الحمد لله أوْلى ما ملأ النّاطقُ به فَمَه، وافْتَتَحَ كلِمَه، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، خير البريّة أقْصَاها وأدْنًاها، وأبَرُّ بَني الدّنيا وأوْفاها، أبْدَلَ الخَلْقَ رُشدًا من بعد ضلالتهم، وفَلَّ بالسّيف لمّا عَزّ عُزّاها .. شُعَاع: " لم أستطع الكلام؛ ولكنّي استطعتُ التفكير، وقرّرتُ أن أستثمر هذه الإمكانية حتى النّهاية " / ع.ع.فيغوفيتش ( هروبي إلى الحرية ، ص : 18 ) وبعد : إنّ كل مُتتبّع لمسار الكلمات منذ وُطِّدَتْ دعائمها على يد المتفوّهين بها من الناس إلا ويقف على جملة من مُعاناتها، ويتعجّب من سوء تقدير عيال الله لسَماقتها ومَقْدُرَتِهَا وما يمكنها فعله في دنيا الوجود، ويَهُولُه ما قاسته من جَفوة على يد الأقربين منها (القساة) والأبْعَدين عنها (العُتاة)، وما تُعاني منه اليوم من عدوان هذا العصر اليابس المُتَخَشِّبِ المُعَوْلِم والمنَمِّطِ ، عدوان مادي ومعني لا مثيل له في وحشيته وبذاءته . هذا؛ وباستثناء أنْ يَستحضَر المرءُ – من باب الإنصاف – لحظات صفاء مَآوي وتقدير معلوم للكلمات والحروف والفكر، سَمَت على يد أرباب المستوى ومُهندِسي المعرفة، من سُقراط بأثينا إلى كانط بألمانيا، ومن الرُّومي بالأناضول إلى المختار السوسي بإيلغ .. رحلة تاريخية بين التعثر والأوج تنفّس الزمان فيها لصالح الكلمات، ونجا فيها الفكر من أوحال الطِّينيّة وغُبار الزّبالين في مشارق الأرض ومغاربها، وما انقلب الغبار _في الأخير_ إلا على رأس من أثاروه ! إنّي أتغَيّى معشر الأحرار من مقالتي هته أن أتقاسم معكم _ بكل موضوعية _ ما تعيشه بعض العقول من لحظات (انتحار إرادي) و (بؤس استيعابي) من جهة، وأساهم وإيّاكم من جهة أخرى في زرع جِذوة من فسائل الأمل في صفوف عشّاق الحرف والفكر والمعنى، وتَلَمُّس هامش من طريق (العودة) و(الاستئنافة) صوب المعرفة القاصدة، وذلك عبر تبنّي مشاهد كفاحية أنموذجية أقام صُرُوحها زمرة من مفكّرينا وروّاد المعرفة والدعوة والإصلاح . أما من الجهة الأولى؛ فإنّي _ بحق _ أشعر بعطف كبير على الكلمة، على الحرف، على مُتَوَعّكي الفهم، على تجار الكلمة الذين يصنعون من حروفها أفظع النّعُوش لأقبح الجُثَث ! إنّ كل آلام الكلمة _ قديمها وجديدها _ تنْصَبُّ في عقلي، إنّ كل أحزان الفكر تتجمّع في قلبي، وإنّ كل مْمسُوسٍ بداء (وفاة الشّعور المعرفي) يُزعج راحتي .. ! ليس لأنّي قدّيس .. بل لأنّي مصاب بداء الحساسية .. بالانتقال إلى الآخرين .. إلى أحزانهم، إلى آهاتهم المكتومة والمُسْتَتِرة . ولأنّي كذلك أدركُ بِيُسْرٍ وبَساطةٍ آلامَ الأحياء .. وأحِسُّ بآمال مَن رحلوا، الصادقين الملتصقين بالأمة وقضاياها.. تعْبُرُ فوق أعصابي، لتنصَبَّ في أفكاري ! فدَعوني أتَعَرَّى بالاحتجاج على بعضهم، فإنهم يُسَبِّبُونَ لي كل غيظ، كل حزن وأسى.. حينما يغتالون _ عن قصد أو جهل _ الحرف