كان الحسن الثاني يقول عن ابنه: "هو،هو. وأنا، أنا" وهذا ما حصل. فمنذ أن تولى محمد السادس العرش قبل تسع سنوات، يطبق أسلوبا جديدا على الملكية المغربية.. أسلوبا أكثر تحررا. "" قال الحسن الثاني مرة لابنه: "عرش العلويين على صهوات جيادهم". هذه الكلمات لم ينسها محمد السادس، الذي يبلغ اليوم 45 عاما، وسيحتفل في الثلاثين من يوليوز المقبل بمرور تسع سنوات على حكمه. غير أن الملك الشاب استبدل الحصان العربي الأصيل الذي يفخر به أجداده بسيارة كبيرة من نوع برلين، بسقفها المنفتح، يجول بها دونما كلل في أرجاء المملكة، ليدشن مستشفى هنا، ومحطة قطار أو ملجأ أيتام هناك. وكما يذكر مسؤول سام في الدولة، له دراية كافية بالرجلين، "كان الحسن الثاني بدوره كثير التجوال في بداية حكمه. الفرق هو انه كان يسافر لإخضاع رعاياه، والسيطرة على الأقاليم القروية المتمردة... أما ابنه فيقوم بذلك بشكل أوضح على شاكلة "كبير البنائين" للتأكد من سير الأوراش التي دشنها". وريث سلالة ملكية مثلما حدث يوم 12 ماي عندما زار الملك سد يعقوب المنصور بجهة مراكش. خرج الملك من سيارته، بلا حرس شخصي، ليسلم على مئات المتجمهرين في ابتهاج أثناء مروره. كان يرتدي بدلة داكنة، ونظارات سوداء، وعلى وجهه ابتسامة عريضة.. هنا تنتهي المقارنة بين الأب وابنه. فمحمد السادس ليس قائد دولة عاديا، إنما هو ملك يتوفر على حق إلهي يتجاوز المفهوم العادي للزمان، إنه سلطان وأمير المؤمنين، ممثل ووريث سلالة ملكية تحكم المغرب منذ أربعة قرون. في عام 2005، خلال زيارة للملك الشاب إلى اسبانيا، سأله صحافي من جريدة "إل باييس" الإسبانية: "ما الذي تغير في عهدك مقارنة بعهد والدك؟" فرد محمد السادس قائلا: "ربما الأسلوب. فوالدي غالبا ما كان يقول عني: هو هو، وأنا أنا. فلكل واحد منا طريقته الخاصة في العمل. لكن المهم، هو الهدف. أنا أعرف أين أريد أن أذهب. ووالدي رحمه الله كان يعلم ذلك أيضا." عاشق ل "جوني هاليداي" أكيد أن لمحمد السادس أسلوبه الخاص. غير أنه ربما صار أكثر رزانة، بسبب موقعه كملك. لكنه حافظ على أسلوبه في العيش الذي كان يتبناه حينما كان وليا للعهد. فهو لا يعيش في القصر الملكي دار المخزن بالرباط، وإنما في فيلا تجمعه وزوجته للا سلمى، 30 عاما، وطفليه مولاي الحسن، 5 سنوات، وللا خديجة، عام ونصف. ويعد محمد السادس أول ملك علوي يظهر زوجته علانية أمام رعاياه. وكلما سنحت له فرصة التفرغ من التزاماته الملكية، تجده يتجول على سواحل أكادير أو في مسكنه بالفنيدق في الشمال، حيث يزاول رياضات البحر مثل لعبة التزحلق المائي (الدجيت سكي)، حتى سماه منتقدوه "ماجيتسكي" (والكلمة توحي بمعنى جلالة الملك (ماجيستي بالفرنسية وكلمة الجيت سكي). كما أن محمد السادس لا يتردد في الظهور مع المغني "جوني هاليداي" الذي يعشق غناءه، و يعترف ب "حبه للموسيقى التجارية"، ويحب قيادة السيارات الرياضية بأقصى سرعة. في هذا السياق، يقول أحد رجال الأعمال المغاربة العائدين من الخارج: " لم يعد أحد يفاجأ عندما يمر بسيارته بسقفها المفتوح على الكورنيش كلما حل بالدارالبيضاء". وعلى غرار الكثير من المغاربة الأثرياء الشباب، يشعر هذا المغربي بانسجامه مع الملك الشاب. ويسترسل قائلا: "من الأجدر أن لا يمرض المرء هنا، وأن لا تكون لديه مشاكل مع العدالة، وأن يكسب المال حتى يتمكن من إرسال أبنائه للدراسة في الخارج. لكن، رغم كل شيء، فالأمور تتغير. ربما ليس بالسرعة الكافية، لكن الأمر يتطلب وقتا." لقد بعث محمد السادس نفسا جديدا في البلاد، نفسا أكثر شبابا وتحضرا وتطلعا، وهذا واضح في الطرقات الجديدة والأبراج والفيلات التي أخذت تنتشر في كل مكان. والذين كانوا يشكون في القدرات القيادية "للرجل الصغير" ( كما كان يسميه الفرنسيون عندما شاهدوه في مراسيم دفن جورج بومبيدو في نوتردام، وهو واقف قرب ميشيل