عندما كنا في المدرسة خلال المرحلة الابتدائية ،كان كل شيء ينتظم ويبدو في أبهى حلة كلما تم الإعلان عن زيارة السيد المفتش... كان المعلم يصحح كل الكراسات،ويأمر بتغليف كل الكتب والكراسات، وكان المدير يطوف شخصياً بكل الفصول ، ويوصي التلاميذ بالامتثال للأوامر و النواهي التي تقدم لهم ، ويهدد ويتوعد كل من يصدر صوتاً في حضور سيادة المفتش أو يأتي بحركة تعكر مزاج سيادته.. بل أحياناً كان يأمر بعض التلاميذ وهم قلة، من ضعاف المستوى بعدم الحضور ذلك اليوم إلى المدرسة... ولا ينسى سيادة المدير أن يوجه جميع التلاميذ إلى نظافة الملبس والالتزام بالتوقيت، بل والحضور قبل الوقت..كما يأمر بتنظيف الفصول،وترتب المقاعد ويصير كل ما بالمدرسة جميلا. لكن ،بعد زيارة السيد المفتش ،يعود كل شيء الى حالته الأولى ، وتعود حليمة إلى عادتها القديمة، وأحياناً يحدث هذا ويقول السيد المدير: إن زيارة المفتش كانت غير معلنة و مفاجئة! رغبة في إضفاء شرعية مفتقدة على ما يرافق الزيارة من مبالغة في الاستعداد و الترحيب بالزائر، الذي هو في الحقيقة ليس سوى موظف لدى الدولة، وفي مهمة هي من صميم واجبه الذي يتقاضى عنه أجرا من خزينة الدولة المُشَغلة.. وليس ضيفا ينبغي الاستعداد لزيارته والتكلف في ترتيب بروتوكول لاستقباله وللترحيب به. كانوا يفعلون ذلك وهم القدوة ،فضاعت القدوة وفقدنا النموذج ، ومن ثم البوصلة التي تقودنا نحو الحق.. كانوا يقتلون فينا الصدق والأمانة ،ويربوا فينا الكذب والنفاق بتصرفاتهم تلك..لا ندري نحن الصغار آنئذاك ماذا كان دافعهم؟ وممن وعلى ما كانوا يخافون؟هل كانوا يخافون من المفتش؟ أم كانوا يخشون أن يفقدوا وظائفهم؟ كان هؤلاء يَدعون إلى الحرص على التربية والأدب ،وينادون بكريم الأخلاق ، وكأنهم لم يسمعوا "بالإمام البوصيري" وهو يقول:" ما كانوا يأمرون بالمعروف حتى يأتمروا به ،وما كانوا ينهون عن المنكر حتى ينتهوا عنه"! تربينا على النفاق في الممارسة التي كنا نشاهدها تتكرر أمام أعيننا ،ونحن صغار نحتاج الى القدوة والمثل والنموذج.هكذا نلاقي الحياة والناس، وهكذا نصبح مواطنين ..ولكن هل نحن مواطنون صالحون؟! سردت كل هذا وقد مرّ بي أكثر من موقف مثل هذا في مختلف ربوع البلاد،كلما شاءت الصدف أن أعاين زيارة عاهل البلاد أو مسؤول كبير في الحكومة أو غيرهما..تُكْنَسُ الشوارع وخاصة الرئيسية منها،و تُزَيَّن واجهات البيوت والمحلات بيافطات الترحيب والتهليل، وتستنفر كل أنواع مصالح الأمن ،ما يعطي الانطباع بمدى درجة أهمية المسؤول المرحب به ،بل ويمكن أن تعطل الدراسة بمدارس المدينة ومحيطها ..ولكن كل مظاهر الزّينة و الأمن والاهتمام بالمواطن، لا تلبث تختفي بمجرد مغادرة هذا الزائر ومن معه، وتعود الحياة لرتابتها ،والمدينة للإهمال والتهميش، وسكانها للكدح و النضال من أجل لقمة العيش التي أضحت صعبة المراس في أيامنا هذه. تذكرت فيلم (طباخ الرَّيِّسْ) للمخرج سعيد حامد،وبطولة طلعت زكريا وخالد زكي ،عندما سأله الرئيس طبّاخه عن سبب تأخره ، فأجاب : كانت هناك زحمة في الكبري"الجسر"! فردّ عليه الرئيس بأن الكبري كان خالياً ساعة مروري! فقال الطبّاخ : نحن تم حجزنا أسفل الكبري لتمُرّ سيادتكم!.. وتذكرت زيارة المفتش وما كانت تخلقه من استنفار على أعلى الدّرجات ،ولدى جميع الفئات ،من مدير و معلمين وحراس وأعوان وتلاميذ.. ألا يعتبر هذا السلوك نفاقا سياسيا واجتماعيا بكل المقاييس؟ ألا يُكَرّسُ هذا السلوك عقلية التّورِيَة والتمْويه، والإيهام بأن كل شيء على أحسن ما يرام ؟ ألا يساهم مثل هذا السلوك في تعطيل عجلة التقدم والتنمية الحقيقية؟ ألا يضمر سلوك المحاباة هذا حقيقة التهاون والتقصير في الواجب ،يحاول هؤلاء إخفاءه وصرف النظارعنه؟ ثم هل ينبغي أن يُخْلِص المسؤول في ما يضطلع به من مهام و مسؤوليات، إيمانا منه بنبل رسالته وبما يقتضيه الواجب ،أم خوفا من سلطة أعلى، ابتغاء لعطفها، أو استجداء لرضاها ؟؟! نترك كل هذه الأسئلة للمعنيين بها ليجيبوا عنها،لعلهم يقتنعوا أو يقنعوا أنفسهم بمشروعية السؤال وصِدْقِية الجواب..أما المواطنون من عامة الناس ،فهم أدرى بالجواب أكثر من غيرهم،لأنهم هم من يكتوون بحرقة السؤال،ويؤدون ثمن الهروب من الجواب عنه.