بعدما ملك فيلم "تينغير جيروزاليم..أصداء الملاح"، لمخرجه كمال هشكار، الدنيا وشغل الناس حين عرض على القناة الثانية، أعاد إعلان المركز السينمائي المغربي برمجته للعرض في الدورة الرابعة عشرة للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة، الجدل مجددا إلى الواجهة. مع انبراء بعض الجهات المحافظة للمطالبة بمنعه، قطعا للطريق على التطبيع، وانسجاما مع موقف السواد الأعظم للمغاربة، المتعاطفين مع القضية الفلسطينية، الأمر الذي جعل المنافحين عن الفيلم يدقون ناقوس خطر حظر يحدق بالفن والإبداع بالمغرب زمنَ الإسلاميين، وإن كان هناك طرف ثالث يستغرب موقف نواب العدالة والتنمية، بحكم وقوع المركز الذي برمج الفيلم تحت جناح وزير الاتصال. هسبريس اتصلت بعدة أطرف كي تتبين أمر دعوات منع الفيلم، بين مخرجه كمال هشكار الذي أعرب عن أمله في أن يفتح المغاربة صفحة اليهود إنصافا للماضي، داعيا الحكومة إلى الانكباب على الملفات الاجتماعية المستعجلة عوض الانشغال بالصراع الفلسيطيني الإسرائيلي، وكذا نبيل لحلو الذي أكد أن الفيلم لا يستحق الضجة التي أثيرت حوله، وإن أبدى رفضه لمسألة المنع التي تضرر منها. بينما رأى الأمين الجهوي لحزب الأصالة والمعاصرة، أن دعوات البيجيدي مفرغة من معناها ما دام المركز تابعا لقطاع يمسكون بحقيبته. هشكار: الداعون إلى منع الفيلم قاموا بدعاية مجانية له يؤكد كمال هشكار لهسبريس، أن الجدل حول الفيلم احتدمَ لحظةَ عرضه على القناة الثانية، قبل أن تسعى بعض الجهات إلى منع عرضه في مهرجان طنجة، ذاهبا إلى أن من الفضيحة السعي إلى منع عمل فني، لما في ذلك من مساس بحرية الابداع والفن، التي يسعى بعض السياسيين إلى تقييدها ومحاصرتها. وزاد هشكار أن لا شيء يسوغ انبراء نواب حزب العدالة والتنمية، لرفض فيلم ينهل من تاريخ المغرب الذي كان اليهود حاضرين فيه عل الدوام، قائلا إن الفيلم عرض على القناة الثانية، ولأزيد من عشرين مرة بالقاعات السينمائية في المغرب، وقد نال إعجاب المغاربة الذين أثنوا على تسلطيه الضوء على مرحلة ظلت محاصرة من قبل جهات تسعى إلى طمس الطابع التعددي للهوية المغربية، إذ لم يسبق للمغاربة أن درسوا تلك الفترة بالمدرسة في المقررات والمناهج الرسمية. هشكار قال إن من يوجهون انتقادات لاذعة إلى الفيلم اليوم، ويتهمونه بالتطبيع لم يشاهدوه أصلا، لأن الفيلم لا يتحدث عن التطبيع مع إسرائيل، وإنما يسلط الضوء على عيش اليهود بمنطقة تنغير، حيث لا زال المسلمون يحكون عن جيرانهم اليهود بنوع من الحنين، وعليه فإن لا مجال لإنكار حقائق تاريخية، أنصفها الدستور الجديد بإقرار الطابع التعددي للهوية المغربية، غير القابلة للاختزال. ومن ثمة لا يوجد أي داعٍ لممارسة الرقابة على الفيلم والدعوة إلى منعه. من قبل فئة قليلة من الإسلاميين، الذين يودون إنكار الحقائق التاريخية للمغرب، ويضيقون ذرعا بحرية الابداع. بالرغم من يقينه بأن نواب العدالة والتنمية ليسوا جميعا ذوي موقف واحد من الفيلم. وأردف المتحدث ذاته، أن الضجة التي أثيرت حول الفيلم لم تزعجه على الإطلاق، فالمهم بالنسبة إليه هو الإقبال الكبير الذي لقيه في كثير من مدن المملكة والمعهد الفرنسي، والنجاح الذي حققه عند العرض على القناة الثانية، أما المنتقدون للفيلم فيقومون بدعاية مجانية له لا أكثر، معربا عن أمله في أن يفتح الفيلم المجال أمام نقاش عميق يفضي إلى فتح تلك الصفحة المغلقة من تاريخ المغرب، انسجاما مع التعددية التي أقرها المغرب في دستوره الجديد. وعلى صعيد آخر قال المخرج إنه يأمل أن تلعب السينما اليوم بالمغرب دورها في معالجة التاريخ، في متحها من الأدب، حيث أكد أن كتاب "ألف عام ويوم" لإدمون عمران المالح كان ملهما له، وذلك لمقاربة سبب إطباق الصمت حول مغادرة اليهود للمغرب، وعدم معرفة الشباب اليوم في مختلف الأسلاك التعليمية بتفاصيل تلك الحقبة المهمة. واستغرب هشكار كيف أن بعض من