أكد عالم المقاصد المغربي الدكتور أحمد الريسوني بأن الأمة هي الأصل، وليس الدولة، على جميع الأصعدة سواء من حيث الخطاب الشرعي أو الصلاحيات والمسؤوليات أو الأولوية والتقديم، مبرزا بأن العكس هو الذي حصل عندما تضخمت أدوار الدولة حتى أضحت هي الأصل، الشيء الذي كرس الفردانية والأنانية في المجتمع الإسلامي. واعتبر الريسوني، في مقالة مطولة تنشرها هسبريس، بأن "الوضع السوي يشبه هرما بقاعدة تمثل الأمة، ورأس الهرم يمثل الدولة"، مشيرا إلى أن الواقع المعيش منذ فترة انقلب رأسا على عقب، لتصبح القاعدة العريضة هي الدولة، والزاوية الضيقة هي الأمة. وفي ما يلي نص المقالة للدكتور أحمد الريسوني: الأمة والدولة بين الوضع السوي والوضع المقلوب تركز الكتابات في السياسة الشرعية قديماً وحديثاً، والدراساتُ السياسية الدستورية اليوم على الدولة ومؤسّساتها، ووظائفها وصلاحياتها، وقد أبرزت - بما فيه الكفايةُ وأكثر- مدى أهميّة الدولة وضرورتها وأنظمتها.ولكنها - بحكم كونها في الغالب تعكس الواقع المَعيش- تهمل دور الأمة وموقعها ومكانتها، وصلاحياتِها ووظائفَها، مما يعزز الواقع المَعيش أكثر فأكثر، وأعني به تضخيم دور الدولة وطغيانه على حساب مكانة الأمة والمجتمع. وأطروحة هذه المقالة - القديمة الجديدة - هي أن "الأمة هي الأصل" وليس الدولة، سواء من حيث توجه الخطاب الشرعي ابتداءً، أو من حيث العموم، أو من حيث الصلاحيات والمسؤوليات، أو من حيث الأولوية والتقديم. وفي هذا كلّه تأتي الدولة والحكام، والفئات الخاصة والأفراد، يأتون تبعاً وضمناً. وقبل أن أدخل في بعض التفاصيل والأمثلة والأدلة لهذه القضية، أضيف أن هذه المعاني الكبيرة والأساسية في النظام الإسلامي وفي التصوّر الإسلامي لمكانة الأمة والدولة، وأولوية الأولى على الثانية وفرعية الثانية وتبعيّتها للأولى، وكذلك تبعيّة الخطاب الفردي للخطاب الجماعي، هذه المعاني قد تعرضت للضمور والاختلال، بل إلى الانقلاب والانعكاس، وبلغ ذلك ذروته مع نموذج الدولة الحديثة، المهيمنة على كل شيء. وهو ما أفقد الأمة مكانتها وقدرتها على الريادة والعطاء والإبداع، وحوّلها إلى مجرّد ركام ضخم من الأفراد المتفرجين المستهلِكين والمستهلَكين؛ بينما تضخمت الدولة حتى صارت هي الأصل وحتى صارت هي"الكل في الكل"؛ وفي ظلّ هذا الوضع المقلوب نمت الأحاسيس والهموم الفردية؛ ونما ورسخ السلوك الفرداني الأناني لدى عموم المسلمين. إنّ الوضع الطبيعي والسوي لمكانة كل من الأمة والدولة يمكن تشبيهه بهرم قاعدته وعامة جسمه هو الأمة؛ والزاوية العلوية الصغيرة التي تمثل رأس الهرم هي الدولة. وأما الوضع المختل المقلوب الذي أصبحنا نعيش عليه منذ مدة وإلى الآن، فهو الهرم المقلوب، زاويته الضيقة إلى الأسفل وهي الأمة، وقاعدته المديدة العريضة هي الأعلى، وهي الدولة. فالأمة في الوضع الأول هي الأساس المتين والجسم الممتلىء والحيز الواسع طولاً وعرضاً وعمقاً ووزنا، والدولة فيها بمثابة برج صغير للمراقبة والتفقد والتوجيه والتنسيق، وتحتلّ حيزاً ضيقاً، لكنّه مرتفع ومشرف. (انظر الشكل 1). وفي الوضع المقلوب نجد للأمة حيزاً ضيقاً وزاوية حادة في أسفل الهرم المقلوب، وفوق هذا الحيز الضيّق تنتصب الدولة متضخّمة ثقيلة ضاغطة. (انظر الشكل 2). الخطاب الشرعي بين الأمة والأئمة هناك عدد كثير من النصوص التكليفية الشرعية تفهم وتؤخذ عادةً على أنها خطاب خاص ومباشر لأولي الأمر من ذوي السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، أي أنها من شؤون الدولة واختصاصاتها، مثل: النصوص المتعلّقة بإقامة العدل والقسط، والجهاد والقتال، وتنفيذ الحدود، والحكم بما أنزل الله، وتنظيم شؤون الزكاة، والأسرة والمجتمع. وأنا لا أنكر أن للدولة نوعَ اختصاص ومزيدَ مسؤولية في هذه الأمور وأمثالها، ولكني أقول: إن الخطاب فيها هو أساساً وابتداءً للأمة ولجماعة المسلمين. وعن هذا الأصل، أو عن هذه الأصالة يتفرّع الاختصاص بقدر ما تقتضيه المصلحة وتمليه الضرورة، وبقدر ما تراه الجماعة على سبيل التنظيم والتوكيل والتفويض، بحسب الصيغ والتفاصيل المعتمَدة أو المتعارف عليها. والدليل على ذلك هو أن الخطاب الشرعي في هذه الأمور العامة، وفي معظم التكاليف الشرعية هو خطاب لجماعة المسلمين، وهو نداء لجماعة المسلمين، فالخطاب الشرعي يتعامل أولا مع الأمة لا مع الأئمة، مع الأمة لا مع الدولة؛ أما الأئمة ومَن في حكمهم؛ فهذا إنما هو شأن من شؤون الأمة فهم مخاطَبون من خلالها ومكلَّفون من قِبَلها. ولْنتأمّلْ هذه النماذج لنرى من المخاطَب بها ومن المعني بها: -﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13]. -﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ [آل عمران: 103]. -﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [التوبة: 71]. -﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾ [النور: 32]. -﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾ [الممتحنة: 10]. -﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا﴾ [النساء: 35]. -﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: 38]. -﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: 2]. -﴿وَالذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: 4]. -﴿وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا. وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ [النساء: 15-16]. -﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9]. -﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾ [النساء: 5]. ففي هذه النصوص كلها - وفي كثير مثلها - لا يوجد مخاطَب اسمه الدولة، أو الخليفة أو الإمام، أو الحكومة، أو الإمارة، أو أهل الحل والعقد... بل الخطاب للجماعة، للأمة، لعموم المسلمين. ومثل هذا المغزى واضح في كل خطاب جاء بصيغة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾. وحتى أمهات العبادات التي هي أساساً تعبير عن العبودية والتعبّد للرب سبحانه، وهي تعتمد على النية الفردية الباطنة، وتنبعث من ضمير الفرد وتتجّه إليه، حتى هذه العبادات نجد فيها أبعاداً جماعية عدّة. فالأمر بها يأتي جماعياً، وقد يأتي فردياً والقيامُ بها جماعي في أصله وأساسه، وإقامتها بما تتطلبه من إعداد ووسائل وشروط وتعاون وتناصح، تتوقف على الجماعة والعمل الجماعي. فالأمر بالصلاة والزكاة مثلاً يأتي في الغالب خطاباً لجماعة المؤمنين، ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]. وأداء الصلاة هو العمل الجماعي الذي ينخرط فيه أكبر عدد من المسلمين نساءً ورجالاً، وهو أكثر عمل جماعي ينخرط فيه المسلم في حياته، وفي كل صلاة يدعو المصلّي بقوله: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين". والزكاة هي علاقة أخوية إحسانية بين ذوي الفضل وذوي