الصويرة: التوقيع على أربع اتفاقيات من أجل هيكلة وتطوير منظومات للصناعة التقليدية    ترامب: لا حق للفلسطينيين للعودة وسأحول غزة إلى قطعة أرض جميلة (فيديو)    تفاصيل الهزة الأرضية التي وصل مداها إلى عدة مدن مغربية    هزة أرضية تتجاوز 4 درجات تضرب شمال المغرب    رمضان 1446 .. استقرار الأسعار وعرض وافر من المنتجات الغذائية بأكادير إداوتنان    هزة أرضية قرب القصر الكبير تصل درجتها 5.10 شعر بها المواطنون في عدد من المدن    عاجل | هزة أرضية تضرب شمال المغرب ويشعر بها السكان    سبعة مغاربة ضمن الفائزين ب"جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة" برسم دورة 2024-2025    لفتيت يجري محادثات مع وزير داخلية إسبانيا حول قضايا الإرهاب والإجرام    التوفيق يربط فوضى الخطاب الديني بفوضى حرية التعبير    صندوق النقد الدولي يتوقع نمو الاقتصاد المغربي بنسبة 3.9% سنة 2025    حماس تقرر تأجيل تسليم الرهائن الإسرائيليين المقرر الإفراج عنهم السبت والجيش الاسرائيلي يعلن استعداده لكل الاحتمالات    لاراثون الاسبانية: ملف الاعتراف بجمهورية القبائل على طاولة وزير الخارجية الأمريكي    ارتفاع يسم تداولات بورصة البيضاء    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    المحكمة الابتدائية بطنجة ترفض تمتيع المدون رضوان القسطيط بالسراح المؤقت وتبقيه قيد الاعتقال الاحتياطي    تتويج الرامي بجائزة "بول إيلوار"    "بوحمرون" يستنفر السلطات الصحية باقليم الدريوش    مجلس المستشارين يختتم الدورة الأولى من السنة التشريعية 2024 – 2025    الشراكة الأخلاقية بين الوضعي والروحي في المغرب..    توقيف شخص وذلك للاشتباه في تورطه في قضية تتعلق بالتخدير وإلحاق خسائر مادية بممتلكات خاصة    "خطة التشغيل" على طاولة المجلس الحكومي    تقرير: المغرب يبقى منفتحا على التنين الصيني في ظل إغلاق الأسواق الكبرى    سفير السعودية بالمغرب يستعرض إنجازات نوعية في خدمات العمرة والحج    فلسطين تثمن جهود الملك محمد السادس من أجل حل أزمة الأموال الفلسطينية المحتجزة لدى "إسرائيل"    محمد زريدة يعزز صفوف الاتحاد الليبي    شاطئ الحسيمة يلفظ حوتًا ضخمًا    المغرب في شراكة للذكاء الاصطناعي    الأستاذ البعمري يكتب: "تهجير الفلسطينيين للمغرب.. الكذبة الكبيرة!"    بعد إدانته بالإعدام ابتدائيا.. تأجيل المحاكمة الاستئنافية لقاتل "بدر"    المستشفى الحسني يفرض الكمامة على المواطنين    أوزين عن التصويت لصالح قانون الإضراب :"نشرع للوطن وليس لموقع في الوطن"    الفنان عبد الحفيظ الدوزي يصدر أغنيته الجديدة "اش هدا"    نهضة بركان ينفرد بصدارة البطولة ويواصل الزحف نحو اللقب هذا الموسم    وفاة الفنانة السورية الشابة إنجي مراد في ظروف مأساوية    الندوة الدولية الثالثة حول مصطفى الأزموري (إستيبانيكو) في نيويورك تكرس الروابط الأطلسية بين المغرب وأمريكا    أرقام قياسيها تحققها الصناعة السينمائية المغربية خلال سنة 2024    من كازابلانكا إلى فاس.. أوركسترا مزيكا تُطلق جولتها الموسيقية في المغرب    ترتيب البطولة الاحترافية المغربية للقسم الأول "الدورة 20"    المغرب يشارك في المؤتمر العام الثامن للاتحاد العربي للكهرباء بالرياض    خبراء يحذرون من التأثيرات الخطيرة لسوء استخدام الأدوية والمكملات الغذائية    تصفيات كأس إفريقيا للريكبي…المنتخب المغربي يبلغ النهائيات بفوزه على نظيره التونسي    أسعار الغاز الطبيعي ترتفع بأوروبا    الذهب قرب ذروة مع تزايد الطلب على الملاذ آمن بعد خطط رسوم جمركية جديدة    علماء أمريكيون يطورون كاميرا فائقة السرعة تعالج الصور فور التقاطها    فيلم "دوغ مان" يواصل تصدّر شباك التذاكر في الصالات الأميركية    البرتغالي "ألكسندر دوس سانتوس" مدربا جديدا للجيش الملكي    إقصاء مبكر.. ليفربول يتجرع خسارة مُذلة على يد فريق في أسفل الترتيب    المغرب يقترب من التأهل التاريخي إلى مونديال 2026 بعد إقصاء هذا المنتخب    بكراوي يهدي "إستوريل" هدفين    الشيخ محمد فوزي الكركري يشارك في مؤتمر أكاديمي بجامعة إنديانا    دراسة: القهوة تقلل خطر الإصابة بالسكري من النوع الثاني    الاتحاد الأوروبي يسمح باستخدام مسحوق حشرات في الأغذية    وداعا للشراهة في تناول الطعام.. دراسة تكشف عن نتائج غير متوقعة    والأرض صليب الفلسطيني وهو مسيحها..    جامعة شيكاغو تحتضن شيخ الزاوية الكركرية    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية: وسائل التواصل الاجتماعي مليئة بالمناكر والتشهير وتحتاج لإصلاح ديني وأخلاقي
نشر في شمالي يوم 10 - 02 - 2025

شدد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، السيد محمد عبد النباوي، على خطورة المحتوى المنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والذي وصفه بأنه مليء بالمناكر والكذب والزور والبهتان، إضافةً إلى التشهير بالناس، والمساس بأعراضهم، ونشر الفواحش، والتطاول على مقدسات البلد وقيمه الفضلى.
