تواترت مؤخرا في تصريحات وكتابات الأستاذ أحمد الريسوني، العضو المؤسس للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، دعوات إلى ضرورة تحرر واستقلالية المؤسسة الدينية في المغرب. ومن بين ما قاله: "... وعلماء المغرب وغير المغرب يتطلعون إلى الحرية والاستقلالية..."، داعيا إلى ما سماه ب "دمقرطة مؤسسات العلماء بالمغرب"، مضيفا بأنه "لا يعقل أن تعطى الديمقراطية وحرية الانتخاب لكل من هب ودب ولا تعطى للعلماء، ولا يعقل أن ننادي باستقلال القضاء واستقلال الإعلام واستقلال الفنانين...، ونستكثر ذلك على العلماء". [مقتطف من حوار مع هسبريس، 19 فبراير 2013]. هذه المواقف وغيرها تفيد بأن هناك في واقعنا الإسلامي علماء مستقلين وعلماء غير مستقلين، كما تستبطن أيضا القول بأن "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" مثلا هي مؤسسة مستقلة، وبأن العلماء المنضوين تحت لوائه مستقلون، وتستدعي القول أخيرا بأن الأستاذ الريسوني نفسه مستقل ومتحرر من القيود...! في هذا السياق تتناسل جملة من الأسئلة المحورية والمسكوت عنها، من قبيل: هل هناك فعلا في واقعنا الإسلامي المعيش عالم مستقل أو مؤسسة علمية-دينية مستقلة؟ وما هي المعايير التي من خلالها نحكم على هذا العالم أو ذاك بالاستقلالية أو بنقيضها؟ ومن يحدد هذه المعايير؟ هل هي مطلوبة لذاتها أم أنها سبيل لإدراك مقاصد معينة، وبأن الأساس هو أن تكون إجابات المؤسسة العلمية الدينية إجابات قادرة على تفسير الواقع والنهوض بأوضاع المسلمين، بغض النظر عن تموقعات العلماء؟ بداية لن نجد اختلافا كبيرا حول أهمية وضرورة "استقلالية مؤسسة العلماء"؛ ذلك أن قراءة الواقع قراءة دقيقة تتسم بقدر كبير من الصدقية والمصداقية تتطلب قدرا أكبر من التجرد من التأثيرات الثقافية والفكرية والسياسية؛ والتي قد يكون اتخاذها منطلقا للتفسير والفهم عائقا يحول دون التفسير الصحيح والفهم السليم، ولا تخفى أهمية فهم الواقع في سلامة الأحكام المستنبطة من الأدلة الشرعية؛ فكلما كان فهم وتفسير الواقع سليما كلما كانت هذه الأحكام أقرب إلى التعبير عن مراد الله تعالى في نازلة من النوازل. بمعنى آخر، إن أهمية استقلالية العلماء نابعة من كونها مدخلا ضروريا لضمان سلامة تدين الأفراد والمجتمعات بما أنها لا مناص منها لامتلاك ناصية الواقع ومن ثم سلامة استنباط الأحكام الشرعية. لكن المشكلة عندما يتم ربط استقلالية العلماء والمؤسسات العلمية بالسلطة السياسية التي بيدها زمام الحكم. رغم أنه يمكن أن نجد علماء ومؤسسات علمية تتحرك من داخل الأطر والنظم السياسية القائمة وتكون عطاءاتها الفكرية وقراءاتها للواقع الاجتماعي والثقافي سليمة وعميقة. ولا أقول بأن هذا هو حال العلماء والمؤسسات العلمية في المغرب وفي غيره…، ولا أقول بأن ميكانيزمات اشتغال العلماء بالمغرب وفي غيره سليمة ومناسبة لتحقيق تدين يراعي الأسيقة المختلفة ولا يعارض مطلقات ومنطلقات ومقاصد الإسلام. ما أريد التأكيد عليه هو أن التعريف المهيمن في الخطاب الإسلامي للاستقلالية نابعٌ من واقع تَحكم في نسجه ما عاشته الحركة الإسلامية في عمومها من تهميش في ظل أنظمة استبدادية لا تقبل بالرأي الآخر، وتُسخر بعض العلماء من أجل إضفاء الشرعية على مواقفها، وخدمة أجندتها الخاصة، وهي أجندة مرتبطة في الغالب بسياسات الدول الكبرى...