وسماحة الفكر، ويَنْزِلُون بِهِما إلى (رَدَهَات) الدُّونية المَقيتة، بعدما نَزلا في جلال وبهاء تحت مظلة (إقرأ) من الفَوْقَانِية المُقَدَّسة ! وليسَ في وسْعي _ ابتداءً _ إلا أن أقول إنّي لا أجد مثلا لهؤلاء (البؤساء) بتعبير هيغو؛ إلا كمَثل ذبابة هزيلة سقطت على نخلة عملاقة، فلمّا همّتْ بالانصراف قالت للنخلة في استعلاء : تماسكي أيتها النّخلة فإنّي راحلة عنك ! فقالت النّخلة: انصرِفي أيتها الذّبابة الحقيرة فهل شعرُت بكِ حينما سقطتِ عليَّ لأستعدّ لك وأنت راحلة عنّي !؟ ودائما من الجهة الأولى؛ يزداد احتجاجي حِدة يا سادتي حينما أقف _بعين الملاحظة وعلى واقع التجربة_ على هُزَال محتوى الوعاء الفكري عندنا معشر الشباب الجامعي، العاملين في حقل (المعرفة والدعوة والإصلاح) وغيرهم، وعلى هشَاشة البنية الاستيعابية لمشاريع التغيير، في الوقت الذي يُفتَرض فيه التوفّر على قسْطٍ مَعْقول من علوم الدّنيا والدين من أجل مُسايرة الرّكب، وتَلَمُّس المَوْضِع التّاريخي الصّحيح في معادلة النهضة وبناء الحضارة .. إذا كنّا نُقَدِّر بحق (حِسَّ الانضمام إلى أمّة الحرف والقراءة) فلِمَ يا تُرى مُستوانا على حاله هذا؟ إذا كان قد تحصّل لدينا ما عاناه الأقْدَمُون والمُحْدَثُون في سبيل إثراء عقولنا وإغناء المكتبات؛ فهل نحن على آثارهم مُقَتَدُون، أم عن طريقهم نَاكبُون؟ ما هيَ خُطوات انتقالنا من (الحرف) إلى (الفكر) عبر تعزيز القوة الإنمَائية للمعرفة في عُقولنا _ هذا إن كنا نقرأ _ في الأصل؟ إنّ دُوَارُ الرّؤوس مِن أثر دقّ طُبول الفَراغ؛ هو أخطر ما يمكن للإنسان المتعطّل (عقليا/علميا) أن يواجهه في حياته الدّنيا .. تُرانا تَجَاوَزْنَا هاته المَطَبّة، أم لا زلنا فيها قابعُون ؟ عندما يأتي رجل من أقصى الغرب يسْعَى، ويُقرّ بأنّ (للإنسان قوّتان : قوةُ التّحكّمِ عبْر التّفكير؛ وقوّة السّيادة عبْر التّسخير).. فهل قبْلَه كنّا عن هذه الحقيقة غافلين؟ ومِن بَعْدِمَا أُشْرِبْنَاهَا أتُرَانَا انْطَلقنا بها في الآفاق نَاشرين ومُحَرِّضِين؟ هل (نفهم) ما نَقرأ ؟ ومتى نَرْسُواْ على حافة (المُحْتَرِفين في الفكر والمعرفة والخطاب) إذا علِمنا أنّ مَوْقِعَنَا الآن هو في درجة (الهُوّاة)؟ لا ضيْر في أنْ نقع من أخمص الأقدام حتى الرّؤوس في (المَحَطّ) الواسع لهذه التساؤلات، لأننا ما دُمْنَا نتساءل فالعقول بخير، ولسْنَا مُطَالَبِين أو ملزَمِين شَرْعًا ولا نقلا ولا عَقلا بأنْ نُجيبَ عن كلّ ما نَسْأَل ونُسْألَ عنهُ ! هذا إن علمنا بأنّ السؤال يبقى، والجواب عنه يفنى، أو كما قال الدكتور طه عبد الرحمان حفظه الله . أما من الجهة الأخرى، وسَعْيًا صوبَ بَصِيصِ إجابة عن (الكَبوة) المَوْسُوم بها من هَجَوْنَاهم سَلَفًا، وتعميقا لفَهْمِ العوائق، وتثبيت شروط الاستفاقة، فإنني وإيّاكم لَعَلَى هُدَى (الآثار المُعَمِّرَة) لصانعي (الخمائر