جوبير) لابد أنهم سيذعنون للأمر اليوم: إنه هو الذي يحكم. ربما أكثر من اللازم، كما يشاع في الأوساط السياسية. ومهما كان، يظل محمد السادس لغزا محيرا بالنسبة للكثير من رعاياه، لاسيما أنه لم يجر أي لقاء مع الصحافة المغربية طيلة السنوات التسع الماضية. لكنه، فند صورة الطفل الضعيف، الذي حطمته التربية السلطوية، التي كان يهرب منها خلال رحلاته إلى باريس أو لندن أو نيويورك، برفقة أخيه الأصغر مولاي رشيد وأخته الكبرى للا مريم، التي يرتبط بها ارتباطا وثيقا. متحرر سياسيا يرى أحد مستشاري الملك أن الحسن الثاني مهد الأرض للتغيير، وهو ما ساعد ابنه على فرض إيقاعه وهويته الخاصة. لأنه حينما أدرك الحسن الثاني أنه مريض، وكان مجبرا على تخفيف قبضته للحفاظ على العرش، هيأ الطريق للانتقال الديمقراطي في نهاية عهده بتعيينه للمعارض الاشتراكي السابق عبد الرحمان اليوسفي في منصب الوزير الأول. ومع تقلد محمد السادس الحكم، أبقاه في منصبه، وذهب أبعد من ذلك حين أقال في نونبر 1999 إدريس البصري، وزير الداخلية الذي كان يجسد السنوات السوداء في النظام السابق. كما سمح للمعارض الإسلامي الشيخ ياسين بحرية التعبير عن أفكاره. وقد تميزت السنوات الأولى لحكم محمد السادس بإجراءات تحمل دلالات رمزية كبيرة نقلت المغرب إلى العهد الجديد. وأهم هذه الإجراءات: الاعتراف بالقضية الأمازيغية من خلال البيان الأمازيغي في عام 2000، وتبني مدونة الأسرة الحديثة لصالح المرأة في 2004، وإنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة المكلفة بالبحث في حالات الاختفاء والاعتقالات التي جرت في عهد الحسن الثاني. في هذا الصدد، يقول أحد الوزراء القدامى : "إنها طريقة للتخلص من الوالد، بالرغم من أننا نشعر بأن ما حصل داخل المجتمع المدني من تقدم لم يراوح مكانه منذ ذلك الحين." إن المغرب اليوم يسير في مسار الديمقراطية، بعد خوضه تجربتين من الانتخابات التشريعية الحرة في 2002 و 2007، وإن لم يصل بعد إلى مستوى الملكية البرلمانية. ويرى أحد المقربين من القصر أن "الذين كانوا يظنون أن محمد السادس سيكون ملكا على طريقة خوان كارلوس الإسباني، لم يفهموا شيئا عن المغرب ولا عن ملكه". ويرد محمد السادس على هذا الاعتقاد بشيء من الغضب في مقابلة نادرة مع جريدة "لوفيغارو" الفرنسية في 2001: "أنا أحترم خوان كارلوس وأحبه كثيرا، لكن الملكية الاسبانية لا علاقة لها بالملكية المغربية. فالمغاربة يريدون ملكية قوية وديمقراطية وتنفيذية." محب للاقتصاد وهكذا، فإن الدستور المغربي – الذي عدل في عام 1996 بإنشائه برلمانا يتألف من غرفتين، واحدة للمستشارين والثانية منتخبة – يمنح زعيمه سلطة مطلقة في الشؤون الخارجية والدفاع والأمن الوطني والشؤون الدينية و العدالة. والملك هو الذي يعين بظهير شريف الوزير الأول، الذي يوجد مكتبه ومكتب غالبية موظفي السلطة الآخرين قبالة القصر الملكي. وبالرغم من أن محمد السادس لا يبدو حاضرا جدا على الساحة الدولية كما كان والده، بحيث يرى بعض منتقديه أنه يفتقر للرؤية، إلا أنه في المقابل منغمس أكثر في القضايا الاقتصادية للمملكة. إنه لا يعد قائد دولة فحسب، بل هو أيضا المستثمر الأول والمصرفي الأول للبلاد من خلال مجموعة "أونا"، التي تمتلك 60 في المائة من قيم البورصة في الدارالبيضاء. وهو يتابع عن كثب خوصصة اتصالات المغرب، الصرافة الآلية للمغرب، التي صارت شركة فيفيندي الفرنسية تتحكم فيها. كما يسهر على رصد التقدم الذي يحرزه مشروع خطة "أزور" ومحطة الأحواض الجديدة التي يتوقع أن تستوعب أزيد من 10 ملايين سائح في عام 2010. وهو الذي يسعى إلى تحقيق حلمه بإنشاء ميناء جديد يطل على البحر الأبيض المتوسط، بتشييده لميناء طنجة الجديد الذي تتكلف به شركة "بويغ" الفرنسية. "إنه هو الذي يعطي دفعة التقدم، كما يؤكد جون روني فورتو، رئيس مجلس