إدارة مباشرة في مواجهة إدارة عميقة: كما تفعل السيول بالشوارع المفتقرة الى قنوات للصرف؛ مخلصة في تطهير وجه المدينة' كنتيجة لإخلاص متعهديها ،على مدار الفصول؛ تفعل مناسبات الذروة بإدارتنا المغربية.ولكل إدارة،من إداراتنا مواسم تفضح تخلفها عن مستجدات التدبير الحديث. ليس في نيتي أن أثقل على القارئ بموضوع أكاديمي في القانون الإداري؛فلن يفيد هذا في إصلاح إدارتنا لأن القانون ليس هو ما يعوزنا. أريد فقط أن أجعل كل واحد منا يستعيد ذكرياته مع هذه الإدارة العصية عن الإصلاح، والتي غدت وجها كئيبا للدولة المغربية التي تتوق إدارتها العميقة إلى النهضة الشاملة . هذا الوجه الكئيب – مقارنا بالوجه البشوش للخطاب الإداري ،النظري، الرسمي- يؤسس لسؤال قد يبدو غريبا: ما الذي يتحكم في الإدارة المباشرة ،إذا لم تكن خاضعة لخطاب الإدارة العميقة ؟ أقصد بالإدارة المباشرة تلك الجبهة المتقدمة من الدولة التي تتواجه مباشرة مع المواطن في حياته اليومية،بهذه الصفة، التي تلزمه بواجبات وتخول له حقوقا. أما الإدارة العميقة فهي نبض،أو عقل، الدولة العميقة القائمة على السلط الثلاث المعروفة. لا خلاف حول جدية اشتغال الخطاب الإداري الإصلاحي على هذا المستوى الذي أنعته بالعميق ؛وصولا حتى إلى محاولات تجريبية لإرساء الحكومة الرقمية. طبعا يتأسس هذا التوجه على الاقتناع الذاتي بأن الإدارة الفعالة هي قاطرة التنمية.ويتأسس أيضا على أنه لا مناص-موضوعيا- للتواصل مع المحيط الدولي ، اقتصاديا وتنمويا ،من اعتماد إدارة مباشرة،في مستواه، حاملة للتوجهات الإستراتيجية التدبيرية للدولة. إذن من أين هذه الانقطاعات المزمنة للتيار بين الإدارة العميقة والإدارة المباشرة؟ قبل تقديم مشاريع إجابات ،يمكن أن يثريها القراء الأعزاء؛لأن كل مغربي- ومن شدة التمرس- يمكن اعتباره متخصصا حينما يثار موضوع تخلف الإدارة ؛يعرف مثالبها كما يعرف أبناءه وذويه. بل أكاد أجزم أنه لو استفتي المغاربة في أمر شعار رابع يضاف إلى ثلاثيتنا المشهورة:الله ، الوطن، الملك؛لأجمعوا على ما يغطي معنى الإدارة القريبة الفعالة.إن ارتباطنا اليومي بالإدارة المباشرة لا يقل عن ارتباطنا بالوطن أرضا ،وبالملكية نظاما .ويسمو ارتباطنا العقدي بالله عن هذه المقارنة. قبل مشاريع الإجابات لا بد من الوقوف على أمثلة من واقع احتكاك المواطن اليومي مع تخلف الإدارة: المثال الأول: هذه الطوابير الملفتة للانتباه أمام مكاتب تحصيل الضرائب المختلفة.لقد وقفت فيها مرارا ،ومن أروع ما سمعت فيها أن الوقوف في الصفوف المتدافعة ،والانقطاع عن المشاغل الأخرى لساعات طوال،من مقومات" تامغربيت". فهل سنحشر ،أيضا،ونبعث قوما متزاحمين متدافعين؟ إن المواطن ،في زحام أداء الضرائب، يعيش مفارقات غريبة: فهو يكد من أجل إثبات مواطنته الصالحة، من خلال أداء ما في ذمته للدولة،وهو منها؛ لكن الطرف القابض لا يجتهد من أجل تيسير أداء هذا الواجب.