الحيوية) المُوِقظَة للعزائم، ومُشَيِّدِي (أطلس أفكار الأمة) في ماضيها القريب وحاضرها المُعاش، على هَدْيِهِم نسيرُ ونَنْقَلع من (ضُحال الحال) إلى تفهيم وتمكين المُغَيّب من (تَمثّلات) عن المعرفة والفكر .. وكذا؛ قُل عن الدّعوة والمناهج والفنّ والثّقافة والتّخطيط الاستراتيجي ... إلخ . إنّنا كطلبة علم ومعرفة كثيرا ما نجد أنفسنا أمام مُلْتَقَيَاتٍ قَدَرِيّة وقتَ إعادة لَمْلَمَة شَمل ما توافرَ لدينا من معطيات ومفاهيم ومنطلقات، ووقتَ تجديد ما تمّ ترتيُبه من نُظُم البناء المعرفي في عقولنا، ونُظُم الخِطاب عند نقاشنا وأثناء محاوراتنا.. لكن كيفية وحسن استثمار هته المُلتقيات القدرية هو عينُ القَصْدِ مِن حُدُوثِهَا {وما نُلْقي بالآيات إلا تخويفا}، وعين المُراد من تواتُرها بين الفينة والأخرى، وفيها ما يَحضُّ على الانْعِتَاق مِن ربْقَة (الانفعالات) والانطلاق في بناء (الفاعِليات) بما يتواءمُ والمَقْدُرات العالية التي منحها الله لمخلوقه ذو العقل الفعّال كي يَخلُدَ به. لكن لا غرو أن نجد من بيننا وبين حتى أسلافنا مَنْ كَفَر بهذا (الامتياز) العظيم، وقامَ بكل سَفهٍ باغتيال عقله بأنْ حَرَمَهُ لذّة التغذّي المعرفي؛ فأضحى بين النّاس من المُفلسين ! في حين اشْرَأبّت أعناق رجال كُثُر إلى طلب العلم، وَسَمُواْ في سماوات المجد والشرف المَعْرِفِيَّيْنِ، ضاربينَ في ذلك أروع الأمثلة في احترام العقل، والْتِهام الحَرف وصناعة الفكر، هذا؛ وَهُمْ في مَعْزِلٍ عن الإيمان بالخالق تبارك وتعالى.. ! ولا نُعْدَم نَمَاذِجَ في هذا المقام، من هيرودُوت إلى نيرون، ومن هيرقليديس إلى أفلاطون، وإنّ من أكثر وجوه الحكمة في تاريخ البشر بلا جدال هو سقراط، ذاك الذي (بقيت أقواله طوال خمس وعشرين قرنا؛ أقْوَاتًا للفِكر، وشرابا سائغا للأفهام، وهْو مثال التأمّل البشري، ورائدُ العوالم الغريبة التي لم تطأها بصيرة أيّ حكيم، ذاك الذي صعد إلى قمّة " لستُ أدري " لأوّل مرة، وهو بُستانيُّ رياض النّبوغ الرّائعة) كما وصفه الراحل علي شريعتي في كتابه _ سيماء محمد _. وفي معرض حديثٍ مُشابِهٍ وهادِفٍ يَرْصُدُ لنا علّامة الأناضول وبحر العلوم بديع الزمان النورسي سبب فقدان المسلمين لناصية الحضارة وتخلّفهم عن الركب، وانخراطهم _ بلا وعي _ في تيّار الجَهالة و (التّغييب) وذلك في عاملين : 1_ الفُتور في السّعي وعدم الرغبة في العمل، خلافا لما هو مُستَفادٌ من الآية الكريمة الآمِرة {وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى}، وانطفاء جذوة الشّوق والكسب، والمُستَفَادُ من القول النبوي بأن {الكاسب حبيب الله} 2_ سلوكهم في الطبيعة مَسْلَكًا غير طبيعي، مَسْلَكا يوافق الكَسَل ويُلاءِمه، ويداعبُ الغرور ويرتّب عليه، وهو المَعيشة على الوظيفة، أيْ القناعة على أسلوب واحد للكسب دون النّظر إلى أبواب الله في سائر الجهات الأخرى .. هذا أجلُّ إفْصاحٍ عن الحالة التي تَنْبَصِمُ بها الأمة ومن ثمَّ الفرد، عندما يَنْسَحِقُ تحت حَوَافر (الموت الاقْتِدَاري) المُتَمَثّل في هَجْرِ الحَرف، والتَّمَسُّحِ على أعْتاب قُبَّة (الجهل). ولا نقصد بالجاهلين هنا أولائك الجُهّال البُسَطاء، الذين لم يَقرءوا قطّ في حياتهم ولا خَطّوا بأيْمَانِهِم؛ إنّما غَايُ الإشارة هنا الذين يَقرءُونَ، ولكنّهم لا يَفقهون، وسُرعان ما يَنْسَوْنَ، ولا يعلمون أنّهم لا يعلمون، ويَحسبون أنّهم يَعْلَمُونَ ! هَؤلاءِ يا سَادَتِي جَهَالَتُهُم (مُرَكّبَة). قبْل قَليل قلتُ بأنّ الله أوْجَدَ فينَا عُقولاً نيّرَة، وقلوبا متيقّظة، ودينا عاصِما، ولكنْ رغم هذا ابتُلِيَ بعض (البؤساء) بِهُمُودٍ فِكري خطير و إعاقة استيعابية وتصَحُّرٍ قلبي فظيع.. فهل السّبب هو انسلاخُ العَقل عن التأييد بالإيمان؟ أم عن حدوث انفصال بين الآيات والقيم؟ أمْ عدم القُدرة على تفعيل مُقتضَى الاعتبار بالعُبُور من أحْكام النَّظر إلى أسْرار العِبَر (الغائية من العقل) بالتّعبير " الطّهَئِي "؟ أمْ الأمر مُجرَّد تغافلٍ عن نعمة الله القدير؟ أم تُراهُم لا يتساءلونَ أصلاً ولا هُمْ يَذّكّرُون ؟ أسئلة لاَهِبَة تَنْطَرِحُ عليَّ مُلِحّة في مَعرفة (أبعاد الانتكاس) المُعَرقِلَة لانتقالنَا إلى ضفاف (قارة الفكر والمعرفة) المُوِاليّة لِمَنْظُومَة الأخلاق والقيم، والمُعْتَبِرة بنداءات الكتاب أنْ {سَنُريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} و{فاعتبروا يا أولي الأبصار} و غيرها .. فالإنسان المؤمن السّائر على هُدى العلم والمعرفة هو من أثقل القوى المُحَرِّكَة، وتَسمِيّتُهُ ب {الثّقَل} تسْمية ربانية هي مفتاح فهم حركة الحياة ومنظومتها كما يقول _أ.م.الراشد_، وعليه؛ يكون الأقدَرَ على الإجابة مَن يَستطيع أن يَكون من صُنع نفسه، أيْ أن يكون شريكا في بناء ذاته _ بتعبير شريعتي _، عبْر تَفعيل الأمر السَّامِي {اقرأ باسم ربك}، ومَن يُقَدِّرُ مَا أسْبَغَهُ الله عليه من نِعَمٍ أجَلُّها مَلَكة العَقل التي يَحْتَكِمُ إليها ويَمشي بها مُضيئا جَنَبَات الطّريق السيّار المُمتلئ عن بَكرة أبيه بالغافلين المُضَيّعين . فالفكر المَعرفي مهْمَا بَلغ مِن القوّة والنّضج، يَظلّ _ بغير السّند المذكور أعلاه _ عاجزا عن مُعَالجَة قلَقِ النّفْسِ وَجَائِحَاتِ الرّوح . لأجل هذا؛ كانت العَودة إلى عمق وروح الدّين ضابطٌ لتعزيز صِبْغَتِنا العُليا وتَفْتِيقِ قُدُرات العُقول، بِتَقْزيمِ دَور النّفس الهَلُوعة واسْتيلاءِ قراراتِها الفَاشلة واللّاواعِية أحيانا تُجَاهَ انفلات وخَوَر الفكر .. ولْيُسَّمُونَنَا رجْعيين أو سَلفيين؛ لا يهمّ، فنحن قومٌ نأخذ بالتّأصيل ونستعين بالتّأثيل، ونُغَرْبِلُ الحديث، ونَحْتَاطُ مِن التّقَوْقُع في المُعاصِرة، ونُجدّد ولا نُشدّد، ونُبْدعُ ولا نَتّبِع، ونُطابق ولا نُناقض .. فهَلْ يُرضِيهم هذا عنّا ؟ فالمفردات تقودني .. وأقودها أنا شكلها .. وهي التّجَلّي الحرّ / _م.درويش_ لا نُسَلّم بِكَوْنِنَا مَعشر الشّباب القَارئ قَد اسْتَوْفينا شُروط الاسْتفَاقَة هَذه، أوْ قَد دَرَيْنَاهَا ابْتداءً، لذا لا نَتَعَجَّل التّبْشِير بِتَمَيُّزنا وفَرَادَتِنَا في ظلّ وضع جمَاعي/فردي مَوْبُوء ومُتَوَعِّك ومَيّال للدّعَة والرّاحَة، فالصّمت هنا أبلغ في الدّلالة من نُطقنا ! لكن إلى البعض أقول : لا يقتل الفكرة المتفرّدة في مجالها، والحاملة لشعار تثبيت راية الإرادة في الذوات،القاصِدة عقلَ من (يُعلي من شأن الدّائم ويتجاهل المؤقّت) _ بتعبير م. إقبال _، العازمة على عيش (المعراج) في عالمها الداخلي، المُتَعَلّقة الهمّة ببعث (الفعّالية) شبه المفقودة، المحتوِية على حسن التّفهيم .. لا يقتلها إلا الصّمت عنها، أو خِذلانها من الوصول إلى النّاس، وكم من حَقٍّ ورُشْدٍ قَتَله الصّامتون ..! ويَحيا السّؤال قائلا: بَمَ نتقوَّى في العلم؟ وبأيَّ كتب ومعرفة نريد حجز مقعد كريم في دنيا (مُهندسي المعرفة العقلانية ومُصَمّمِي الخارطة الفكرية للأمّة)؟ إنّه يتوجّب علينا في البَدء وأثناء السّير حُسْنَ التّبَيُّؤ ضِمن زمَكانية المجتمع الواسع، لأنّ حالة الأفراد إنما هي رَجْعُ صَدًى للحَالَة العَامَّة للمُجتمَع الوَاسِع؛ اللّهم مع بعْض الاسْتئناءات التّاريخية .. ولا مناصَ ضمن هذا السّياق من أن نُحسن (انتقاء) ما نقرأه، وإجادة (فهم المقروء)، لأنّ الفَهم هُو النّقطة الحَرِجَة في إنجاح عملية النهضة _ بتعبير جاسم سلطان _، ولأنّ الكلمة التي نُريد قراءتها لابدّ أن تكون هي الطّريق المَلَكي لمُمارسة السّيادة والشّهُود على الإنسانية ! ، وتعزيزا لهذا المَعْنَى أورِدُ لكم قوِل المُفكّر العالمي م.فتح الله كولن مُنبّها على أنّ (سلطة الكلمة ضرورية لانتقال الأفكار من ذهن لآخر ومن قلبٍ لآخر، والذين يُحسِنون استعمال هذه الواسطة من أرباب الفكر، يستطيعون جَمْعَ الأنصار للأفكار التي يريدون زرْعَها ..) فَتَبَصَّرُواْ !! ينضافُ إلى هَذا، ضرورة الدّخول على معرفة تكون عَوْنًا على تعبير مُنَظَّمٍ للشّعُور، فَلَيْسَت كلّ المعرفة نافعة، وأسوء اللّصوص كتابٌ تافهٌ كما قيل. فالكُتب القاصدة، والقراءة الغائية، والنقاشات الراغبة في الازدياد المعرفي، والمبادرات القَمِينة بتجذير المَعْرفة في الأوساط الاجتماعية، والسّامية عن التّسطّح والتنميط والتّعَوْلُب؛ حَرِيٌّ بها – أعزّائي – أن تَسْمُواْ بنا من حال لحال، وتَرقى بنا دَرَجاتٍ مُثلى، وتظلّ هكذا؛ تشحَذُ عزائمنا، وتصقل مواهبنا حتّى تُنْضِجنا وتجعل منّا كيانات متوحّدة ومتجانسة، تُخرج منّا أفرادا بأمّة . لا نريد معارفَ من قبيل تلك التي تُحْشى بها الرّؤوس ويُتَباهَى بها في المجالس؛ فلا تعدو _إذّاك_ عباراتُ ومُدَاخلاتُ مجموعةٍ من تِلكم الأكْوَام البشَريةُ و السَّنابل الفارغة _بتعبير المُتَنَبّي_ سِوى مُهَاتَرَاتٍ وعَنْترِيّات وتَهَارُجٌ وتَدَابُرٌ تمُجُّه الفِطرة السّليمة، وتأبَاه العُقول النّقية ! وأجدّد الدّعوة إلى عدم الانزعاج من جراءتِي؛ فقد تَوافقنا مُنذ مَطلع المَقال على (فسحة للاحتجاج على البعض وعلى الحال)! وعَبْر مَخاض البحث عن إجابات وافية لتساؤلاتنا السّالفة، نعود لاستحضار بعض الذين زَانُوا الكَلام وأناروا الظّلام وسهروا في نحْت الفكر والنّاس نيام، فشَادُواْ صُرُوحاً راقية؛ لِمَعْرِفَة باقية تنفع الأنام. ففي بلاغة ودقّة قصد يُوصي الغائب/الحاضر عبد الوهاب المسيري عموم الشّباب الباحث عن معرفة طائشة هنا وهناك قائلا : (.. إنّ تزايد المعلومات لا يؤدّي بالضّرورة إلى زيادة المعرفة والحكمة؛ وإنّما العقل الإنساني الواعي والخلّاق هو الذي يحتوي الوقائع والأشياء ويتخطّاها .. وما يَهمّ؛ ليس كَمُّ الحقائق الذي يُحْشَد، وإنّما طريقة النّظر فيها، وتحليلها)، والفِكر في عمومه _ كما العقل _ لا يقبل التقييد، لا يستطيع البقاء حبيسا في دائرة معرفة تعاني مِن سُوء التّغذية، يَمَلُّ القضية الواحدة، يُحبّ الانفتاح على عوالِم أخرى حتى المَاورائيات، يهْدف إلى صناعة الفعل، يُشكّك، ينتقد، يُطرّزُ بِسَاط أنْسِقَة مَعرفية وازنة، يَصرخ (أنا أقْدِرُ) كانْطِيّاً، يتجاوز (أنا أفكّرُ) ديكارتِيًّا .. ! فالذين هُم على هته الشاكلة دائما مَثَار إعجاب وتقدير، أو موضع محنة وتحذير، فهل تعلمون نوعية التُّهْمَة التي قُصِفَ بها المعارض السّوري الإسلامي منير الغضبان ؟ إنّها ( العناية بجميع أنواع القضايا التي ترتقي بعقل الإنسان ووجدانه) فتأمّلوا ! ومَغاربياّ؛ نقف على النّداءات المُتكرّرة لرائد الفكر الإصلاح الجزائري الراحل/الحاضر محمد البشير الإبراهيمي التي حثّ فيها على ضرورة تشْرِيب قلوب أولاد الأمّة أنّه (ما غرّد بلبل بغير حنجرته) في دلالة على تبنّي الحرف والفكر الأصِيلين مَقرونين بالّلغة الأمّ كي يكون التغريد في عالم الكبار مسموعا ومعشوقا وذات أثَرٍ، ثم يضيف رحمه الله : (إنكم لا تكونون أقوياء في العلم إلا إذا انقطعتم له وأنفقتم عليه الوقت كلّه، إذ العلم لا يُعطي القياد إلا لمن مهَرَهُ السُّهاد، وصرف إليه أعنّةَ الاجتهاد)، فهَلْ لَّنَا إلى الوَفاء لهذَا النّداء ؟ وكلام الإبراهيمي جاء تذكيرا للجمع السّالم، مُهتَديا بالإشارات القرآنية المتكرّرة بخصوص لزوم الجماعة، والالتحام بالأمة {سارعوا/ اصبروا/ اعملوا/ قاتلوا/ اعلموا/ قولوا/ كونوا/ أجيبوا/ لا تُبطلوا/ لا تركنوا/ لا تكونوا/...إلخ} وبأحاديث شمس سماء النبوّة {يسّروا/ لا تباغضوا/ بشّروا/ اقتَدَيتم/ ابتُليتم ...