أكد عبد النباوي أن هذه الظاهرة تشكل تحدياً كبيراً يتجاوز قدرة القوانين على مواجهته بمفردها، خاصة في ظل عدم تحكم الدول في البرمجيات والمنصات التي تُدار من قِبَل قوى خارجية. وأضاف أن القانون وحده لا يكفي لتطهير هذا المشهد الرقمي الملوث، ما يجعل الحاجة ملحة لدور العلماء والدعاة في توجيه سلوك الأفراد وتعزيز الوعي الديني والأخلاقي.
وأشار إلى أن رسالة العلماء لا تقتصر فقط على معالجة المنازعات القضائية، بل تمتد لتشمل محاربة الفكر المتطرف، وتجفيف منابع الإجرام بمختلف أشكاله، مثل ترويج المخدرات، والاعتداء على الأرواح والممتلكات، وهي جرائم يمكن للدعوة الدينية أن تساهم في الحد من انتشارها.
وأوضح عبد النباوي أن تأثير العلماء في النفوس يمكن أن يكون أكثر فعالية من التشريعات الصارمة، لأنهم يخاطبون الضمائر والقلوب، مما قد يدفع صناع المحتوى إلى مراجعة ما ينشرونه، والتحلي بالصدق، وتجنب القذف والسب، والمساس بحياة وأمن الآخرين.
وفي ختام مداخلته، دعا عبد النباوي إلى ضرورة تكثيف الجهود التوعوية الدينية والأخلاقية لمواجهة هذه الظواهر السلبية، مؤكدًا أن إصلاح المجتمعات يبدأ من إصلاح النفوس، وتعزيز الوازع الديني والخلقي، بالتوازي مع تطبيق القوانين اللازمة لضبط السلوك العام.
المداخلة الكاملة للرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية محمد عبد النباوي خلال اللقاء التواصلي للمجلس العلمي الأعلى :
..
دور الدعوة في التنمية البشرية عن طريق إقامة العدل..
محمد عبد النباوي
الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية..
توطئة:
حضرات السيدات والسادة العالمات والعلماء الأجلاء.
أشعر بكثير من التواضع وأنا أتحدث إليكم من موقع القضاء الذي كان العمل بأسلاكِهِ قَدَرِي ..
وذلك لأنكم أنتُم العلماءُ مَنْ وَضَعَ قواعدَهُ وصنَّفَ مبادِئَه واضطلع بمهامِه عبر الأزمان ..
وتعلمون أيضا حضرات السيدات والسادة أن أعدل القضاة وأشدَّهُم نباهةً وذكاءً وحِكمة ومعرفة كانوا
فُقَهاء ..
وتعرفون العديد منهم كشُريح بن الحارث الكندي وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم قاضي قضاة هارون الرشيد وشيخ أبي حنيفة .. والقاضي سحنون بن سعيد التنوخي صاحب المدونة وأحد أشهر فقهاء المالكية في الأندلس والمغرب، واللائحة تطول.
وتعلمون كذلك أنه كما تَوَلَّى القضاءَ كبارُ فقهاءِ الأمة الإسلامية، وتركوا على صفحات التاريخ آثار عِلمهم ووَرَعِهم وتَقْواهُم .. فقد تهيَّب فقهاءُ آخرون من مهمة القضاء ورفضوا الاضطلاع بها خوفاً من الوقوع في الغلط
أو الاضطرار إلى القبول بالباطل، وفي مقدمتهم الأئمة الأربعة والحسن البصري وسفيان الثوري وآخرون.
وكيف لا يهابون هذا المنصب الذي قال رسول الله (ص) عن القائمين به: "اثنان منهم في النار وواحد في الجنة".
أولاً : دور القضاء في التنمية البشرية..
حاجة التنمية إلى الأمن والعدل
فكما تعلمون ذلك، فأنتم تعرفون دور القضاء في المجتمعات، وارتباط ذلك الدور بالتنمية البشرية في أبعادها المختلفة:
فالتنمية تحتاج للأمن والاستقرار، لأنه في غيابهما لا يمكن للمستثمر أن يغامر بأمواله لتحقيق وحدات إنتاج توفر فرص الشغل وتدر دخلاً يُمَكِّن الأفراد من العيش الكريم.