لم يشاهدوا الفيلم يسعون الى التضييق على من يريدون مشاهدته، فالفنانون أحرار وليس هناك ما يسمى بالفن النظيف كما يسوق البعض، ولا حرج من اقتحام المواضيع جميعها دون خشية أي شيء، فسحا للمجال أمام النقاش الحر وإيذانا للمغرب بشق طريقه صوب الحداثة والتقدم. وبشأن اتهامه بالتطبيع مع إسرائيل والسعي إلى تلميع صورتها، قال المخرج إن هناك الكثير من المغالطات، سيما فيما يتعلق بالتمويل الذي قال البعض إنه إسرائيلي، في حين أنه إنتاجه مشترك بين المغرب وإسبانيا وفرنسا. وإن كان هشكار قد ذهب إلى إسرائيل فذلك من أجل التصوير حيث يوجد العديد من المغاربة، الذين يحتفظون لبلدهم الأم بحب كبير، كما أنه زار رام الله التي التقى بها أصدقاء فلسطينيين، الأمر الذي يدعو إلى الكف عن توظيف الأمور السياسية في السينما، فهو يدين الاحتلال الإسرائيلي، وفق قوله، ويدين جدار الفصل العنصري، ويؤيد إقامة دولة فلسطينية. وختم هشكار كلامه بالقول إن هناك من يوظف معاناة الإنسان الفلسطيني لأجل مآرب سياسية، مؤكدا أنه من الأحرى بالحكومة التركيز على مشاكل المغرب، بصحته وتعليمه وبنيته التحتية، سيما وأن ناشطين جمعويين أصبحوا ينظمون مؤخرا قافلات تضامن مع ساكنة الأطلس، لأنها مشاكل تقع بالقرب من الحكومة لا على بعد آلاف الكيلومترات، فتلك هي المشاكل الحقيقية للمغرب لا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لحلو: فيلم "تنغير جيروزاليم" لا يستحق الضجة التي أثيرت حوله المخرج المغربي نبيل لحلو، أكد أنه يعارض بصفته فنانا، منع أي عمل كيفما كان لأنه سبق أن كان ضحية له في اشتغاله داخل المسرح، بالرغم من أن فيلم هشكار لا يهمه شخصيا وفق قوله، مؤكدا استغرابه الإقدام على برمجته على دوزيم في وقت سابق. وتساءل لحلو عن أهداف برمجته في مهرجان طنجة التي تبقى دون معنى، لأن سؤالا يطرح حول القيمة المضافة التي من شأن الفيلم أن يحملها إلى المغاربة، لانه شريط لا يستحق أن تقام حوله الضجة المثارة، كما أنه ليس مؤهلا للعرض في المهرجان. وعما إذا كانت دعوات المنع التي تطلق اليوم تنطلق من مفهوم الفن النظيف، أكد لحلو أنه ليس هناك فن نظيف، وإنما يجب أن يكون هناك "فن معفن"؛ يجعل المشاهد يستيقظ من نومه بخلاف الفن النظيف الذي يجعله يستمر في سباته، وذلك لا يعني إدخال الكلمات البذيئة والسوقية، وإنما الامتثال لقواعد الفن الراسخة، لأن مفهوم الفن النظيف لا يعني شيئاً. وبخصوص لخشية من حصول ارتداد في مجال حرية الإبداع في ظل تزعم البيجيدي للحكومة الحالية، قال لحلو إن لا مسوغ لإقحام الدين في هذا المجال، مذكرا بأنه سبق وأن اقترح على وزير للأوقاف تخصيص أماكن بالمساجد للثقافة، حتى يتأتى للناس أن يثقفوا أنفسهم بأفلام جميلة راقية. البري: البيجيديون مسؤلون عن برمجة الفيلم يوم 28 يناير، أيْ قبل ثلاثة أيام من انطلاق فعاليات المهرجان الوطني للفيلم بمدينة طنجة، أصدرت الكتابة الإقليمية لحزب العدالة والتنمية بمدينة البوغاز بيانا مُوقّعا باسم النائب البرلماني، والكاتب الإقليمي للحزب، محمد خيي، جاء في مستهلّه، أنّ الكتابة الإقليمية للحزب "تلقت باستهجان شديد ما تداولته وسائل الإعلام من عزم المركز السينمائي المغربي عرض الفيلم التطبيعي "تنغير جيروزاليم" ضمن الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية للدورة 14 من المهرجان الوطني للفيلم الذي سينظم بطنجة مطلع شهر فبراير المقبل". ما جاء في بيان الكتابة الإقليمية لحزب العدالة والتنمية، الذي يقود الحكومة، "لا معنى له"، حسب الأمين الجهوي لحزب الأصالة والمعاصرة بطنجة، عبد المنعم البري؛ لكون المركز السينمائي المغربي، المسؤول عن برمجة الأفلام المعروضة في مهرجان طنجة، حسب قول البري، تابع لوزارة الاتصال، التي يتولاها حزب العدالة والتنمية، لذلك كان من الممكن ألا يُدرج فيلم "تنغير جيروزاليم"، منذ البداية، ضمن قائمة الأفلام المُدرجة في