الحاجة من المسلمين، ولذلك فهي بنص الحديث النبوي: «تُؤخذ من أغنيائهم وتُرَدُّ على فقرائهم»(1) . والصيام من أكثر العبادات خفاءً وخصوصية، ومع ذلك فإن جعْلَه موحداً في شهره وبدايته ونهايته قد رتّب عليه من الأبعاد الجماعية ما هو مشاهَد ومَعيش في المجتمعات والتجمعات الإسلامية كافة؛ ولو كان الصيام الفردي هو المطلوب؛ لكان لكل واحد أن يختار شهره وتوقيته، ويصومه بينه وبين ربه. والأمر في الحج أكثر قوةً ووضوحاً، سواء في خطابه ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾ [الحج: 27]، ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران: 97]، أو في أدائه. ففي جميع هذه الأركان يمكن أن يكون للدولة أدوار مساعدة ووظائف مكمّلة، ومواقف مشجعة موجّهة، ولكنّ الخطاب أبداً ليس لخصوص الدولة وليس متوقفاً على تدابير الدولة ولا على تشجيعها ومساعدتها، وهناك دول عرقلت بعض هذه الشعائر، ولكنّ الشعوب المسلمة ظلّت تدافع تلك العراقيل وتتخطّاها مثلما تدافع الصعوبات الذاتية وغيرها. وسواء كانت الأمة أو الشعوب في مستوى مسؤولياتها فهماً وعملاً، أو كانت قاصرة أو مقصّرة، فإنّ المبادرة إلى تعظيم شعائرها والمحافظة عليها وتوفير ما يخدمها ودفع ما يعوقها ويضرّ بها، هي واجباتها ووظائفها، وجدت الدولة أم لم توجد، ساعدت أم عاندت. نصرة الدين وحمل رسالته وقَر في الأذهان والقلوب - مثلما الشأن في الواقع المقلوب - أن نصرة الدين والدفاع عنه والدعوة إليه وحمل رسالته إلى العالمين، وظائفُ وواجبات دائرة بين الدولة والعلماء (أي أولي الأمر). ويعتقد كثير من العلماء أنفسهم أن أداءهم لنصيبهم من هذه الرسالة متوقّف على الدولة إذناً ومساعدة ودعماً، فالأمر إلى الدولة ومنوط بها إلى حد كبير. وهذا أولاً: إفساد لمعاني الدين وقلب لأوضاعه، على نحو ما يتبيّن في هذا البحث من أوله إلى آخره. وثانياً: فإن الدولة عاجزة مسبقاً عن التكلّف وحدها بمثل هذا الأمر الجلل، بل عاجزة حتى عن أن تكون قاطرتَه والطرفَ الأكبر فيه. وثالثاً: لأن الدولة قد تكون في كثير من الأحيان غير صالحة لهذا الأمر، أو غير راغبة فيه أو غير مؤهلة له، بل قد تكون ضده ورافضة له لأسباب عديدة ترجع إلى سياستها الداخلية والخارجية وإلى نوعية القائمين عليها. بيان ذلك فيما يلي: أما أولاً: فلأن الله عز وجل قد خاطب في هذا الشأن عامة المؤمنين والمسلمين، وحمّلهم الأمانة والمسؤولية، ولم يخاطب فيه الأمراء، ولا اقتصر على العلماء، ولا خصّ الأغنياء دون الفقراء، فقال عزّ من قائل: ﴿قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني﴾ [يوسف: 108]؛ وقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ...﴾ [الصف: 10-11 و14]. فالدعوة إلى الإسلام وحملُ رسالته إلى كافة الأنام هي وظيفة جميع المسلمين أتباعِ خاتم الأنبياء، مثلما هي وظيفة الرسول نفسه. ومن ادّعى التخصيص والاستثناء فليأتنا بدليل لا وجود له. وقل مثل هذا في نصرة الله التي هي نصرة دينه والجهاد والتضحية في سبيله بالأموال والأنفس. فليس الخطاب بذلك موجّهاً إلى العلماء، أو الخطباء، أو الفاتحين، أو قادة الجند.. بل هو موجه إلى كل ﴿الذين آمنوا﴾. وأما ثانياً: فإنّ أمانة ثقيلة جسيمة كأمانة حفظ الدين ونصرته، أعظم وأخطر من أن تحملها فئة واحدة أو فئتان من الأمة، بما يعنيه ذلك من تعرّض أي فئة للضعف والتقصير، أو لقلة في العدد والنصير، أو تعرّضٍ للانحلال