عمرها في تاريخنا 14 قرنا، وضع تصميمها وبناها الصحابي الملك معاوية بن أبي سفيان منذ أن استولى على الحكم وورّثه بالسيف ولي عهده يزيد، ثم توارثه ولاة العهد الأمويون (ما عدا سيدنا الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه)، وولاة العهد العباسيون والفاطميون والممالك، وكل الدول المستبدة التي حكمت بلاد المسلمين. استعملوا الماكينة وطوروها وصانوها ودوّن علماؤهم تصاميمها وأصلوا لها ودعوا لها. تسلمها الملوك العلويون قبل حوالي أربعة قرون وطوروها و"مغربوها" لتأخذ أصالة جديدة بألوان وأشكال مختلفة، لكن تؤدي نفس الوظائف: الاستبداد والتسلط ونهب خيرات الأمة، وتحتوي على نفس المكونات. ثم ألصقوا عليها ماركة مسجلة: " المخزن العلوي"- "صنعت في المغرب". ماكينة كبيرة جدا على شكل نظام إنتاج محكم بسلاسله الإنتاجية الموجودة في معمل له إدارته التي تشتري المواد الخام و المواد الإضافية وتدبر الإنتاج و تسوّق البضاعة، وعلى بابه يافطة كبيرة كُتب عليها "دار المخزن". مادتها الخام هي كل من يدخل بابها. تحمله من محل الخزن وتسير به حاملات المعمل ورافعاته، ثم تطرحه على دواليب الماكينة وسلاسلها على المسارات المعدة لذلك، وتضاف إليه المواد اللازمة ويطبخ في المطابخ وينخل في المنخلات، ويصفى في المصافي، وتضاف له المواد، وربما أدخل الأفران، لتطويع مادته وإن كانت أصيلة، ويمر بالقوالب التي تعطيه الأشكال المطلوبة، ويمر بالأصباغ لتعطيه الألوان اللائقة، فتخرج المنتجات على أشكال مختلفة وألوان. كل يُستعمل في ما يصلح لجوقة المخزن: إعلامي أحمر أو أصفر، خطيب أزرق أو أدهم، سياسي بني أو ليموني، لكن كلهم بقاسم مشترك، خضوع بل ركوع لصاحب الماكينة ولي النعمة وصاحب المنة والسطوة. وهكذا يدخل مثلا مناضل أحمر، أو مجاهد أخضر، مادة خاما لدار المخزن فيمر بمساراتها ودهاليزها وأنشطتها ومناصبها ومؤتمراتها ومأدباتها وأموالها ويسكن فيلاتها، وربما يذوق أذى سجونها وسلخها. ورويدا رويدا يأخذ الشكل واللون الذي يجعله صالحا لأداء دور ما في مكان ما في المعمل أو خارجه في وظائف الإدارة أو البيع أو الشراء. من خطوط إنتاج هذا المعمل الضخم خطوط تنتج الُّلعب والألعوبات والألاعيب، بل تنتج أنظمة لعب متكاملة، منها نظام- ألعوبة كتب عليها ماركة مسجلة "الديمقراطية "-"صنعت في الغرب".. لا تستغرب ل"الخطأ المطبعي " فالبضاعة لن تسوق إلا في المغرب. نظام- ألعوبة فيها اللعبة اليدوية والكهربائية والمتحكم فيها عن بعد والكبيرة و الصغيرة. ومنها الألعوبة التي يجب أن يكون لها مكان فسيح يتسع لبهلوانات ورقاصين أو ممثلين وحتى حيوانات، كالسرك مثلا. رحم الله عالمين كبيرين بحقيقة المخزن وألاعيبه ومهندسين خبيرين لمعامله. الأول الحسن الثاني الذي وصف البرلمان بالسرك، والثاني عبد الهادي بوطالب، الذي وصف الديمقراطية المخزنية بالألعوبة. وما دمنا في عالم اللعب والألاعيب السياسية المخزنية بحثت للحكومة التي يعينها الملك عن لعبة أشبهها بها، وفورا تحول خيالي إلى حديقة الألعاب التي يغشاها الأطفال رفقة آبائهم، وتساءلت عن أي ألعابها أقرب لتمثيل الحكومة، فاحترت بين