مسابقة المهرجان، وينتهي الأمر عند هذا الحدّ، "بل كان من الممكن أن يتم منعه حتى قبل تصويره، عوض الانتظار حتى يُصور ويعرض، ويأتي الحزب لاستغلال تلك العلامة التجارية للفيلم من أجل مصالح شخصية"، يقول البري. وتساءل الأمين الجهوي لحزب الأصالة والمعاصرة قائلا: "وزير الاتصال بلا شك كان على علم مسبق بأن الفيلم مدرج ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة، ومن المؤكد أن باقي مكونات الحزب ستكون على علم بذلك، فلماذا انتظروا حتى اقترب موعد انعقاد المهرجان، الذي تتوجه إليه أنظار المتتبّعين، ليخرجوا هذه الورقة، ويقولوا بأن الفيلم يجب أن يُمنع من العرض؟" موقف الكتابة الإقليمية لحزب العدالة والتنمية يفسّره عبد المنعم البري على أنه يندرج في إطار سياسة الحزب التي تعتمد على اللعب على جبهتين، جبهة المعارضة وجبهة الحكم، مضيفا أن النقاش حول فيلم "تنغير جيروزاليم" يجب أن ينحصر في قيمته الإبداعية والجمالية، ومناقشة مضمونه من وجهة نظر نقدية، عوض التعاطي معه بمنطق الوصاية على الشعب المغربي، وهو الأسلوب الذي وصفه بالأسلوب البوليسي، واللجوء إلى تجييش الشارع. النقطة التي ركّز عليها بيان الكتابة الإقليمية لحزب العدالة والتنمية هي أن فيلم "تنغير جيرزاليم"، يعتبر شكلا من أشكال التطبيع مع إسرائيل، حيث جاء في البيان: "إن النشاط المذكور يأتي في سياق مضاد ومناقض لسياسات والتزامات المغرب الرسمية والشعبية؛ إن عرض الشريط المشبوه هو جريمة في حق ساكنة مدينة طنجة التي يتنفس أبناؤها المقاومة، ويرفضون التطبيع والمطبعين، وهو أيضا خيانة لنضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال؛ تطالب الكتابة الإقليمية المركز السينمائي المغربي بسحب عرض هذا الفيلم؛ تدعو كافة المناضلين الشرفاء والغيورين بمدينة طنجة للتعبئة والاحتجاج ضدا على هذا العرض المشبوه وكل مبادرات ومحاولات التطبيع مع الكيان الغاشم". عبد المنعم البري يرى أنّ ما جاء في بيان الكتابة الإقليمية لحزب العدالة والتنمية بطنجة يدخل في إطار استغلال القضية الفلسطينية من أجل دغدغة عواطف المواطنين، من خلال "المتاجرة بالقضية الفلسطينية"، لاعتبار أن القضية الفلسطينية تعتبر قضية وطنية لدى المغاربة، مضيفا أنّ هناك جهات أخرى تقف ضدّ التطبيع مع إسرائيل، لكنّ الفرق بينها وبينها حزب العدالة والتنمية هو أنّ هذا الأخير "يتقن جيدا المتاجرة بالقضية الفلسطينية، التي يعتبرها ورقة رابحة من أجل التأثير على الرأي العام، وذلك من خلال تقديم الحزب على أنه الحزب الوحيد الذي له غيرة على القضية الفلسطينية". وفي سياق التطبيع مع إسرائيل دائما، قال الأمين الجهوي لحزب الأصالة والمعاصرة، إنّ التطبيع مع إسرائيل موجود على عدة مستويات، متسائلا: "لماذا لا يمنع حزب العدالة والتنمية المبادلات التجارية القائمة بين المغرب وإسرائيل، ولماذا تغزو التمور الإسرائيلية السوق المغربية دون أن يحتجوا على ذلك، ملمّحا إلى أن مثل هذه المواقف قد يكون الهدف من ورائها هو التغطية على بعض أخطاء الحزب، من قبيل استضافة الإسرائيلي برونشتاين في المؤتمر الأخير للحزب. ويرى أنّ التبريرات التي قد يتم إعطاؤها، من قبيل عدم قدرة الحكومة على السيطرة على بعض المؤسسات العموية، مثل المركز السينمائي المغربي، تبريرات غير مقبولة، في ظل الدستور الجديد، الذي يخول لرئيس الحكومة عددا من الصلاحيات، إذ لم يعد هناك مبرر لكي يقولوا إنهم غير قادرين على التحكم، وأن هناك قطاعات لا يستطيعون السيطرة عليها؛ مشيرا إلى أن "هناك تناقضات في تصرفات ومواقف حزب العدالة والتنمية، والدعوة إلى عدم عرض فيلم "تنغير جيروزاليم" ليس سوى جزء من هذه التجليات، فهم يمارسون دوما هذه الثنائية، هم في الحكم وفي نفس الآن في المعارضة، ويرتدون جبّة الدين وجبّة السياسة، ولم يعد هناك مبرر من القول إن هناك مؤسسات منفلتة من سيطرة الحكومة في ظل الدستور الجديد.