والاضمحلال. أما حين تخاطب بهذه الأمانةِ الأمةُ كل الأمة؛ ويصبح مسؤولاً عنها المؤمنون كل المؤمنين، نساءً ورجالاً، فقراءَ وأغنياءَ، تجاراً وصناعاً، أمراءَ وأُجَراءَ... فإن فُرص حمل الأمانة ورعايتها تكون كثيرة وفيرة واسعة متنوعة، ومهما أصاب الأمة من محن وآفات ونكبات وعثرات، فإن فرص الإفلات والانبعاث تبقى قائمة دائمة؛ في هذا الجزء من الأمة أو ذاك. فلذلك يظل الجهاد قائماً إلى يوم القيامة، ولذلك لن تزال طائفة من الأمة ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة، وهذا في أسوإ الظروف وأحلكها. أما ثالثاً: فإن الإلقاء بهذه الأمانة الثقيلة الجليلة على الدولة ومن يدور في فلكها، يجعلها عرضة للخطر الماحق حينما تقوم دولة ما على غير هدى من الله، أو تقوم على الغصب والأثرة والانحراف والفساد، ومثل هذا ليس بقليل في تاريخنا... فأنّى لدولة هذا شأنها أن تحمي الدين وتحمل رسالته إلى العالمين؟ وقل مثل هذا حين تصبح الدولة غارقة في الفتن والصراعات الداخلية الذاتية، أو تصل إلى حدّ التفكّك والتلاشي، في هذا القطر أو ذاك. أما حال عموم الأمة مع حفظ دينها، فهو كحالها مع وعد الله تعالى ألا يهلكها بسنة عامة تأتي عليها، وألاّ يسلط عليها عدواً يهلكها ويبيد كيانها، نعم قد يصيب أجزاءها شيء من هذا وذاك، ولكن تبقى الخيرات والبركات. تغيير المنكر ومقاومة الفساد هذه وظيفة أخرى من وظائف المجتمع والجماعة، وظيفة تغيير المنكر إذا ظهر ومقاومة الفساد إذا بطر. ولكن هذه الوظيفة أيضاً قد حوصرت وحصرت، ودُفع عامة الناس بشتى الأساليب والآراء عن ممارستها، أو على الأقل ضُيّق عليهم في ممارستها، بينما النصوص متضافرة صريحة في تحميل هذه المسؤولية لعموم الناس نساءً ورجالاً؛ يؤدّونها في مدنهم وقراهم كافة؛ وحتى مع ولاتهم ووجهائهم. ومن غريب ما صنعته الممارسة السلطانية، ذلك الفقه السلطاني الذي جعل تغيير المنكر باليد خاصاً بالدولة، وتغيير المنكر باللسان خاصاً بالعلماء (وبقيود وشروط)، وأما الأمّة برمّتها وعامّتها فلم يبقَ لها إلا تغيير المنكر بالقلب، أي عدم التغيير الفعلي. وقد تضافرت نصوص القرآن والسنة على عموم وجوب تغيير المنكر وإزالة الفساد بقدر ما يستطاع، قال الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [التوبة: 71]، وقال: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر﴾ [آل عمران: 110]. وقال: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود: 117]، وفي مقدمة الإصلاح إزالة الفساد. وأما الأحاديث النبوية فلا تقل كثرة وتعميماً عن الآيات القرآنية، ومن أشهرها قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»(2) . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في شأن الأمراء المنحرفين المحرفين: «فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»(3) . وواضح كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل تغيير المنكر ومقاومته في الحديثين معاً نوعاً من الإيمان وجزءاً من أجزائه، وليس مجرد مقتضى من مقتضياته. وقوّةُ الإيمان وضعفه، وكماله ونقصه، ليس مما يختص به الأمراء والعلماء، بل هو مما يهمّ كل مؤمن، ولهذا نجد الحديثين في صحيح مسلم ضمن أبواب الإيمان، وتحت هذا العنوان المعبّر: "باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص، وأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان"(4) . ومراتب