة للمواطن المغربي البسيط تبقى مبهمة على المدى المتوسط والبعيد إن كانت إيجابية أم سلبية. [email protected]