(الإدارة المباشرة في مواجهة المواطنة الصالحة) . المفروض في دولة يشكل فيها الدخل الضريبي رافعة أساسية لقانونها المالي، أن توفر البنية التحتية اللازمة ،والموارد البشرية الكافية لتسهيل الأداء ؛إن لم أقل كل الإغراء اللازم للمواطن حتى يمارس مواطنته الضريبية . خطاب الإدارة العميقة يسير في هذا الاتجاه بكيفية صريحة وضمنية. فحينما يعرض رئيس الحكومة قانون المالية أمام نواب الأمة ينصرف النقاش ،مباشرة إلى المضامين وليس الشكل ،ومنه تحصيل المبالغ المسطرة للضرائب ؛باعتبار أن بنيات التحصيل الفعال قائمة ؛فهذا من تحصيل الحاصل. لكن الواقع المشاهد يفرض أن ينصرف النقاش،أيضا، إلى أساليب التحصيل التي يجب أن تتطور بتطور ونمو المجتمع. في مدينة كالقنيطرة،مثلا،حيث تشغل الإدارة الجهوية للضرائب عمارة حديثة كاملة ،وربما بطوابق فارغة،فائضة عن الحاجة، لم تخصص لأداء الضرائب غير إدارة منفصلة، صغيرة جدا ؛ظلت على حالتها منذ عشرات السنين.ورغم البلاء الحسن لموظفيها ,وهم قلة، فان المواطن ينكل بكرامته ووقته وصحته وهو يقف في طوابيرها هذه الأيام. (مرة أخرى إدارة مباشرة في مواجهة إدارة عميقة). وحيثما تمضي في مغربنا الفسيح، في هذه الأيام بالخصوص،تتكرر نفس المشاهد. ان الاجتهادات التي أفضت إلى إمكانية الأداء بالتحويل المالي ,أو الأداء الالكتروني مهمة، لكن الشريحة الواسعة من المواطنين غير مغطاة بالاجتهاديين معا. كما أن المسؤولين بالإدارة العميقة، الذين ينتظر منهم تفعيل تنظيراتهم وقراراتهم التدبيرية لا يعانون ما يعانيه المواطنون البسطاء ؛لوجود خدمات تفضيلية تخصهم. المثال الثاني: الامتحان الثاني لرخصة السياقة انه فعلا امتحان آخر اُكره عليه الحاصلون على رخص السياقة؛وهي رخص تتضمن- تنصيصا- كونها دائمة. امتحان آخر مدجج بمصاريف رسمية وغير رسمية ،وبضرائب لا أقسى منها غير قسوة الوقوق في الطوابير من أجل أدائها ؛خصوصا في هذه الأيام. وحينما تنهي مشوار الأداء يبدأ مشوار التصوير الرقمي .وهل انتهيت؟ لا ؛يبقى لك أن تنتظر هذه الرخصة البيومترية الشهور ذوات العدد.تقبل أنت وتحجم الإدارة..تلتزم بالموعد وتتخلف الإدارة.. حينما ترجع إلى مدونة السير ,وهي المرجعية في كل ما يقع،تجدها ،وهي تسن تشريعا جديد للرخص تتحدث لغة سلسة لا" زحام فيها ". وكأن المواطن ما أن يقف في الشباك الواحد حتى تتوالى حلقات الانجاز بكيفية آلية. كم تمنيت وأنا أخضع لهذا التمرين الصعب على الصبر ،أنا الذي صبرت وصبرت حتى تقاعدت،لو أن وزير التجهيز السابق لم يُمَكن من رخصته الجديدة بكيفية تدشينية استعراضية ؛ومسؤولو وزارته يهشون ويبشون في وجهه .تمنيت لو جرب كل حلقات الزحام التي يكتوي بها المواطنون اليوم؛خصوصا المسنون. لو حصل هذا لعدَّل وعدل من هذه الإجراءات التي لا تحسن سياقة الإدارة الفعالة؛حتى ينتهي إلى :تُؤجل العملية إلى أن تتوفر بنيات الاستقبال والتجهيزات الكافية . المثال الثالث: البطاقة البيومترية رغم عناء الاستبدال ومصاريفه ،حمد المواطنون مرسوم الوزير الأول القاضي باعتبارها بطاقة تحل محل :شهادة الحياة،شهادة السكنى,شهادة الجنسية،عقد الازدياد. المرسوم واضح ،وقد وجه الى كل الإدارات المعنية بهذه الوثائق. رغم هذا تأبى الإدارة المباشرة إلا أن تتمرد على الإدارة العميقة . اختارت أن تلقي بالمرسوم عرض الحائط ،حتى تحتفظ بالزبون المتعدد الاستعمالات. اذهب أنت وبطاقتك وقاتلا في نفس الجبهات القديمة. لا وثيقة،في المغرب، تنوب عن أخرى ولو صدقت. المثال الرابع: الإدارة