؛ فكرّس هذا الوضع صورة سلبية عن العالم المرتبط بمؤسسات الدولة، بالشكل الذي استحال معه تجديد فهم الناس للإسلام... ومن هنا كان التركيز على نقد العلماء المشتغلين من داخل الأنظمة السياسية والتشكيك في قدرتهم على تحقيق مقاصد الإسلام في واقع الناس. كما سادت فكرة مفادها أن علماء ودعاة الحركة الإسلامية هم نماذج للاستقلالية التي وجب أن تتوفر في العلماء. فأصبح علماء الحركة الإسلامية مستقلين ابتداء! فساد اعتقاد بأن العالم الذي يستمد مرجعيته الفكرية من الحركة الإسلامية هو وحده من يتمتع بالاستقلالية والتحرر! ولذلك نرى أن ما سبق يفرض تغيير مداخل النقاش والفهم، وإعادة النظر في بعض الأفكار الرائجة بخصوص موضوعة الاستقلالية، من بينها: الأولى أن الاستقلالية هي الاستقلالية عن الأنظمة السياسية. وفكرة أن المشكلة هي في اشتغال العلماء من داخل الأنظمة السياسية. والثالثة: أن علماء الحركات الإسلامية يتمتعون بالاستقلالية. وفي المقابل نقترح النظر إلى الاستقلالية من زاوية مقاصدها؛ وبالتالي سينفتح تفكيرنا على مجموعة أخرى من "أشكال الاستقلالية" التي لا تحصرها فقط في العمل من داخل الأنظمة السياسية كمعيار وحيد لتعريف وتمثل هذه الاستقلالية. فكما أن خدمة العالم لاختيارات سياسية معينة تعيق تطوير الاجتهاد وخدمة الإسلام، فإن العالم الذي يتحرك في إطار أجندة سياسية وحركية معينة يعرقل أيضا تشكيل الوعي في صفوف المجتمع؛ فإذا كان مقصد القول بالاستقلالية هو التحرر من تأثيرات سياسية وفكرية وإيديولوجية حتى يتسنى للعالم القيام بدوره في المجتمع، فإن هذا ينطبق أيضا على علماء الحركة الإسلامية. لا أعتقد أن الحركة الإسلامية لو كانت في العقود الماضية في الحكم أنها ستتبنى نفس المفهوم للاستقلالية الذي تبنته وهي في المعارضة؛ وقد تجلى هذا الأمر في الفكر السياسي الإسلامي؛ أي في تفاعل الحركة الإسلامية بالواقع المحيط؛ وما مواقف الكثير من علماء الحركة الإسلامية ممّا سمي ب "الربيع العربي" عنّا ببعيدة، والتي كانت -هذه المواقف- تعبيرا عن ضرورات سياسية لأنظمة معينة أكثر مما هي تعبير عن القيم الكبرى للإسلام. وأخيرا، لا ندري، بعد أن وصل بعض الإسلاميين إلى الحكم في بعض الدول العربية، كيف سيكون وضعُ العالم (المؤسسة العلمية) المنضوي والمشتغل تحت مظلة الأنظمة السياسية الإسلامية، هل سيُوصفُ بالمستقل أم بنقيضه؟ أم سيعاد تعريف الاستقلالية ليتناسب والوضع الجديد؟! بكلمة، إن مسألة "استقلالية العلماء" لا ينبغي حصرها فقط في تلك الفئة من العلماء التي تشتغل من داخل مؤسسات الدولة، إنما وجب توسيع مفهوم الاستقلالية ليشمل حتى ذلك الصنف من العلماء الذين يشتغلون من خارج أطر الدولة، لكنهم يخضعون هم أيضا لتأثيرات سياسية وحركية وفكرية، ويكونون جزءً من سياسات وأجندة معينة، إقليمية أو دولية. وسواء تعلق الأمر بالفئة الأولى أو بالصنف الثاني فإن المشترك بينهما هو أن التأثيرات المختلفة التي يخضعون لها تَحولُ دون امتلاك رؤية عميقة وتقدير صحيح للواقع؛ يمكنهم من القيام على أحسن وجه بدورهم الذي حدده لهم النص الإسلامي التأسيسي والمتمثل في إلحاق (الرحمة بالعالمين) وهداية الناس (للتي هي أقوم). والله أعلم.