ودَورُ القضاء الأصيل هو حماية الأمن والنظام العام، و"حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم"؛
والتنمية تحتاج لقضاءِ عادل يضمن حق الملكية وأموال المستثمرين، ويحمي حقوق الأجراء والعمال والتجار والمستهلكين..؛
والتنمية تحتاج أيضا لقضاء يحقق الإنصاف ويردع الظالم عن ظلمه، ويعيد الحق لمن سُلِبَ منه.
وبذلك تستقر المعاملات ويطمئن الناس على معاشهم ومُقَامِهم وأنشطتهم المختلفة في الحياة.
أهداف التنمية البشرية..
فإذا كانت التنمية البشرية تهدف إلى تطوير قدرات الأفراد ومهاراتهم لتمكينهم من تحقيق أهدافهم وتحسين مستوى معاشهم. وهو ما يستدعي من برامجها الاهتمام بالمجالات التعليمية والصحية والاجتماعية والاقتصادية والحقوقية، فإن القضاء يُوجَدُ في صُلب اهتمامات التنمية البشرية.
لأنه بدون عَدْلٍ، لا يتحقق الأمن ولا الاستقرار. وبدون أمن لا تتوفر فرص الاستثمار، وتتدهور أحوال التعليم والتكوين، وتتردى الأحوال الصحية والاجتماعية والاقتصادية والحقوقية.
فمُساهَمَةُ القضاءِ في التنمية البشرية مرتبطة بدوره في مختلف هذه المجالات.
فاستتبابُ الأمن والاستقرار داخل المجتمع مرتبط بما يحققه نظام العدالة من ظروف الأمن وحماية الأشخاص والممتلكات ورعي المصالح الاجتماعية.
وقد يتأتى تهديد هذه المصالح من طرف الأفراد، أو من طرف المجموعات الاجتماعية، بل وقد يتجلى في بعض تصرفات السلطات العمومية نفسها، إذا كانت مخالفة للقانون.
مساهمة العدل في تحقيق التنمية البشرية..
ولذلك فإن تَوَفُّقَ نظام العدالة في فض المنازعات عن طريق القانون يضع حداً للخصومات، ويوفر للأطراف فرصةَ استرجاع حقوقهم بطرق سلمية منظمة، وهو ما يعزز الثقة في النظام القضائي.
ولكم أن تتصوروا وَضْعَ الطرفِ الضعيف إذا هُضِم حقُّه، فلجأ إلى القضاء فأنصفه.. فهذا ما سيعزز ثقته بدولته ويشعره بالاطمئنان على نفسه وأبنائه وأمواله داخل بلده.
تصوروا عاملاً صغيراً يُقتَضَى له حقه من مشغله، وقد يكون مقاولة عملاقة.
وتصوروا مواطناً بسيطاً يتعرض لشطط إدارة عمومية قوية، فينتصر له القضاء..
وتصوروا امرأة أو طفلاً مستضعفين يلحق بهما ضرر من رجال أشداء لهم المال والجاه، فتحقق لهما العدالة أملهما في الاقتصاص ممن ظلمهما..
لا شك أنها مظاهر إنسانية قوية تسمح باستشعار الطرف الضعيف لإنسانيته وبأهميته لدى سلطات بلده.
وهذه قيمة معنوية لها تأثيرها الكبير على نفسيات الأشخاص، فضلاً عن استرجاع الحقوق المعتدى عليها، والذي يشكل انتصاراً مادياً للطرف المعتدى عليه.
إن مثل هذه المواقف من شأنها أن تسهم في بناء مجتمع قوي متلاحم، يسعى فيه كل الأفراد إلى إثبات ذواتهم عن طريق العمل والمشاركة في الدورة الاقتصادية والأنشطة الاجتماعية والثقافية والسياسية، وهو ما يدفع سير عجلة التنمية الشاملة إلى الأمام.
ثانياً : دور المجتمع في إقامة العدل..
وإذا سلَّمنا أن للقضاء دوراً مهماً في تحريك هذه العجلة، فإنه من جهة أولى، غير قادر على قيامه بدوره لوحده، وإنما بتعاون وتنسيق أو مشاركة مع جهات أخرى معنية بمجالات تدخله، ومن بينها السلطات الأمنية، والسلطات الدينية والثقافية، والسلطات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ومن جهة أخرى محتاج إلى مشاركة المجتمع في توفير الشروط لإصدار أحكام عادلة.
دور السلطات في تحقيق العدل..
فإذا كان دور السلطات الأمنية في مجال القضاء ظاهرا للعيان، لأن أجهزة الأمن تعتبر الرافد الأساسي لقضايا المحاكم، فهي التي ترصد الظواهر الإجرامية وتتعقب المجرمين وتوقفهم وتقدمهم للقضاء؛
وإذا كان دور السلطات السياسية يبدو جلياً في حماية استقلال القضاء، بما يوفره الدستور للسلطة القضائية من استقلال عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويجعل جلالة الملك ضامناً له. وذلك لأن استقلال القاضي عن الضغوط والتعليمات والتأثيرات يعد ضرورياً لعدالة أحكامه؛
وإذا كان دور السلطات الأخرى يتجلى فيما تضعه من آليات قانونية أو تنظيمية لحماية الحقوق والمواقع بين الأطراف من جهة، وفي انصياعها لتنفيذ أحكام القضاء من جهة أخرى، فإن المناسبة تقتضي التفصيل بعض الشيء في موضوع مساهمة المجتمع في جودة الأداء القضائي، وكذلك فيما يمكن أن تقدمه السلطات الثقافية والدينية وسائر علماء الأمة وفقهائها الشرعيين من خدمات للعدالة والإنصاف.
