عزمت على التفكير والبحث في ظاهرة الهيب هوب في ما سبق، بعد أن لاحظت في الجامعة التي كنت أدرس بها ، تعبيرات فنية لثلة من الشباب الجامعي ، مصاحبة القيثارة لفضاءات الاستراحة بالكلية، تحلق مجموعة من الشباب على عازف شاب ، و يشرعون في الغناء الجماعي ، فابتعدوا بفعلهم هذا عن حلقيات الفصائل الطلابية اليسارية والإسلامية التي تعقد يوميا خلال أيام الدراسة ، كما أني بدأت ألحظ أن شيئا ما طرأ على لباس الطلاب ، سراويل و أقمصة فضفاصة و أحذية بيضاء ضخمة ، و قبعة بيضاء تكاد تلتهم رأس صاحبها ، و في جيدهم سلسلة من حديد تتدلاها خريطة المغرب ، و في المقابل انتشرت في صفوف الطالبات موضات الفيديو الكليب ، السراويل الضيقة القصيرة و الأقمصة الشفافة، و كأن هذه الألبسة صنعت كعلامات تنير طريق الناظرين مخافة التيه في جغرافية الجسد ، هنا الجبال ، هنال السهول، هنا الهضاب، هنا التلال، هنا الحفر و الآبار، و دور الموضة أشفقت على الناظرين المستمتعين لما يبذلونه من عناء البحث ، فرفقا بهم أزالت كل ما يمكن أن يعرقل سياحتهم البصرية . "" بدأت أتأمل ؛ الميكانيكي يلبس وزرته الزرقاء ، الطبيب يرتدي وزرته البيضاء ، فقيه المسجد يرتدي جلبابه المغربي الأصيل ، رجال العنكري يلبسون بذلة خضراء اللون و يحملون في أيديهم زراويط طويلة ، وانتهيت من خلال هذا التأمل إلى خلاصة مفادها ، أن لكل وظيفة أدواتها و ألبسته ، فقلت : طلبتنا في الجامعة يلبسون على غير هذا المقاس ، فما الذي يجري، هل نحن في مدرسة لعرض الأزياء ؟ هل نحن في مدرسة لتدريس الموسيقى ؟ فركت عيني جيدا ، وعاودت الكرة ، فلم أجد أمامي سوى كليات الحقوق والعلوم ، و كلية الآداب و العلوم الإنسانية ، ثم باغثني تساؤل مؤلم : لماذا لم أر أمامي طلبة جالسين جلسة الباحثين عن المعرفة والعلم ؟ طلبة الحقوق يناقشون مهزلة حقوق الإنسان بالمغرب نقاشا علميا، و طلبة الدراسات الإسلامية يقلبون النظر في البنوك الربوية ، و في كلية العلوم هناك نقاش عن الغذاء المعلب و آثاره على الصحة ، ويتداولون في ما بينهم آخر مخترعاتهم ويفكرون في تأسيس نادي المخترعين ، و في كلية الآداب يقف طالب أمام الطلبة يقرض الشعر قرضا ، ويقرأ الآخر إبداعا له في القصة أو الرواية .. ضربت كفا بكف ، وقلت تاهت بعض الفصائل عن وظيفتها ، و تاه الطلبة عن وظيفتهم الأساسية ، تيه الأَول في دروب الصراخ و الضجيج غير المفيد ، و تيه الثاني في دروب التقليعات الجديدة و أشعة الموضات الزائفة ، فأحست الجامعة بغربة أبنائها في زمن الطلبة التائهين ، فانقض عليها مزيان بلفقيه و من معه فاغتصبها اغتصابا لطيفا، و رمى بها في سلة مهملات تاريخ التكنوقراط ، و بعد ثمان سنوات أقر بذنبه و دعا الفاعلين من الطلبة و غيرهم لمحاسبته، فقوبلت دعوته بصمت رهيب ، كادت الولدان أن تشيب له ، و أن يقفز الرضع من أسرتهم الناعمة ، أن أفيقوا لإنقاد الجامعة ، لكن لا حياة لمن تنادي ، بعض الفصائل مشغولة بما تسميه "الأنشطة " و يا سلام على النشاط ! الأستاذة مهمومون بتضخيم أرصدتهم البنكية ، و الأحزاب سادرة في غفلتها آخر ما تفكر فيه الجامعة . طبيعي أن يستهتر هؤلاء الطلبة الذين يوسمون بالميوعة ، بالفضاء الجامعي و بحرمة العلم و المعرفة ، لأنهم آمنوا بالمقولة الشهيرة " إل ماجبهاش القلم يجيبها النغم " و ليس من قبيل الصدفة أن نرى أن أغلب الذين تقدموا إلى استديو دوزيم هم من الطلبة و التلاميذ قصد تأمين مستقبلهم بالعيش الكريم ، لعلمهم أن له قيمة في المملكة الشريفة ، هم أصحاب الحناجر الذهبية من المغنيين و المغنيات ، و تصرف للمهرجانات الأموال الطائلة ، و ملك البلاد محمد السادس أجزل المال الوفير للفرق الشابة ، ونظروا ثم تأملوا فوجدوا أن العالم في المغرب كالمهدي المنجرة يمنع من المحاضرة في القاعات العمومية و الجامعات ، وهو العالم الخبير بأنفس علم معاصر ؛ علم المستقبليات ، كما أنهم يرون بأم أعينهم زراويط القوات المساعدة على عطب السيقان والفتك بالمناطق الحساسة من الجسد ، يوميا تهدر كرامة الإطار المغربي أمام البرلمان ، هذا الإطار الذي أفنى حياته في معاقرة الكتاب ، ليس له من جزاء سوى السب و الشتم بقاموس ما تحت الحزام. فقلت هناك داعي ما إذن استمال عقول هؤلاء الطلبة و الشباب حتى يتمثلون سلوكات نجوم الهيب الهوب ، و نجوم ستار أكاديمي ، فوجدت نفسي مطالبا بالبحث و معرفة هؤلاء النجوم و الاستماع إلى أغانيهم من ألفها إلى يائها و أن أقرأ شيئا عن فلسفة الفيديو كليب ، وأن أطالع الكتب التي تعنى بتحليل ثقافة الصورة ، دون أغفل قراءة شيء ما عن الفن و الجمال و الحرية . فخاطبت نفسي : الأمر عسير و ليس يسير ، فليس من السهل أن أشن حربا شعواء على هذه الظاهرة دون أن استوعب خلفياتها ، وإن واجهت فمن أواجه هل هذا الشباب الظريف اللطيف ؟ [email protected] www.maktoobblog.com/father_father