أوضح تقرير صادر عن مركز "بيو" للأبحاث أن المغرب، الذي احتضن عبر قرون واحدة من أكبر وأقدم الجاليات اليهودية في العالم العربي، يحتل اليوم المرتبة الرابعة عالميا كمصدر للهجرة اليهودية، بعدما غادره ما يقارب 200 ألف يهودي ليستقر أغلبهم في فلسطينالمحتلة. ويأتي هذا المعطى في إطار تقرير شامل حول التركيبة الدينية للمهاجرين الدوليين، يرصد خريطة تنقل الأديان عبر العالم. وأكد المركز الأمريكي أن الهجرة اليهودية من المغرب تمثل "أحد أكثر المسارات وضوحا في الهجرة الدينية العالمية" خلال القرن العشرين، وأنها لا تزال تحتفظ بمكانتها الإحصائية ضمن أبرز عشرة مسارات هجرة يهودية حتى سنة 2020. فبينما تغيرت وجهات أخرى وتراجعت أعدادها، كما حدث في روسياوأوكرانيا، ظل المسار المغربي-الإسرائيلي مسجلا كثاني أكبر مسار على الإطلاق.
ويضع التقرير الأمريكي المغرب ضمن أهم بؤر الهجرة اليهودية العالمية إلى جانب دول كبرى مثل روسيا التي غادرها نحو 240 ألف مهاجر، وأوكرانيا التي خرج منها العدد نفسه، إضافة إلى إسرائيل التي انتقل 270 ألف شخص ممن ولدوا فيها للاستقرار لاحقا في بلدان أخرى. وقد شهدت الهجرات اليهودية عبر العالم ارتباطا وثيقا بالتحولات السياسية الكبرى، من انهيار الاتحاد السوفياتي إلى النزاعات المستمرة في الشرق الأوسط، مرورا بتزايد موجات الهجرة من فرنسا ودول أوروبا الغربية خلال العقود الأخيرة. ويضع تقرير مركز "بيو" للأبحاث هذه التحركات في سياق دولي وإقليمي متغير يعكس أثر الأحداث الكبرى على أنماط الاستقرار والهجرة. أما في الحالة المغربية، فيؤكد التقرير أن موجة الهجرة الكبرى انطلقت منذ منتصف القرن العشرين، خاصة بعد تأسيس دولة إسرائيل سنة 1948، ما جعل أعداد اليهود المقيمين بالمغرب تنخفض من مئات الآلاف إلى بضعة آلاف فقط في الوقت الراهن. كما أشار التقرير إلى أن المسار الأكثر شيوعا للهجرة اليهودية تاريخيا بعد 1948 كان طريق "المغرب – إسرائيل"، حيث انتقل حوالي 160 ألف يهودي مغربي ليستقروا في إسرائيل. ويجعل ذلك من هذا الطريق ثاني أكثر مسار للهجرة اليهودية على مستوى العالم بعد "أوكرانيا – إسرائيل" الذي بلغ 170 ألف مهاجر. ويليهما مسار "روسيا – إسرائيل" ب150 ألف مهاجر. وأوضح مركز "بيو" أن المغرب لم يكن فقط بلدا للمغادرة، بل أيضا رمزا لمرحلة تاريخية عاش فيها اليهود في العالم العربي اندماجا نسبيا ضمن النسيج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي. ومع ذلك، فإن دوافع الهجرة كانت متشابكة بين ضغوط سياسية إقليمية، وإغراءات اقتصادية واجتماعية قدمتها إسرائيل، خاصة عبر "قانون العودة" الذي منح اليهود من أي بلد الحق في "العلية" Aliyah أو الهجرة إليها مع الحصول على الجنسية مباشرة. ومن هنا، بات المغرب يمثل في السردية الإسرائيلية واحدا من الأعمدة الرئيسة للهجرة اليهودية التي عززت التوازن الديمغرافي في الدولة العبرية منذ تأسيسها. وكشف التقرير أن العدد الإجمالي لليهود المهاجرين في العالم بلغ ثلاثة ملايين شخص سنة 2020، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 28 بالمائة مقارنة بعام 1990 حين كان العدد في حدود 2.3 مليون. لكن اللافت أن اليهود سجلوا أقل معدل نمو مقارنة بباقي المجموعات الدينية العالمية؛ إذ ارتفعت الهجرة بين الهندوس بنسبة 48 بالمائة، وبين غير المتدينين بنسبة 67 بالمائة، بينما بقيت الهجرة اليهودية مستقرة نسبيا، متمحورة بين أوروبا، الولاياتالمتحدة، وإسرائيل. وأكد أن إسرائيل هي الوجهة الأولى عالميا لليهود المهاجرين، حيث يقيم فيها نحو 1.5 مليون يهودي من مواليد بلدان أخرى، أي ما يعادل أكثر من نصف إجمالي المهاجرين اليهود حول العالم. ويأتي المغرب في مقدمة البلدان المصدّرة إلى إسرائيل بعد جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. ومع ذلك، فإن حالة اليهود المغاربة تختلف عن غيرهم؛ إذ أن معظم المهاجرين القادمين من روسياوأوكرانيا لا يُسجلون وفق المعايير الدينية الإسرائيلية كيهود مئة بالمئة، بل يُعتبر قسم منهم من أبناء أو أحفاد عائلات يهودية اندمجت مع غيرها. بينما بالنسبة للمغاربة، فإن معظم المهاجرين كانوا مسجلين رسميا كيهود بحسب التعريف الديني الإسرائيلي، ما جعلهم كتلة "متجانسة" أكثر في الإحصاءات السكانية، وفقا للتقرير. أما الوجهة الثانية لليهود المهاجرين فهي الولاياتالمتحدة، التي تستضيف حوالي 400 ألف مهاجر يهودي، بينهم نحو 50 ألفا من روسيا و50 ألفا من كندا، إضافة إلى نسبة معتبرة من مواليد إسرائيل أنفسهم (110 آلاف). وتأتي المملكة المتحدة في المرتبة الثالثة ب120 ألفا، تليها أسترالياوروسيا. ويشير التقرير أيضا إلى أن فرنسا شهدت خلال العقود الأخيرة ارتفاعا في أعداد المهاجرين اليهود المغادرين منها إلى إسرائيل، إذ انتقل العدد من 40 ألفا سنة 1990 إلى 70 ألفا سنة 2020، ما يعكس سياقات متصلة بتصاعد معاداة السامية والأزمات الأمنية في أوروبا. بالمقابل، بقيت الهجرة المغربية "حدثا ماضويا" في الغالب، إذ تركزت موجاتها الكبرى في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. على المستوى الإقليمي، يوضح التقرير أن نحو نصف المهاجرين اليهود في العالم يقيمون في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أي أساسا في إسرائيل، بينما توزعت النسبة الأخرى بين أوروبا (21 بالمائة) وأمريكا الشمالية (16 بالمائة)، مع نسب أقل في أميركا اللاتينية ومنطقة آسيا-المحيط الهادئ وبعد أن كانت الجاليات اليهودية حاضرة بقوة في مدن عربية كالقاهرة وبغداد ودمشق وفاس، تقلص وجودها بشكل شبه كامل بفعل هذه الهجرات الجماعية التي عززتها الظروف السياسية المتقلبة، بحسب ما ورد في التقرير.