المساطر القضائية تتطلب أطرافاً أخرى غير القاضي..
إن الدعاوى المرفوعة أمام القضاء هي دعاوى مرفوعة من طرف أشخاص ضد أشخاص آخرين.
وهم في الغالب من عامة مواطني البلد، بعضهم يقاضي البعض الآخر لأسباب مختلفة.
كما أن الدعاوى القضائية تنبني على أسباب، هي وقائع وأفعال ترتكب من طرف البعض فتؤْذِي البعض الآخر وتسبب له ضرراً مادياً أو معنوياً.
كما أن هذه الأفعال قد يتم ارتكابها عمداً أو لمجرد خطأ قد يتمثل في إهمال أو تقصير أو قلة انتباه.
ومن جِهة أخرى فإن الدعاوى المرفوعة إلى القضاء تتوقف على دلائل وحجج ووسائل إثبات.
وقد تكون هذه الوسائل كتابية كالعقود والالتزامات الخطية المشهود على صحتها أو تكون شفوية تستدعي شهادة شهود للإثبات أو النفي.
وقد تحتاج لقول خبير لتحديد أثر الفعل ومدى الضرر الناتج عنه، أو تقييم ذلك الضرر مادياً لأجل جبره.
فنظام العدالة لا يقوم على القاضي وحده، رغم أن القاضي هو الذي ينطق بالحكم ويُنسب إليه.
نظام العدالة يقوم، كما تعلمون، على مبادئ معروفة للتقاضي تتعلق بالبينة على المدعي، وحجية وسائل الإثبات المختلفة وجودة تطبيق النصوص والقواعد عليها، من طرف القاضي.
تأثر العدالة بسلوك المجتمع (مثال التقاضي بسوء نية)..
ولكي أكون أكثر وضوحاً في بيان الفكرة سأسوق مثلاً مألوفاً للدعاوى بالمحاكم.
وهو مثل لنزاع بسيط يختزل دور المجتمع في إقامة العدل:
قد يحدث أن تتشاجر سيدتان مثلاً من أجل نزاع بسيط يتعلق بأمور الجوار، مثل خلاف بسيط بين أطفال، أو بسبب إحداث الضجيج الضار بسكينة الجيران، وتتبادلان السباب والشتائم على مرأى ومسمع من جيرانهما.
فهذا خلاف بسيط يجد حله العادل عن طريق تطبيق النص القانوني الملائم، وهو في الغالب غرامة بسيطة تُفرض على الطرف الذي صدر عنه السب والشتم للآخر.
ولكن الأمر الذي سيرفع للمحكمة سيكون أعقد من ذلك. حيث قد تدعى السيدة الأولى أن جارتها ضربتها بمشاركة بعض أبنائها فأحدثوا لها أضراراً بدنية، وتدلي بشهادة طبية تؤكد وجود عجز بدني معين.
فترد السيدة الأخرى أنها هي التي تعرضت للعنف من طرف جارتها وأختها وزوجها، وأنهم أحدثوا لها أضراراً بدنية أشد، تثبتها كذلك شهادة طبية.
وتدعي كل واحدة من السيدتين أنها هي المعتدى عليها وأنها لم ترد على الاعتداء. وتفيد الشهادتان الطبيتان وجود أضرار على جسميهما.
ويسأل الباحثون عن الشهود الذين حضروا الواقعة، فيرفض الجيران الإدلاء بشهادتهم ويصرون على القول إنَّهُم لم يحضروا للواقعة، وذلك لتلافي دخولهم في خلاف مع الجارتين المتشاجرتين.
فتجتهد الجارتان في البحث عن شهود آخرين. وقد تجد إحداهما شخصاً أو أكثر مستعد للإدلاء بشهادة زور.
وقد يكون أحد المارة أو حارس الحي
أو حارس السيارات بالشارع مثلاً، الذي يدعي أنه عاين الاعتداء على السيدة التي يشهد لفائدتها من طرف الأشخاص الذين اتهمتهم.
ويُسْتَدعَى الشاهد إلى المحكمة فيُقْسِم اليمين على أنه شاهد ذلك، وهو لم يشهد شيئاً.
في مثل هذه الحالة ماذا سيكون حكم القاضي ولديه ادعاء باعتداء، وشهادة طبية تثبت الاعتداء وشاهد يؤكد صدوره من المشتكى بهم؟!..
لا شك أن تطبيق القانون قد يؤدي إلى صدور حكم على هؤلاء المعتدين بالعقوبات المقررة في القانون، وقد تكون عقوبة سالبة للحرية.
القاضي يتحمل مسؤولية المساهمين في العدالة..
ولا شك كذلك أن المحكوم عليهم سيغتاضون من هذا الحكم الذي صدر خلافاً للحقيقة التي وقعت أمام أعينهم.
ولا شك كذلك أن الجيران الذين حضروا الواقعة ورفضوا الإدلاء بشهادتهم سيعلقون على الحكم ويصفونه "بالجائر"، ويبدون انزعاجهم من سير العدالة.
