أبشر في البدء المغاربة بتاريخ جديد صار محايثا لتاريخهم المعاصر هو تاريخ : قبلة الطائرة، حيث يمكن الحديث عن زمن ما قبل قبلة الطائرة وزمن ما بعدها، وهو تمييز أشبه ما يكون بتمييز بين انحطاط ونهضة . والحال هنا أن واقعة الطائرة المصرية قد أيقظت من جديد سؤال علاقتنا بمفهوم أساس من مفاهيم الزمن المتحضر وهو مفهوم: الديمقراطية... فإذا كان المنظور السيميائي يعتبر الإنسان علامة، على حد تعبير بورس، جاز تحليل سلوكاته إلى مؤولات أي دلالات وفق مقصدية القراءة ذاتها . بيد أننا سنتقيد بشروط التأويل المحلي حتى لا نسقط في متاهة الاستنتاج المجاني لأحكام انطباعية واستباقية كما هو الشأن اليوم لدى الكثيرين ممن يقدمون أنفسهم بوصفهم محللين للخطاب السياسي دون أن ينشطوا ولو مفهوما واحدا من مفاهيم تحليل الخطاب.. لقد تنافلت وسائل الإعلام المغربية والعربية هذه الأيام حكاية القبلة في فيلم أمريكي بثه طاقم الطائرة المصرية في رحلة باتجاه الدارالبيضاء، وهي القبلة التي أثارت سخط بعض برلمانيي العدالة والتنمية المحترمين الذين طالبوا بتوقيف البث دون أدنى مراعاة لحقوق الآخرين في المشاهدة طبعا... هكذا أشغل التشاكل الصوتي لعبارة : قبلة الطائرة لنحصل على عبارة : قبلة الطائرة بكسر القاف ، وهو تشاكل فوضوي يقودنا إلى طرح الإشكالية الدلالية السياسية الآتية : في أي اتجاه تسير بنا طائرة الديمقراطية التي ركبناها !؟ وهل وفرنا شروط السلامة لنجاح الرحلة في زمن ينعت بزمن التحولات !؟ إن ما يدعى في أدبيات تحليل الخطاب السياسي بتجارة الديمقراطية هي تجربة إنسانية مدنية بالأساس تنخرط في رهانات التحديث والتنمية عبر الاشتغال على حقول المواطنة وحقوق الإنسان . فتجارة الديمقراطية بهذا المعنى تقود إلى ممارستها في كل السياقات، بالمعنى الذي يجعلها كلا لا يتجزأ، فلا يجب أن نكون ديمقراطيين في البرلمان فنقبل بالتصويت والانتخاب واحترام الرأي الآخر، وفي الآن نفسه نمارس فعل الديكتاتورية في الطائرة أو في المقهى .. من خلال محاولة فرض الرأي الوحيد على الأغلبية... إن الطائرة_ الفضاء العام، وعلى حد تعبير إدوارد هال في كتابة " البعد الخفي "، هو فضاء اجتماعي يمثل تأثيثه من طرف مجموعة بشرية معينة بعدا ثقافيا وحضاريا، وبالتالي يمكن، كما هو حال التعدد في الطائرة، أن يجمع بين حضارات وثقافات مختلفة...فكيف، إذن، استساغ نوابنا المحترمون خلق ضجيج من أجل فرض تأثيث واحد وأوحد للفضاء !!؟؟ إن الانسجام في الخطاب السياسي لحزب معين تؤشر عليه تلك العلاقات الخفية والظاهرة التي تربط بين التوجهات والمبادئ العامة لذلك الحزب، وبين السلوك الديمقراطي والمواطن لأفراده في كل الحالات النفسية والاجتماعية . غير أن حالة الانسجام هذه يفتقد إليها أقطاب وممثلي الإسلام السياسي في بلادنا، حيث يحضرون المهرجانات الغنائية والسينمائية تارة، وتارة أخرى يسفهون هذا المهرجان أو ذاك، بل يتحدثون عما ينعتونه بالفن النظيف، وهو اصطلاح لا يوجد في الأدبيات النقدية العالمية على الإطلاق، ولو كان المقصود به ما سمي بالفن الملتزم فما على القارئ إلا أن يرى كيف تهاوى هذا المنظور عالميا حيث كان مجرد خدعة إيديولوجية في خضم الحرب الباردة لأنه يقتل الفن ويتناقض مع أسس الخيال و التخييل فيه... لنعد إلى قبلة الطائرة فنطرح التساؤل الآتي: هل هي فعلا قبلة !؟ إن مفاهيم العلم المعرفي تعتبر السينما وما تقدمه من حركات و ممثلين هي مجرد أيقونات متحركة، وهنا يمكن الحديث عن ' المجاورة الفيلمية ' التي تجعل معاني القبلة وكثافتها البلاغية تختلف تأويلاتها من متلق لآخر..... إذن نحن أمام قبلة تاريخية بالفعل لأنها يمكن أن تدفع أقطاب الإسلام السياسي في بلادنا وفي العالم العربي إلى مراجعة الكثير من الخلط و الغموض الذي يطبع ممارستهم السياسية، حيث يجب أن ترقى هذه الممارسة إلى مستوى المجتمعات المواطنة التي استطاعت الأحزاب فيها أن تمايز بين الميادين والمجالات، وذلك تجاوزا للنمطية والوصاية و تحقيقا للتعاقد السياسي الحق الذي يتناقض مع كل أشكال التقية والمناورة السياسوية... *أستاذ باحث في البلاغة والعلم المعرفي