على الذين يدلون بدلوهم في موضوع الدعوة والتنصير أن يتواضعوا قليلا ويتابعوا كثيرا، فالتواضع يرفع صاحبه فيرى آيات لم يكن يراها من قبل، والمتابعة توسع النظر وتشفي مرض نقص البصر. ومن أخص خصائص العلم والعالم التواضع والاطلاع والمتابعة، فكم من "عالم" ليس له من العلم بالعالم الحالي والواقع المتجدد إلا القليل، وكم من متطفل على العلم والعلماء لا يغدو أن يكون كلامه هباء منثورا، وقد يرتد عليه ويلا وثبورا. فلا شيء اليوم يغلي ويمور ويتحرك ويتحول ويهاجر ويرحل أكثر من الدين. ولا شيء يشتد عليه الطلب ويتزايد له العرض ويتصاعد حوله الجدل أكثر من الدين. ولا شيء تحيط به مخاطر الاستغلال والاحتكار والتشتت والتشيع أكثر من الدين. وأقصد بالدين هنا جميع المعتقدات السماوية والوضعية التي يتبعها سكان هذه الأرض، ولو كانت شركا بالله الواحد الأحد وكفرا به وبجميع كتبه ورسله. ولو كانت بعيدة كل البعد عن الأديان المتبعة المنتشرة، فحتى الذين يقولون إنهم لا ينتمون لأي دين من هذه الأديان الحالية وهم ثالث مجموعة دينية كبرى في المجموعات الدينية بالعالم، وحتى أولئك الذين يقولون إنهم ملحدون، كلهم متدينون لأنهم اختاروا عقيدة ومذهبا يتبعونه في سلوكهم ومعاملاتهم. ألم تروا إلى الناس كيف انشغلوا أو أشغلوا بخبر استقالة زعيم الكنيسة الكاثوليكية البابا بنديكت السادس عشر المفاجئة في نهاية العشر الأوائل من شهر فبراير الحالي؟ لقد طار الخبر إلى المشارق والمغارب وكل فيه يخوض ويحلل ويركب، ويفسر ويشرح وهو موقن بأن رأيه هو الأصوب والأهدى سبيلا. وقليل من المتقولين في الدين، دعوة وتنصيرا، لا يستوعبون التغيرات الجذرية التي طرأت على البشرية في تعاملها مع الطبيعة الدينية والفطرة الدينية في قرن كامل من الزمان. فقبل أن تدخل الإنسانية عصر العولمة كانت العقائد والملل والنحل معروفة الخرائط والأماكن... لكنها اليوم تغيرت تغيرا كبيرا حتى تداخلت الأديان بعضها في بعض، وبنيت المساجد في مدن وبلدان لم تخطر ببال دعاة الأمس، وغادرت المسيحية ديارها وأموالها وأبناءها الأصليين إلى أتباع جدد معظمهم ينتمون للعالم الفقير بالنصف الجنوبي للكرة الأرضية. ورحلت البوذية وبعض ملل الشرق الأقصى إلى الغرب الأقصى.. وفي البيت الواحد من بيوت أمة الغرب والشرق تجد المسلم والمسيحي والبوذي والكونفشيوسي، وفي الأسرة المسيحية الواحدة تجد الكاثوليكي والبروتستانتي والأرثوذوكسي، وفي الأسرة البروستانتية تجد الطوائف والشيع التي يقول بعضها لبعض لستم على شيء، كما حكى القرآن العظيم من قبل تماما عن العداوة المستحكمة بين أتباع الكتاب ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) البقرة 113. وإلى جانب الطرق القديمة في الدعاية للأديان، ولدت طرق حديثة لا تخترق الحدود الجغرافية والترابية للبلدان فقط، ولكنها تخترق جدران البيت الواحد وتخترق مكونات المجتمع الواحد وتخترق الحصون الذاتية لكل فرد، فصارت المسيحية مثلا تقدم نفسها لجميع الناس في العالم كله وبلغاته كلها ولهجاته كلها عبر القنوات الفضائية والقنوات الإنترنيتية وعبر الهواتف الشخصية. وصارت الرقابة والمنع أمرا بالغ السخافة وسخرية وهزؤا. وتهيأ للأفراد في عصرنا مناخ كبير من حرية الدين والمعتقد ما لم يتهيأ للسابقين، وكأنما خرج الناس من سجن كبير، ومن عقال ووثاق، خاصة في الأممالغربية، فتركوا أديان آبائهم وأجدادهم، وفروا من جبروت الكنيسة وطاغوتها، ليسقطوا في شراك الدنيوية والمادية، ثم أصابهم الجفاف الروحي فبحثوا عن الإرواء والإشباع ضمن سوق واسع من العروض الدينية، واختاروا ما يشاؤون من الأديان أو من خليط منها، أو قاموا بأسفار طويلة بعيدة بين هذه الأديان بحثا عن الحق والصواب فيها. وبهذا تصبح العلمانية التي كسرت جبروت الكنيسة وفسحت المجال أمام الحريات الدينية فرصة ومكسبا كبيرا للشعوب والأفراد في أمة الغرب. وفرصة أيضا للدين الإسلامي الذي حل ضيفا مهاجرا هناك ثم ما لبث أن سار صعدا حتى صار هو الدين الثاني في تلك الأمم والشعوب. لكن تلك العلمانية تشددت في بيئة خاصة عرف تاريخها بالصراع الدموي حول العقيدة التي استغلها الأباطرة وساسوا بها الناس، واستغلها الأساقفة فتحكموا بها في الناس واشتروا بها ثمنا قليلا. ومن المشهور أن تاريخ أوروما