كما أن المحكوم لفائدتها وعائلتها وشاهد الزور الذي شهد لفائدتها، قد يغتبطون للحكم ويعدونه انتصاراً لهم على خصومهم.
وأما الطبيب الذي حرر الشهادة الطبية ففي الغالب أنه لا يتابع مفعولها على الطرف المظلوم.
وحده القاضي الذي يمثل النظام القضائي يتحمل وزر مساهمة هؤلاء جميعاً في صدور هذا الحكم.
لا أحد سيكترث لخطورة الأمر على النظام العام وعلى استقرار المعاملات؛
لا أحد سينتبه إلى كون العدالة منتوج المجتمع وليست منتوج القاضي وحده؛
لا أحد سيربط الحكم "الظالم" بالجهات التي ساهمت في صنعه.
فما هي الأسباب إذن؟
ثالثا : حاجة السلطان إلى الإيمان..
إن الله يزعُّ بالسلطان ما لا يَزعُّ بالإيمان..
لا شك أن ضياع الأخلاق من سلوكيات المجتمع له تأثير قوي على تصرفات الأفراد على هذا النحو.
ولا شك أن عدم استحضار العقيدة بمناسبة تصرفات الفرد داخل المجتمع له أكبر تأثير على السلوك المجتمعي.
ونود أن نشير إلى أننا سنربط في هذه المداخلة بين التعاليم الدينية والمبادئ الأخلاقية، لأن دورهما واحد في ضبط سلوك الناس المؤدي إلى التنمية، رغم اختلاف المصدر والهدف بين الدين والأخلاق.
ذلك أن الدين هو شريعة الله، وأما الأخلاق فهي قواعد اجتماعية. وقد تتحد القيم الأخلاقية مع مبادئ العقيدة، وقد تختلفان. ولكنهما معاً تؤثران في سلوك الناس.
ولئن كان دور الدين في تحسين سلوك المجتمع ظاهرا للعيان في البلاد الإسلامية، فإن العديد من البلاد، التي لا تؤمن بدين معين، استطاعت بواسطة أخلاق مدنية تحقيق العدل والإنصاف والمساواة.
صحيح أننا نستذكر مقولة الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه: "إن الله يزع بالسلطان، ما لا يزع بالإيمان". وهي دليل قوي على أن المبادئ الدينية والأخلاقية عموماً تحتاج إلى من يطبقها، ويرتب عليها الأحكام الشرعية أو القانونية.
لأن ضعف إيمان بعض الناس قد يجعلهم يستهينون بالعقاب الأخروي الذي تقرره القاعدة الدينية، أو بِرَدِّ الفعل المجتمعي الذي ترتبه القاعدة الأخلاقية. فيحتاجون إلى عصا السلطة لردعهم وإرجاعهم لجادة الصواب، وجعلهم قدوة لغيرهم.
كما أن الاستمرار في مخالفة تلك القواعد الدينية أو الأخلاقية دون تدخل الحاكم (أو القانون)، قد يولد عادات جديدة لدى الأفراد، فيُصبح السلوك السيء عادياً ومقبولاً.
وقد نجد من ينتشي جهراً بما كسبه من عملية نصب أو استيلاء على أموال الغير.
ولذلك فتدخل السلطة يجب أن يظل حاضراً، ليتمم ما لم يضبطهُ الإيمان والعقيدة والأخلاق.
ولكن تدخل الحاكم يكون دائماً مشروطاً بالشرعية. أي أن تدخل القاضي مقيد بنصوص القانون.
والقانون يفترض التقاضي بحسن نية، ويعتبر أن المدعي لا يتقاضى إلاَّ من أجل أفعال حقيقية وواقعية (والحال أن مجرد تبادل السب بين السيدتين أصبح عنفاً).
ويرتب القانون آثاراً على الخبرة (والحال أن الشهادة الطبية
لا تعكس حقيقة النزاع بين السيدتين اللتين لم تتبادلا أي عنف).
كما أن القانون يعتمد على شهادة الشهود لإثبات الأفعال. (والحال أن الشاهد أقسم اليمين وشهد زوراً بأفعال غير حقيقية، وضميره مرتاح).
دور الأخلاق والعقيدة في إقامة العدل..
ففي هذه الأحوال "يحتاج السلطان إلى الإيمان". بمعنى أن القانون يحتاج إلى مساعدة الدين أو الأخلاق لأداء وظيفته في إقامة العدل بين الفرقاء.
فتنشأ هنا علاقة ترابُط وتكامل بين الإيمان والسلطان، حيث تحتاج العقيدة إلى السلطة لضبط احترام قواعدها.
كما تحتاج السلطة إلى العقيدة لتقويم انحرافات الناس. أي أن القاضي يحتاج لمدعي حق يستحضر الله أو الخلُق الطيب في اتهامه للغير، ولخبير يستمع إلى ضميره وينظر إلى ما ينتظره في الآخرة بسبب رأيه المخالف للحقيقة، ولشاهد حق ذي خلق طيب يستحضر قول النبي (ص) : "ألا انبئكم بأكبر الكبائر ؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال : الإشراك بالله، وعقوق الوالدين. وكان متكئاً فجلس، فقال : وشهادة الزور أَلاَ وقول الزور، ألا وشهادة الزور".