لعبتين، اختر أيها القارئ إحداهما. الأولى هي القطار الذي يركبه الأطفال. له كل ما للقطار من مكونات: القاطرة والعربات والطاقة التي تدفعه. وكم يكون فرح ذاك الطفل الذي يركب في مقدمة القاطرة ويمسك بالمقود وينتشي بالشعور الذي يكتنفه أنه هو القائد للقطار. كلنا نعلم أن القطار- اللعبة وضعت له سكة تتحكم في توجهه و وجهته وتتحكم في سرعته و الوقت ينتهي عنده زمن اللعبة. عندها ينزل الأطفال بشعور ممزوج من الفرح باللعبة والأسف على انتهائها. اللعبة الثانية، وهي ربما للأطفال الأكبر سنا، تلك التي تحتوي على عدة أشكال من المركبات: سيارات ودراجات نارية وطائرات من ماركات مختلفة وأحصنة وحيوانات مختلفة... وكلها مثبتة و ملصقة بصرح أسطواني يدور حول محور. يتسابق الأطفال ليركبوا على ما يشتهون من تلك اللعب، أحدهم يركب السيارة والآخر الطائرة و آخر دراجة نارية وآخر حصانا، وكل واحد ينتشي سرورا بتدوير المقود أو باهتزاز الحصان أو بشيء آخر، وينغمس في الشعور بأنه يقود سيارة أو طائرة أو يركب حصانا أو يسرع بدراجة نارية أو غير ذلك... بيد أن الآباء يعلمون أن كل تلك اللعب- المركبات لا إرادة لها بل تدور بدوران الصرح في دوراته المتتالية الواحدة تلو الأخرى والمتشابهة. ويصاحب ذلك الدوران و الدورات، من أجل شغل الأطفال عن الشعور بالوهم، موسيقى من أبواق قوية الصوت وأضواء مزخرفة مثيرة على غرار المهرجانات الموازينية والفرق النحاسية. في حديقة اللعب لعب أخرى كلها تبيع أوهاما لأطفال ينتشون بها لفترة فيسعدون، وبعد ذلك يرجعون إلى واقعهم، و يتمنون الرجوع للعب يوما ما أو في استحقاق آخر. وربما وجدت يوما ما من هذه اللعب- المركبات: منبرا أو منصة أو تلفازا أو مقر حزب أو مكتب وزارة أو إدارة أو غير ذلك. ولسائل أن يسأل كيف تتمكن دار المخزن من بيع هذه اللعب والألاعيب، وتتمكن من إلهاء الناس بها. الأمر بسيط، يجيبك العلماء و المهندسون، يجب أن تستطفل الناس لكي يقبلوا اللعب باللعب-المركبات، بل يقول آخرون يجب أن تستحمرهم . وقال الله عز وجل وهو أصدق القائلين "...استخف قومه فأطاعوه" ، جعل العقول خفيفة والنفوس ضعيفة بتربية وتعليم وإعلام وتدين ممخزن تنشطه صنائع ماكينة المخزن من مثقفين وفنانين وعلماء وإعلاميين ووعاظ وتقنوقراطيين وسياسيين، وغيرهم من كوادر التأثير في المجتمع. لكم كان استغرابي كيف تمسخ ماكينة المخزن من يدخلها عندما التقيت أحد الوزراء جاء لتقديم العزاء في المرشد رحمه الله. عرفته طالبا متقدا متيقظا واعيا قويا لكن عندما أنصت إلى خطابه ونحن في جلسة غير رسمية، آنذاك عرفت خطورة الركون إلى "الذين ظلموا" حيث تَمَسّك نار الجهل و العجز والرداءة و الزور وكافة الأمراض الفتاكة بالمروءة. فلينظر الإنسان كيف يجب أن يبقى خارج تلك الدار لكي لا تتلقفه الماكينة بأسنانها وتبلعه لكي تخرجه فاقد العلم والوعي والحس والهمة والشجاعة والإرادة، لا يصلح بعدها إلا لمصالح الدار الماكينة و لألاعيبها. وكل دورة واستحقاق و أنتم بخير. بل وكل دوخة واستخفاف و أنتم بخير. *قيادي بارز في جماعة العدل والإحسان، وصهر مرشد "الجماعة" الراحل عبد السلام ياسين