تغيير المنكر الواردة في الحديثين ليست موزّعة على الأمراء والعلماء والعامة، كما ذهب إلى ذلك كثير من المتأخرين، بل جميع المراتب واجبة على جميع المسلمين، بحسب الإمكان والاستطاعة لا غير. ومن التناقضات الغريبة في هذا الباب، أن تجد عالماً مفسراً كالإمام القرطبي يفهم بحق من قوله تعالى: ﴿الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [التوبة: 71]، أن "الله تعالى جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين ؛ فدل على أن أخص أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ، ثم ينقض ذلك حين يضيف مستدركاً: "ثم إن الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطان؛ إذْ كانت إقامة الحدود إليه؛ والتعزيرُ إلى رأيه، والحبس والإطلاق إليه، والنفي والتغريب، فينصب في كل بلدة رجلاً صالحاً قوياً عالماً أميناً ويأمره بذلك" (5). وهكذا فإن المؤمنين والمؤمنات في كل بلدة يختزلون في رجل واحد، قد يكون وقد لا يكون، وقد يكفي وقد لا يكفي، وقد يعلم وقد لا يعلم بما يقع، وقد يصيب وقد يخطىء، وقد يستقيم وقد ينحرف. وإذا أريد تغييره فكيف يتغيّر؟ ومتى يتغيّر؟ وهل يمكن تغييره إلا بشكاوى العامة وإنكارهم ومبادراتهم؟ لكن هؤلاء ليس لهم إنكار المنكر حتى على بعضهم وأمثالهم، فكيف ينكرون على رجل أقامه الإمام وهو نائب الإمام؟ والعلامة القرطبي يستدلّ على ما ذهب إليه من قصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الحكام بقوله تعالى: ﴿الذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الأُْمُورِ﴾ [الحج: 39]؛ فهو يستدلّ على فهم مختل بآخر مثله ومن جنسه، حيث يجعل التمكين في الآية خاصاً بالحكام الذين تمكّنوا من الحكم والغلبة، وهذا غلط كبير. فإن التمكين في الآية عام أيضاً؛ ولفظ ﴿الذين﴾ من ألفاظ العموم كما هو معلوم. ثمّ إن قلنا: إن الآية تتحدث عن الحكام وما يختصون به، فلنقل: إن الحكام الذين تمكّنوا يختصون أيضاً بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لأن الكلام واحد والجهة المُتحدَّث عنها واحدة. وممّا يدلّ على عموم التمكين للجماعة، وعدم قصره على الحكام قوله تعالى في الآية الأخرى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور: 55]، والأمر بيّن لا يحتاج إلى بيان. غير أن ها هنا التباساً يقع لبعض الناس فلا يتصوّرون تغيير المنكر باليد إلا سلاحاً وقتالاً وخروجاً على الحكام، وخاصّة إذا كان المنكر المراد تغييره واقعاً من الأمراء أنفسهم، وهذا غير صحيح وغير لازم. قال ابن رجب الحنبلي: "التغيير باليد لا يستلزم القتال، وقد نصّ على ذلك أحمد أيضاً في رواية صالح فقال: التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح؛ فحينئذ جهاد الأمراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات، مثل أن يريق خمورهم أو يكسر آلات اللهو التي لهم أو نحو ذلك، أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كانت له قدرة على ذلك، وكل ذلك جائز وليس من باب قتالهم ولا من الخروج عليهم الذي ورد النهي عنه"(6) . بين التمكين للأمة والتمكين للدولة إن أُمّة الإسلام التي وصفها القرآن الكريم بقوله ﴿كُنتم خير أُمة أُخرجت للناس﴾ [آل عمران: 110] لا يليق بها إلا أن تكون ذات سيادة وريادة، وتمكين ومكانة. وعلى هذا الأساس بناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا النهج سارت