ولذلك فإنه في مجتمع لا يتوفر فيه إيمان بالعقيدة، ولا يتقيد بالأخلاق الفاضلة، يتعذر على النظام القضائي تحقيق الغايات المرجوة منه، مهما كانت صرامته وشدته.
وذلك لأن القضاء سيحتاج دائماً إلى دليل لإقامة العدل. والسلطة لا يمكنها دائماً أن تُوَفِّرَ الدليل الصادق، حيث يصعب إثبات الزور على الشاهد، وإثبات عدم مصداقية الخَبِير، والتخلص من صنع الدليل الكاذب من طرف الأطراف.
كما يصعب التخلص من بعض التصرفات المجتمعية التي أصبَحت تؤثر في أحكام القضاء، والمتجلية في سهولة توجيه الرأي العام عن طريق الوسائط الاجتماعية ووسائل التواصل الحديثة، أو عن طريق تنظيمات مجتمعية، فيقتنع عامة الناس بصورة معينة يصنعها فريق من الناس ينشرون أخباراً غير صحيحة، مخالفة لما تصل إليه تحريات وأبحاث آليات العدالة من حقيقة رسمية.
حتى إذا كان الحكم مخالفاً لما اقتنع به عامة الناس وهم جاهلون بحقيقة الملف، عُدَّ ذلك ظلماً وانحيازاً من القضاء .. ومسَّ بصورة العدالة في أعين الناس حتى ولو كان الحكم صائباً وملائما للحقيقة.
ولذلك فإن المجتمعات تحتاج إلى من يستنهض قيم الخير في النفوس. ولا يتم ذلك إلاَّ عن طريق التذكير بالأخلاق وترسيخ ثقافتها حتى تتمكن من نفوس الأفراد وتحكم سلوكهم.
أو التذكير بمبادئ العقيدة السائدة في المجتمع لإيقاظ الضمائر وبعث خشية الله في القلوب المؤمنة.
وبالنسبة إلينا نحن المغاربة، ولله الحمد، فإننا موحدون في أغلبيتنا على دين الإسلام والمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية.
وهي مكرمة حبانا بها الله، من شأن التقيّد بها أن يُجنبنا مدعي الكذب وشهود الزور، والتقاضي بسوء نية.
فكلما قَوِيَ إيمان المرء بالدين، كان ذلك موجهاً له في سلوكه نحو نهج الصلاح، والنأي عن المفاسد ما ظهر منها وما بطن.
فضمير المؤمن يُؤَطِّرُ سلوكَه الاجتماعي، حتى إذا خاصم لم يظلم، وإذا دُعِي للشهادة قال الصدق، وإذا حكم بين الناس التمس القسط والعدل.
وكشأن مفعول الدين، تكسب المجتمعات جزءا من الناس عن طريق شيوع الأخلاق الفاضلة، حيث يصبح الوازع الأخلاقي موجِّهاً لسلوك الناس نحو الخير.
فيصبح للأخلاق دور في إقامة العدل بين الناس، حيث يَحول الخُلُق الطيب دون المرء والاعتداء على حقوق غيره، ويمنعه من شهادة الزور ومن ادعاء الكذب وقول البهتان.
وإذا كان هذا دور الأخلاق في المجتمعات التي لا تعتقد في دين معين، فلا شك أن وضع المجتمعات الإسلامية سيكون أحسن بسبب انسجام الأخلاق المجتمعية مع تعاليم العقيدة الغراء.
وهكذا تكسب العدالة رافداً هاماً لأدائها المنصف عن طريق استقامة سلوك الناس وِفْقَ القيم الأخلاقية، أو المبادئ الدينية، التي كلما قويت، لدى الإنسان وشاعت داخل المجتمع، تحسن السلوك العام لأفراده.
غير أنه مهما كانت قوة العقيدة، ومهما انتشرت المبادئ الأخلاقية بين الناس، فإن الغرائز البشرية وظروف الحياة وإكراهات العيش والمغريات، قد تدفع بعض الناس إلى مخالفة مبادئ الدين والقيم الخلقية، فيقدم البعض على الغش والخداع أو النصب والاحتيال أو الادعاء الكاذب والتزوير، فيدعي بالباطل ويشهد بالزور ويحلف على الكذب ولا يرعى إلاَّ ولا ذمة، حتى إذا تقاضى إلى قاضٍ ادعى كذباً وجحد حقوق الغير وأقسم على الباطل أو شهد بالزور ..
ففي مثل هذه الحالات نحتاج لقاعدة الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه : "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالإيمان".
فيتدخل الحاكم – وفي زمننا هذا هو القانون – لردع هذه الظواهر الشاذة بالعنف المشروع، عن طريق تطبيق العقوبات التي يتيحها الشرع أو القانون كالسجن مثلاً.
فالقيم الدينية والأخلاقية تؤطر سلوك أغلبية الناس، وأما القانون فيتدخل لإصلاح الحالات الشاردة.
ولذلك لا يمكن للقضاء أن يؤطر بنجاح سلوك المجتمع إلاَّ إذا ساعده المجتمع، لأن أحكام القضاء وإن كان ينطق بها القضاة، فإن المجتمع هو الذي يصنعها ويساهم في إنجازها.
وكلما ضعف الوازع الديني والوازع الخلقي لدى الناس، ساهم في تعذر إقامة العدل، لأن عدل القاضي محتاج لمساهمة الناس مساهمة عادلة.