عامة، وفرنسا خاصة، يطفح بالدماء التي جرت أنهارا، والأرواح التي أزهقت ليلا ونهارا، والمعابد التي هدمت والعروش التي خربت، وما يزال الصدى ورد الفعل هو المتحكم في مواقف أهل السياسة وأهل الدين. وهناك علمانيات أخرى كانت محايدة فتركت الناس يدينون بما يشاؤون، ومنها من اعترف بالإسلام دينا رسميا في قلب أوروبا ودينا مدنيا في أمريكا، لكن الضجيج يعمي ويصم فلا نرى من الكأس إلا النصف الفارغ. وأما في العالم الإسلامي فقد شهدنا صحوة دينية جاءت بعد جهل واستعمار، ثم تعرضت للمحن والابتلاءات والسجون والمنافي والهجرات، كانت الهجرة إلى الغرب واحدة منها، وتعرضت للتزوير في الانتخابات والانقلابات العسكرية والمدنية، وتعرضت أيضا لرياح عاتية من التمييع والتفسيق والتشويه. واستمر الوضع الكالح عقودا طويلة حتى أطل الحراك العربي وبدأت نسائم الحرية تهب بقوة، وأخذ الإسلاميون يتقدمون وخصومهم الظاهرون والأخفياء يتراجعون، أو يمكرون، ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين. وعند إلقاء نظرة عامة على الحراك الديني في العالم نجد أن الإسلام والمسيحية والحياد الديني والإلحاد هي الأديان الفوارة بالحيوية والنشاط. وإذا كان الإسلام معروفا مشهورا، فإن المسيحية ليست اليوم واحدة، ولكنها مسيحيات، تعاني من التقطع والتشيع والتشرذم والتقاتل الذاتي، كما تعاني من تراجع في معاقلها القديمة، وتقدم في مناطق جديدة لم تتجذر فيها بعد، ولم يقبل المقبلون عليها لسواد عيونها، ولكن طمعا في مالها وترابها. وأما الحياد الديني فهم فئات كبيرة من الناس في هذا العالم لاهم مسيحيون ولا هم وثنيون ولا هم ملحدون كافرون، ولا هم مسلمون، فهم مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، يتوزعون بين الإيمان بالله مع شك بسيط، وشك كبير مع إيمان بسيط. وأما الملحدون فهم أقلية الأقليات في المجموعات الدينية، لهم ضجيج أكبر من حجمهم، وصراخ يعوضون بهم قزامتهم، كأنهم يقولون للآخرين: ها نحن هنا فاحسبوا حسابنا. وأما الإسلام فقد حافظ على رسوخه في معاقله التاريخية والجغرافية واستعاد نشاطه القديم، ثم طار نحو مناطق جديدة وأقبل عليه الناس أفواجا من حيث لم يحتسب أحد، وتلك من أخص خصائص هذا الدين، إذ أن أي أحد أو مستشرف لا يمكنه أن يتوقع أين ستفيض خميرة الإسلام، في الشمال أم في الجنوب، في الشرق أم في الغرب، في العواصمالغربية أم في العواصم شمالية، في القصور أم في مدن الصفيح، بين المثقفين أم بين الأميين، بين النساء أم بين الرجال. وعندما تحدث العلامة المغربي الدكتور أحمد الريسوني عن التبشير النصراني في بلدان المسلمين، فإنه كان يستحضر هذه التحولات الكبرى للخريطة الدينية والحيوية الدينية في العالم، كما أنه بنى موقفه العلمي، وليس السياسي كما توهم بعض المغرمين بنظرية ذي الوجهين، على مقدمات ومعطيات ومسلمات واضحة كل الوضوح. والريسوني يعلم أن التنصير لا ينشط إلا بجناحين اثنين الأول هو عقدة الاضطهادية والثاني عقدة السرية. فأما الاضطهادية فهي ادعاء التعرض للقمع والإقصاء والتعذيب والسجن والاعتداء على حرية المعتقد، ثم تصوير المسيحي على أنه مظلوم بسبب عقيدته أو نشاطه الديني، ثم تضخيم تلك الحالات في تقارير خاصة تنشر سنويا. وأما عقدة السرية فإن المنصرين لا يفضلون الأضواء والعمل في وضح النهار في البلدان الإسلامية، ويجتهدون في الابتعاد عن كل مناقشة و مناظرة حول دعوتهم الدينية حتى لا ينكشف ضعفهم واعتمادهم على وسائل الترغيب وإسالة اللعاب في عملهم. على المتقولين أن يعرفوا أن المسيحية تعاني اليوم وغدا من التصحر والانتحار الديمغرافي في عقر دارها، وأنها أضعف من أن تنصر المسلمين، إذ أحرى بها أن تقنع أهلها بنفسها بدل أن تصطاد الضعفاء والفقراء. وعلى المتقولين أن يعرفوا أيضا أن الدعوة وتنشيطها وتقويتها في البلدان الإسلامية هي خير وسيلة، ليس ضد التنصير فقط، ولكن ضد الكفر والإلحاد والفسق والفجور وعظائم الأمور، وضد الجهل والفقر والأمية والمرض والاستبداد والفساد، وأن موت الدعوة يعني خروج الإسلام من ديار المسلمين كما خرجت الأندلس من قبل، وكما ضاع جنوب السودان من قبل، وكما ضاعت تركيا من قبل أن تعود إلى دينها بفضل دعاة أتقياء أخفياء منهم من عرفناهم ومنهم من لا يعلمهم إلا الله.