خصص مجلس النواب جزءا من الجلسة الشهرية الأخيرة المتعلقة بالسياسة العامة (28 يناير)، لمناقشة الوضعية الأمنية ببلادنا. الجلسة تقدم العديد من المؤشرات حول طبيعة تناول البرلمان لوظيفته الرقابية تجاه قضية السياسات الأمنية من جهة، ولطبيعة تمثل الحكومة نفسها لهذا الملف في علاقة بصلاحيتها الدستورية. لقد شكل مطلب الحكامة الأمنية إحدى عناصر الحوار الوطني الواسع الذي شهدته بلادنا قبل دستور 2011، إذ دافعت بعض الأحزاب السياسية، وجل الجمعيات الحقوقية وفعاليات المجتمع المدني عن تضمين الدستور لمبادئ الرقابة البرلمانية للأجهزة والسياسات الأمنية. ومن الواضح أن خلفية هذا الدفاع كانت تستند إلى توصيات هيئات الإنصاف والمصالحة المتعلقة بترشيد الحكامة الأمنية، والتي نصت على جملة من المبادئ الموجهة ضمنها : المسؤولية الحكومية في مجال الأمن، المراقبة والتحقيق البرلماني في مجال الأمن، توضيح ونشر القوانين المنظمة لمسلسل اتخاذ القرار الأمني، المراقبة الوطنية للسياسات والممارسات الأمنية، معايير وحدود استعمال القوة... دستور 2011، لم يتبنى بالكامل جوهر هذه التوصيات والمطالب الحقوقية، لكنه انطلق من فكرة محورية هي ربط المسؤولية بالمحاسبة، كما قدم في فصليه 21 و22 ما يمكن اعتباره عناصرا مرجعية للسياسة الأمنية، ترتبط بالحق في السلامة الشخصية و بضمان السلطات سلامة السكان والتراب، في إطار احترام الحريات والحقوق الأساسية، وبعدم جواز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، وبتجريم التعذيب. من جهة أخرى، فإن الفصل 54 ،الذي يحدث المجلس الأعلى للأمن، تطرق إلى مفهوم مركزي لأي سياسة أمنية ألا و هو "الحكامة الأمنية الجيدة". الدستور كذلك، جعل البرلمان مختصا ضمن مجال القانون، بالتشريع في كل ما يتعلق بنظام مصالح وقوات حفظ الأمن. السؤال الذي يطرح هو موقع السياسات الأمنية من توزيع الصلاحيات داخل السلطة التنفيذية؟ خاصة بعد تلويح رئيس الحكومة خلال جوابه داخل الجلسة المذكورة بأن مسألة الأمن تدخل ضمن الأمور الاستراتيجية، مما قد يوحى بوجودها خارج مجال الاختصاص الحكومي. الواقع أن الدستور جعل السياسات العمومية، جزء من المجال المشترك بين المؤسسة الملكية والحكومة، فالفصل 49 أدرج المسؤولين عن الإدارات المكلفة بالأمن، ضمن الوظائف "المدنية" التي يتم التعيين فيها بعد التداول في المجلس الوزاري وباقتراح من رئيس الحكومة وبمبادرة من الوزير المعني. كما أن الملك الذي يرأس المجلس الأعلى بالأمن يمكنه تفويض رئاسة اجتماع هذا المجلس لرئيس الحكومة. لذلك ليس هناك ما يمنع الحكومة من التدخل في السياسات الأمنية ضمن الصلاحيات الممنوحة بمقتضى الفصل 92 المتعلقة بالتداول في السياسات العمومية، والسياسات القطاعية، والقضايا الراهنة المرتبطة بحقوق الإنسان وبالنظام العام. إن الحكومة التي خصصت فقرة من 66 كلمة حول "الأمن"في تصريحها الحكومي!!، والتي اقترح رئيسها المدير العام الحالي للأمن الوطني، تتحمل دستوريا نصيبا من المسؤولية تجاه السياسات الأمنية، مسؤولية لا يمكن نفيها بالاختباء وراء "الصلاحيات الاستراتيجية". من جهته، البرلمان سجل خلال الجلسة الشهرية، تراجعا عن لحظة مناقشة قانون الضمانات الممنوحة للموظفين العسكريين، عندما دافع عن مبادئ الشرعية والمسؤولية، لكنه خلال مناقشة الإثنين الماضي فضل عوض التمسك بصلاحية مراقبة السياسات الأمنية، الانخراط في "حماسة" الإشادة والتثمين والغزل تجاه القوات العمومية، وقراءة الفاتحة على أرواح شهداء الواجب الوطني.