رابعاً : رسالة العلماء في التنمية عن طريق العدل..
استنهاض القيم الدينية والأخلاقية..
لهذه الأسباب تحتاج العدالة إلى استنهاض القيم الدينية لدى عامة الناس وخاصتهم.
فعامة الناس هم المتقاضون الذين يتظالمون إلى القضاء، ويجب أن يرفعوا إليه تظلماتهم دون تضخيم يزيد عن الحقيقة ولا مبالغة تربو عن الواقع.
وهؤلاء أيضا هم الذين يُسهمون في صنع العدالة عن طريق الشهادة بالحق أو بالزور.
وأما خاصة الناس في مجال العدالة فنذكر من بينهم القضاة الذين يصدرون الأحكام بين المتنازعين، فكلما قويت عقيدتهم وترسخت أخلاقهم، تمسكوا بالحق والعدل والتمسوا حدود الإنصاف.
ومن الخاصة كذلك الخُبراء الذين يعطون الرأي التقني والفني في مواضيع النزاع.
وكذلك العدول والموثقون الذين يوثقون عهود الناس وعقودهم والتزاماتهم.
والمحامون الذين يدافعون عنهم. فكلما تمسكوا بالدين وبالأخلاق الفاضلة، صدقوا في آرائهم وفي نصحهم لزبنائهم وموكليهم وفي شهادتهم على معاملات الناس.
وإذا كان العصر الحاضر يشهد صعوبات في إقامة العدل بين الفرقاء، فلأن الأمر يحتاج لاستنهاض مبادئ العقيدة والقيم الأخلاقية لدى الناس.
ومن حسن حظنا في بلادنا أننا مجتمع إسلامي مرجعيته كتاب الله وسنة سيد الخلق، يَرْجِعُ إليهما المغربي مهما نأت به ظروف الحياة ..
فنحن قوم نتمسك بأخلاق الإسلام، ونرجع إليها مهما غابت عن أذهاننا، ولكننا قد نحتاج لمن يذكرنا بها.
وقد تتكرر الحاجة إلى التذكير أمام مغريات الحياة اليوم وإزاء إكراهات العيش.
دور الوعاظ والدعاة في إحقاق العدل..
ومن حسن حظنا كذلك، أننا، في المملكة المغربية، نتوفر على مجلس علمي أعلى ومجالس علمية جهوية، وفي مدننا وقرانا علماء أجلاء وفقهاء أكارم وأئمة وخطباء وقيمون دينيون ووعاظ يدعون إلى هَدْي الله وسنَّة رسوله، ويبينون للناس سبل البر والإحسان.
وأنتم حضرات العلماء خير من يمثلهم.
ولذلك فإن إسهامهم في منع الظلم عن عباد الله يمكن أن يكون حاسماً عن طريق الممارسات الدعوية وفي مجالات التدريس وخطب الجمعة ودروس الوعظ والإرشاد، وعن طريق استعمال وسائل التواصل الاجتماعي والبرامج الدعوية والتآليف وغيرها من الوسائل التي يمتلكون مهاراتها سواءً في المحتوى أو في طريق النشر والتبليغ ومخاطبة ضمائر عامة الناس وخاصتهم، بشأن أحكام الشريعة المتعلقة بطرق التقاضي وآدابه وأخلاقه وشروطه وأركانه.
فيُخاطبون القضاة بما أَمَرَ بِهِ الله ورسوله، حتى يستنهضوا فيهم قيم العدل وخصال الإنصاف. وينهون عن الظلم والرشوة. ويذكرون بقول الله سبحانه وتعالى:
"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامِينَ لله، شهداءَ بالقِسط، ولا يجرمنَّكُم شنآنُ قومٍ على ألاَّ تعدلوا. اَعدِلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبيرٌ بما تعملون" (الآية 8 من سورة المائدة)؛
وبقوله تعالى في سورة البقرة (الآية 188) : "ولا تأْكلوا أموالكُم بينكم بالباطِل وتُدلُوا بها إلى الحكامِ لتأكُلوا فريقاً من أموالِ الناس بالإثم وأنتم تعلمون".
وبقوله سبحانه في سورة النساء (الآية 58)، : "إن الله يأمركُم أن تؤدُّوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكُمُوا بالعدل إن الله نِعمَّا يعظُكم به، إن الله كان سمعياً بصيراً".
ويمكنهم كذلك مخاطبة الخبراء والشهود ومحرري المحاضر وتذكيرهم بقوله تعالى في سورة الأنعام (الآية 152) : "وإذا قلتم فاعدلوا، ولو كان ذا قربى".
وبقوله جل جلاله في سورة الطلاق (الآية 2) : "وأقيموا الشهادة لله".
وفي الآية 135 من سورة النساء : "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامينَ بالقِسط شهداءَ للهِ ولو على أنفسكُم أو الوالدينِ والأقربينَ".
كما يمكنهم حتَّ الناس على عدم كتمان الشهادة مصداقاً لقوله تعالى في الآية 283 من سورة البقرة :"ولا تكتموا الشهادة. ومن يكتُمها فإنَّهُ آثمٌ قلبُه".
ويُوصون الناس بإقامة حججهم حتى إذا وقع نزاع استدلوا بها أمام المحاكم، تنفيذاً لقوله تعالى:
"وأشهدوا إذا تبايعتم. ولا يُضَارَّ كاتبٌ ولا شهيد" (البقرة 282).