إلخ} في ديننا نَرْوِي تحركّنا إلى ** أسْمَى الفِعال ونُنْقِذ الأنوارَا إن غُلُوُّ التّصوّر الفردي وشَطَط التّمَرْكُز على الذّات لا يعني بالضّرورة أنّ مُدْرَكات هذا الفرد قادرة على إبراز جوانب الخَلل ومَكَامِن الشّلَل في الأمّة، إلّا إذا سَاهم إلى جانب إخوانه في المِلّة والعقَيدة والهُوية واللّغة على كلمة سواء للخروج من عنق (زجاجة الارتداد المعرفي) إلى ساحات رحباء وظلال فيحاء لا تضيق بمُستَعمِرِيهَا (بالدلالة القرآنية لا الإمبريالية) ولا بزُوّراها . الأمْر الذي يَجعل الفرد يستشعر عُمْقَ وظيفته في تطوير ذاته وصقل مواهبه وخَلْعِ عباءة التخلّف ودُونِية التّفكير، ومِن ثَمّ يَنْصَهر إراديا في بوتقة (الوعي الجَمعي) مع حفاظه على فَرَادَته، وخُصوصياته، مقلّصا في الوقت ذاته من الخسائر التي قد تنداح بسبب تناقض الغايات والأهداف وتَشَتَّت الجُهُود في صُفُوف الأمّة، وبالذّات طليعتها المُثقفة من الشّباب. فالأفكار وكذا الأفعال التي تَصدر عن الأفراد ذوي الوعي الجَمْعِي تَنْسَجِمُ فيها العَاطفة الجيّاشة المُوازية لطُمُوح الفرد _ بتعبير فتح الله كولن _ وتطلّعه مع السّلوك الواعي المُنظّم تجاه الذّات أثناء المُلتقيات وبالنّدَوَات وفي المُخَيَّمات، ومع الآخر المُوالي والمُعادي على السّواء أثناء اقتحامنا لمَجَالِهِ، أو الصَّولان والجَوَلان في مواضيع ذات قاسم مُشْتَرَك بيننا وبينه. هذا؛ مع الاقتران بالحَيوية المُتدفّقة والإقدام المُتبصّر والمُتّزن في ميدان إنشاء حدائق الإبداع الفِكري وتَشييد أسوار الحِراسة العِرفانية ! وخير ما أختم به هذه السّطور؛ اعتراف من رجل خَبّرَ الرّجال والأحوال والألسُن والأقوال، في الاعتراف/النصيحة ما يُؤلم الضّمير اليَقظان، ويُبَصّر الطّريق نحو الإجادة والإتقان، يقول م.البشير الإبراهيمي رحمه الله : (.. الحَقَّ أقول؛ إنّ شبابنا كسول عن المطالعة، والمطالعة نصف العلم أو ثُلُثاه. فأوصِيكم يا شباب الخير بإدمان المطالعة والإنكباب، ولتَكُن مُطالَعَتُكم بانتظام؛ حِرْصا على الوقت أن يضيع في غير طائل ..) وبذات المنحى يناشدنا " فانون " قائلا في تضَرّع: (.. لأجل أنفسنا، ولأجل البشرية، لا بدّ من خلق " فكر جديد "، لا بدّ من صنع " جيل جديد "، علينا أن نسعى لنقيم " إنسانا جديدا "، الإنسان الذي تعلّم تجربة روما، وأدرك تجربة الهند، الإنسان الذي يكون الفرد منه بجناحين، ومجتمعه ببُعْدَين، فكيف ستكون صورة هذا الإنسان؟) هنا يقتحم علي شريعتي جدار السّؤال لِيَبْني منارة جواب خالد: (راهبٌ في الليل، فارس في النّهار، ودينه؛ دين الكتاب، والمِيزان، والحديد ! ) وإنه لكافٍ لنا ما في كتاب الله من أوامر وتوجيهات بهذا الشّأن، وكافٍ كذلك أن نعلم بأنّ من مَدْلُولات {إقرأ} الأولى : الهدف إلى إذابة الجُمُود بِفعل القراءة المُستمِرّة للكون والحياة والإنسان (الكوزْمُولوجيا) وهي قراءة شاملة متكاملة ومتفاعلة، لتُؤتي ثمَارها وفوائدها في فتْح الآفاقِ الكونية والعقلية، وبلوغ الأمْدَاء الرّوحية والفكرية . والحمد لله الذي بِعَونه هذه المقالةُ تَمَّت، وبالخير والنّفعِ عَمّت ..