»غَادرْ طَوْعاً. احزم أمتعتك واحمل أشلاءك وانصرف. غادر مكتبك المتآكل وملفاتك المهترئة. تخلص من مشانق العنق والبدل الرمادية، وحلاقة الذقن المزمنة. غير أدوارك السخيفة، وانحناءك اليومي أمام رؤسائك، وتطاووسك أمام مرؤسيك.. انطلق بعيدا.. خذ مكافأتك السخية.. اقتحم عالم المال والأعمال. استثمر، استرجع عمرا ضاع في دواليب الإدارة. غادرْ .. غادرْ «. تلقف الموظفون، حاملو أرقام التأجير، هذا الخطاب الغريب بلهفة واندهاش واحتراس. فككوه، حللوه. بحثوا في ثنايا سطوره عن المكائد القانونية والمكر البيروقراطي. نقبوا عن اليقين وبواعث الاطمئنان. اختلفت المواقع والاستجابات. منهم من صدّق واندفع منساقا يحسب حجم المكافأة، ويخطط للمغادرة، ويضع سلما للمشاريع والأولويات. منهم من استولت عليه الحيرة والتردد، وانطلق يتساءل عن المستقبل المتروك إلى صندوق للتقاعد، مهدد بفقدان التوازن. منهم من شك في خلفيات هذا الكرم الغريب، من حكومة مهووسة بالتوازنات الكبرى، فأحجم عن مغامرة المغادرة. ومنهم من انخرط في تنشيط النقاش الدائر، وإن كان غير معنٍ بشكل مباشر، أو بعيدا عن مطابخ الوظيفة العمومية. لم يتردد أحمد - المُدرِس والفنان التشكيلي المتمرد على الإدارة وأدبياتها. لم يتعب نفسه بالتساؤلات ومحاكمة النوايا، فقرر بسرعة وإصرار أن يغادر المؤسسة، أن يهجر المدينة المختنقة ومتاهاتها الكئيبة. أن يعود إلى جذوره الأولى، إلى أعماق الجنوب. أن يستعيد عفويته وطلاقته وسحره البدوي. يستسلم أحمد لتداعياته، يبني مرسما، يبني مسرحا، يشيد فضاء للعروض.. يسرح في الحلم بعيدا. يطمئن إلي سلامة اختياره، ويستسلم رفاقه أمام نهر الأحلام الدافق. يتدخل رفيق عارف بوضعية أحمد المالية، وديونه الثقيلة:» أفق أيها الرفيق. غادر إن شئت، لكن لا تنس الواقع المرير. لا تتناسَ الأبناك ومؤسسات القروض، التي تنشب أظافرها في عنقك، وتمتص جل راتبك. خذ مكافأتك، وسدد ديونك. اغرق في كأسك، وارسم في رأسك، وإياك والعجلة« . صًدم الرفاق. أبوا أن يصدقوا ما سمعوه. رفضوا الاستسلام إلى عنف وقسوة الحقيقة.. أعرضوا عن الكلام المزعج، وتمادوا في بناء المراسم والمسارح، والتيه في رحاب الخيال الفسيحة. غادر المغامرون دهاليز الإدارة العمومية، ولبث المترددون والحائرون والمتشككون في مواقعهم مترقبين، يحسبون الأيام ويطوون السنوات. استمر من تبقى من الرفاق في جلساتهم اليومية، في الحانة المعتادة، ينتشلون أجسادهم المتهالكة من متاهة النسيان، ويسرقون متعة عابرة، باهظة التكلفة. يتذكرون وينسون. وكلما انتشوا استعادوا ذكرى المغادرة الطوعية، ساخرين من سذاجة المغادرين تارة، ومنبهرين بشجاعتهم أو تهورهم تارة. يرددون حكاياتهم، يستعرضون مشاريعهم ومخططاتهم ويضحكون، بمرارة، لكنهم يضحكون. »أتذكرون حكاية أحمد وإصراره العنيد؟ - قال أحدهم شامتا - لقد أضاع المكافأة دون أن تبصرها عيناه أو تلمسها أنامله. التهمتها التماسيح االبنكية، والديون الشخصية المتراكمة. لم يبق أمامه إلا العادات القديمة، والانغماس في ديون جيدة. أضاع الرسم والمرسم والحلم الجميل، وعاد ليغرق في كأسه المحطمة. ماذا لو تريث قليلا..« . صمت الجميع متظاهرين بالاهتمام. بدد الصمتَ صوتٌ أقرب إلى الحشرجة: » ماذا كان سيحدث؟ لا شيء إطلاقا. لو فعل، لكان الآن قابعا إلى جوارنا يجتر الأيام، ويعدد سنوات الانتظار الثقيلة. هل نسيتم عزمه وحماسه وبريق عيونه وهو يخطط ويحلم؟. لم تسلبه الإدارة روحه الفنية. كان – على الأقل - يملك القدرة على الحلم، وكان حلمه جميلا، أليس كذلك؟. ومهما تكن خيبته مريرة، فإنها لم تكن بنفس حجم وهَوْل خيبة أصحاب الحلم الكبير«.. قهقه الجميع مرددين:» من؟ الحكومة؟ ها ها ها «. يستمر، في نبرة وثوقية: » ومن غيرها يجرؤ على الأحلام الكبيرة؟ لقد سعت إلى تحديث الإدارة، إلى التخلص من ثقل الكتلة الأجرية، إلى التفرغ للاستثمار والمشاريع المهيكلة. هان عليها أن تُفرغ سيولتها في صرف المكافآت، أن تصرف أرصدة بشرية في طيش وتهور، انخداعا بطلاسم الأرقام وبلاغة التكنوقراط. وكان طبيعيا ألا يدوم الحلم طويلا لتنجلي الخديعة، وتُفيق الحكومة المسكينة على كوابيس الفراغ المزعجة: فراغ الميزانية، ضياع الكفاءات، عجز الصناديق، جسامة الكتلة الأجرية، طوابير من الخريجين المعطلين«. علق الجميع في إيقاع متناغم: » مسكينة.. مسكينة. أمر مؤلم«. رد الخبير بماكينة الأحلام الحكومية: » نحن الأجدر بالشفقة. أما الحكومة فقد عادت إلى الأحلام من جديد. لقد زُيِّن لها أن تُمدد سنوات الخدمة إلى ما بعد الستين، وأن تمنينا بمكافآت الاستمرار «. صعق الرفاق. طارت النشوة من رؤوسهم. تمنوا لو فعلوا ما فعله أحمد.