ولعل بعض الناس قد ينسَاقُ لتذكير العلماء والواعظين له، بقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا، أوفوا بالعقود" (المائدة 1).
ولقوله سبحانه: "فإن أَمِنَ بعضكُم بعضاً فليؤدِّ الذي أؤتَمن أمانَتَهُ، وليتق الله ربه"(البقرة 283).
ففي مثل هذه الآيات، وما يماثلها من الذكر الحكيم وما يقابلها من السنة النبوية الشريفة ومن أثر العلماء وفقهاء الأمة من السلف الصالح، وكذلك ما ترسخ لدى المجتمعات الإسلامية من أخلاق إسلامية تتعلق بالمعاملات والعلاقات المجتمعية، تذكير للمسلمين بما يفرضه عليهم دينهم من قيم ومبادئ تحكم علاقتهم ومعاملاتهم.
ولذلك فإن التذكير بها من قبل العلماء والفقهاء والوعاظ والمرشدين والدعاة قد يُقَوِّم سلوك بعض الناس، فينعكس ذلك على موقفهم أمام القضاء إذا تقاضوا أو إذا دعوا للشهادة، أو إذا أنجزوا خبرات أو حرروا عقوداً أو دافعوا عن الناس أو حكموا بينهم.
وهو ما سيسهم لا محالة في إقامة العدل بين الناس.
وهكذا تلتقي رسالة العلماء مع رسالة القضاء في توفير الظروف المناسبة للتنمية البشرية عن طريق تحقيق الأمن في المجتمع وإقامة العدل بين الناس، فتسود السكينة في المجتمع وينصرف الناس إلى الإنتاج والمشاركة في الدورة الاقتصادية والحياة الاجتماعية ..
ولا شك أنها مراحل أساسية لتحقيق التنمية البشرية المستدامة، ساهم العلماء وفقهاء الأمة في تحقيقها. ومن أحيا نفساً واحدة، فقد أحيا الناس جميعاً.
دور الوعاظ والدعاة في الوقاية من الجريمة..
إن رسالة العلماء وهي رسالة الإصلاح، لا تقف عند حدود ذلك المثل البسيط للمنازعات القضائية، ولكنها تمتد لتنبيه الناس إلى مصادر الإجرام فتجتثها من منابعها، كما هو شأنهم في مناهضة الإرهاب والفكر التكفيري. وهو موضوع آخر يقض مضجع القضاء.
أو بالنسبة إلى لجرائم أخرى تمس بالنظام العام الأمني أو الاقتصادي أو الاجتماعي، مثل ترويج واستهلاك المخدرات، أو الاعتداء على صحة أو حياة الأشخاص أو أموالهم وممتلكاتهم.
وهي ظواهر إجرامية مرتبطة بالسلوك البشري، يمكن للدعوة أن تساهم في التقليص من انتشارها عن طريق التذكير بتعاليم الدين الحنيف، والأخلاق الإسلامية الحسنة.
كما أن رسالة العلماء قادرة على تحسين استعمال الناس لوسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت مليئة بالمناكر والكذب والزور والبهتان والتشهير بالناس والمس بأعراضهم ونشر الفواحش والمساس بمقدسات البلد وقِيَّمِه الفضلى.
ويستعصي عن الدولة أن تُطَهِّر هذا المشهد بالقانون وحده، سيما في الوقت الحالي الذي لا تتحكم فيه الدول في البرمجيات التي يتم عبرها نشر تلك المفاسد لأن مفاتيحها بيد قوى خارجية.
ونعتقد أن الدعوة والتبليغ بأخلاق الإسلام، قد تجعل بعض صناع المحتوى يراجعون ما ينشرون، في اتجاه تحري الصدق، وتجنب القذف والسب والمساس بالأعراض، أو التشجيع على المساس بأمن الناس وسكينتهم.
أو على الأقل تجعل بعض الذين تصلهم هذه الدعوة يكف عن تشجيع المواقع الهدامة، وذلك بالامتناع عن الاطلاع عليها، حتى لا تجد مورداً مالياً بسبب عدد زيارات الموقع، أو الاشتراكات فيه.
ذلك أن هذه الظاهرة الخطيرة قد تقوت اليوم في المجتمعات، ونالت اهتمام العديد من الناس الذين أصبحوا يتابعون التفاهة دون وعي بكونهم يشجعون اتجاهات تهدم الأخلاق والعقيدة، وتغير من حال المجتمعات نحو الأسوأ.
وأعتقد أن القانون غير قادر وحده على الحد من معاول الهدم هذه. وأن الحاجة إلى الدعوة والتبليغ ملحة وضرورية.
فإذا كانت إقامة العدل من مهام الدولة، وتحتاج لقوة السلطان، فإنها بحاجة كذلك للتوعية الدينية والخلقية، لأن قول العلماء يخاطب الضمائر والقلوب وقد يصيب وطره بوازع التقوى والإيمان وخشية الله.
وقد قال تعالى لموسى وهارون : "اذهبا إلى فرعون إنه طغى. فقُولاَ لَهُ قولاً ليِّناً لَعَلَّهُ يتذكرُ أو يخشى" (طه الآيتان 43 و44).
صدق الله العظيم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.