وعاشت عدة قرون، ملأت فيها العالم نوراً وهدايةً، وعدلاً ورحمة، وعلماً وخلقاً. كانت الأُمة - قبل الدولة وأكثر منها - هي التي تدبر وتدير شؤونها الدينية والثقافية، وتحلّ مشاكلها المعيشية وتلبي حاجاتها الاجتماعية وتنهض بمشاريعها العلمية والتعليمية؛ وتحقق إنجازاتها العمرانية والحضارية. وكانت الدولة تشجّع وتساعد وتنظّم، وقد تضعف فتصبح عالة على المجتمع، وقد تنحرف فتصبح عائقاً في طريقه، أو تطغى فتصبح سيفا على رقاب أبنائه. ولكن المجتمع رغم هذا كان يظل نشيطاً متجدّداً في طاقاته وعطاءاته. وعلى سبيل المثال، لو تصفحنا - مجرّد تصفّح - دور الوقف في خدمة الحياة الدينية والثقافية، وفي تلبية الاحتياجات الاجتماعية، وفي القيام بشؤون الفقراء والمساكين والمرضى والمحتاجين، وفي بناء المدارس وإعمارها وتمويلها والإنفاق على أساتذتها وطلبتها، وفي دعم حركة الجهاد وحماية الثغور، لعلمنا الأدوار والعطاءات العظيمة التي تستطيع الأمة أداءها حين تأخذ حريتها وتملك مبادرتها، ولعلمنا أي خسارة نمنى بها حين يصبح "التمكين" خاصاً بالدولة منزوعاً من الأمة، أو حين يصبح التمكين تمكينا للدولة ضد الأمة. إن التمكين للدولة- في الوضع الصحيح - هو الذي يكون نتيجةً وفرعاً عن التمكين للأمة؛ أما حين يصير التمكين للدولة على حساب التمكين للأمة، وحين يصبح التمكين حكراً على الدولة ممنوعاً على الأمة، فذلك حين "تلد الأمة ربتها". ومنذ سنوات قرأت للدكتور سيد دسوقي حسن آراء جيدة عن البعث الحضاري وشروطه ومقدماته؛ وقرأت له مع صديقه الدكتور محمود محمد سفر نظرات واقتراحات نيرة عن كيفية شحذ فاعلية الأمة والخروج من الطريق المسدود. غير أن ما لم أستسغه من كلام الدكتور سيد دسوقي هو نظريته القائلة: "الدولة هي العقل المدبر والأمة هي الجوارح التي تعمل"(7). فهذه أخت النظرية التي تجعل التمكين خاصاً بالدولة، وتعطي للأمة التهميش والتبعية. فجعلُ الأمة مجرد جوارح، ومجرد أدوات للتنفيذ، مقابل إعطاء الدولة وحدها دور التفكير والتخطيط والعقل المدبر، هو تهميش للأمة ودفع بها إلى الانحطاط والتخلّف. نعم، للدولة مهام قيادية وريادية لا تُنكر، ولكن الدولة التي تهمّش الأمة وتلغي صلاحيتها وتكبت مبادراتها، لا يمكن أبداً أن تكون دولة رائدة ولا مبدعة حقاً. إن مركزية الدولة وأمومتها وهيمنتها واحتكارها للوظائف والصلاحيات؛ تجعل الآلاف أو الملايين من القادرين على الإبداع والعطاء الحضاري يقفون مشلولين، أو يقفون مناوئين؛ لأن الدولة هي التي تفكر وتبادر، وهم ليس لهم مكان في الدولة. أما حين نعتمد مركزية الأمة، ونعتمد حرية المبادرة في الفكر والقول والعمل، ونشجعها ونساعدها، فإن الأمة تتحرّك في كلّ اتجاه، وتبدع وتعطي في كل جانب، من دون أن يؤثّر ذلك سلباً على الدولة وقيادتها ورعايتها، بل لا يؤثّر ذلك على الدولة إلا بمزيد قوة وعافية ورقي. ****** (1) جزء من حديث متفق عليه. انظر: صحيح البخاري، "كتاب الزكاة"، وصحيح مسلم، "كتاب الإيمان". (2) صحيح مسلم بشرح النووي (بيروت: دار الفكر، [د. ت.])، ج 2، ص 21. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) الجامع لأحكام القرآن (بيروت: دار إحياء التراث العربي، [د. ت.])، ج 4، ص 47. (6) جامع العلوم والحكم (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1412ه/1992م)، ص 321. (7) مقدمات في البعث الحضاري (الكويت: دار القلم، 1407ه/1987م)، ص 110.