المراقبة في فيفيندي. يكفي أن تلتقي به لتشعر بقوة بنيته. رجل عظيم وقوي، فيه تتجسد صورة السلطة. تشعر معه أنه لا يضيع الوقت، وكل حديثه عن التنمية الاقتصادية ومستقبل المملكة." محاط برفاق الدراسة أكيد أن محمد السادس هو من يحكم البلاد، لكنه من الصعب تحديد مع من يحكم. "السلطة الحالية ضبابية ومتداخلة المستويات والتسويات في اتجاه القمة"، كما يتأسف أحد أعضاء منظمة "ترانسبارنسي" المغرب. ولعل ذلك يرجع إلى استغناء محمد السادس عند توليه العرش عن كل معاوني والده القدامى، باستثناء أندري أزولاي، المستشار السابق للحسن الثاني، وعبد العزيز مزيان بلفقيه، الذي كان مكلفا بمهمة في عهد الوالد، وهو فاعل اقتصادي في عهد الابن. وقد استبدلهم بأصدقاء الدراسة القدامى في المدرسة الملكية، حيث يخضع الأمراء لتربية شبه إقطاعية برفقة أفضل الطلبة المتفوقين في البلاد. "إنهم مجموعة من الرفاق الذين يدينون بكل شيء للملك. فقد تربوا معه، وجلهم درسوا معه في الجامعة، وبدؤوا حياتهم المهنية في أواخر عهد الحسن الثاني، وغالبا ما اشتغلوا في الدولة، وصاروا اليوم في قمة السلطة"، كما يوضح علي عمار، رئيس تحرير أسبوعية "جورنال إيبدومادير". وقد تميز من بين هؤلاء الرفاق القدامى للملك اثنان، هما: فؤاد عالي الهمة ومحمد منير الماجدي. وكان الأول وزيرا منتدبا في الداخلية سابقا، وأسندت إليه اليوم المهام العليا في الشؤون السياسية، وهو يحظى من دون شك بأكبر قدر من السلطة، ويهتم بالملفات شديدة الحساسية، لاسيما المسائل الأمنية وتلك المتعلقة بتنظيم الحقل السياسي. ويقال عنه إنه "عين القصر" و "أذن الملك". هذا الرجل واسع النفوذ تمكن من نسج شبكته التي وطد من خلالها قوة رجال القصر الجدد من جيل الملك الشاب، واستطاع رصد الرجال المناسبين، في القطاع العام، كما في القطاع الخاص، لتحقيق التناغم مع سياسة تحديث البلاد. أما الرجل الثاني الذي يقف في مواجهة عالي الهمة، فهو محمد منير الماجدي، الذي يسمى ب"إم تروا" (أي الميمات الثلاثة التي يبتدأ بها اسمه). وهو يدير الأمانة الخاصة للملك، و"سيجر" الشركة العملاقة التي تمثل ثروة العائلة الملكية التي تتحكم في مجموعة "أونا". ويبدو أن كل ما يتعلق بالمجال الاقتصادي يدخل في اختصاصه. وفي هذا السياق، يقول مدير إحدى الشركات الذي لا تخفى عليه دهاليز القصر: "المشكل هو أن المنافسة بين هذين الرجلين القويين تطال مجالس الإدارة والوزارات، وهذا ما يخلط الأوراق." وهناك مجال آخر غير واضح لا يحسم فيه محمد السادس، وهو مجال حرية التعبير، ويكفي إلقاء نظرة على عناوين الصحف التي تكشف الصراعات الداخلية للقصر ليعرف المرء أن زمن الحسن الثاني قد ولى إلى الأبد. يبقى المشكل هو "أنه لم يعد في وسعنا معرفة الخطوط التي لا ينبغي تخطيها"، كما يعتقد أحمد بنشمسي، مدير مجلة "تيل كيل" ، التي تتابع أمام القضاء لكونها اقترحت على الملك اتخاذ مساعد له لقراءة خطبه بشكل أكثر استرخاء. منشغل بتطلعات الشعب في 30 يوليوز، سيكون الملك مطالبا بإيجاد الكلمات المناسبة لطمأنة السكان، الذين أفقرهم الجفاف وأنهكهم ارتفاع أسعار المواد الغذائية. من المؤكد أن الأمر سيكون صعبا للغاية، لاسيما في مثل هذا اليوم التقليدي لإلقاء خطبة العرش. لأن الملك الذي أراد أن يكون "ملك الفقراء" في بداية حكمه لم يثبت بعد جدارته في هذا المجال: فأزيد من 4 ملايين من رعاياه يعيشون على أقل من عشرين درهما في اليوم، وحوالي 48 في المائة من السكان ما زالوا أميين. إن الملك الثالث والعشرين من السلالة العلوية يدرك جيدا هشاشة هذا البلد. وهذا هو سبب وجوده الدائم في شوارع المملكة، لمراقبة النواب. وقد قال محمد السادس بكل ثقة قبل سبع سنوات إن إيقاعه هو إيقاع المغرب. غير أن الوقت يداهمه بسرعة الآن. ترجمة: سعيد بيسوفة –الجريدة الأولى * عن مجلة Challenges الفرنسية