الأسبوعية يعرفها القرويون حق المعرفة ؛والقلة منهم فقط من يستنكرها باعتبارها خارجة عن القانون ،أو خارقة له. يتعلق الأمر بالإدارة في الجماعات القروية ؛وهي إدارة لا يلتئم شملها، كاملا ،إلا أيام السوق. ما عدا هذا اليوم الذي يجمع فيه المواطنون بين التسوق وقضاء المآرب الإدارية,خصوصا وهو يوم ضمان حضور الرئيس والمستشارين الجماعيين ؛فان باقي الأيام يسرح فيها الموظفون على هواهم ؛بل في بعض الجماعات يمارسون حرفا أخرى تكمل دخلهم الضعيف. هذا واقع ,ومألوف إلى درجة القبول به حتى من طرف بعض الرؤساء ومسؤولي الإدارة الترابية. إذا صادف أن حضرت الى هذه الإدارات القروية ,خارج زمن التسوق،فكن على يقين أنك ستكون وحدك من لا يراعي حرمة الفراغ. الفراغ في هذه الإدارات القروية أصل والعمل استثناء. سؤال :من المسؤول ؟ يستدعي نقاشا عميقا ينصب على:تمرد الإدارة القروية على الإدارة العميقة،ضعف الدخل الشهري لأغلب موظفيها(الحد الأدنى للأجور)،تردد المواطنين على الإدارة يوم السوق غالبا،قبول المسؤولين بالوضع حتى تكرس عرفا إن لم نقل قانونا. خدمات انتخابية يساهم بها الموظفون ،وهي تستوجب غض الطرف ؛وهذا الغض هو بمثابة ادخار الدرهم الأبيض لليوم الأسود. كيف نؤسس لإصلاح الإدارة المباشرة؟ 1.سيظل الدرس القانوني الأكاديمي ،في الجامعة ،كما معاهد التكوين التدبيري,مجرد تنظير مترف إن لم يخالط واقع الإدارة المباشرة ؛محللا ومجترحا لأمثلة وحالات ينصب عليها الدرس وتقترح لها حلول توجه للمسؤولين عن الإصلاح. 2.ان المبدأ الدستوري القاضي ب'ربط المسؤولية بالمحاسبة" سيظل قاصرا مالم يصحح ،نصا وتنفيذا،كالآتي: "الإعداد لتحمل المسؤولية ،وربطها بالمحاسبة". لا يبدو أن هذا المبدأ غير شيئا في التدبير المباشر لقضايا المواطنين لأن أغلبية الموظفين لا علم لهم به ؛أو بحدة أنيابه لأنها لم تعض أحدا بعد.. 3.إن معيار الأقدمية في إسناد رئاسة المصالح والأقسام والمديريات يسير عكس القول بالتحديث والإبداع في الأداء.إن طاقة الموظف تتآكل مع السنين ،وينتهي أداؤه إلى وضع قار لا ينتظر منه غير النقصان. كيف سيكون قاطرة للإصلاح ،وفق معايير حداثية تتطلب مؤهلات خاصة وطاقة شابة؟ إن المكافأة على الأقدمية والوفاء للمنصب يمكن أن تتم بأساليب أخرى . قيادة التغيير تجب أن تسند لمن يؤمن به ،ويبز اقرانه في التباري،ولو كان حديث العهد بالوظيفة. 4.ان أجهزة التفتيش ,في جميع القطاعات, بمثابة القضاء ؛يجب أن تضمن لها الاستقلالية.لا تنتظروا من هذه الأجهزة ،وهي واقعة تحت مسؤوليات رؤساء إداريين، أن تكون محايدة وصادقة ،وهي تنجز تقارير عن سير العمل بإدارات خاضعة لهؤلاء الرؤساء.(فيك الخصام وأنت الخصم والحكم). ان التفكير في إحداث مجلس أعلى للتدبير الإداري يغطي بأجهزته التفتيشية كل الإدارات,وتكون له صلاحية الربط الفعلي بين المسؤولية والمحاسبة ,وصولا الى المقاضاة كفيل بتصحيح الاختلالات التي لا تتجرأ أجهزة التفتيش الحالية على كشفها؛حتى لا تظل داء ينخر إدارتنا. 5.لا معنى لسياسة القرب إن لم تتحول الى نضال للقرب.نضال يخرج رؤساء الإدارة العميقة من المركز الى المحيط الإداري لمساءلته،وهو يمارس مواجهته اليومية مع المواطن. ان المسؤول الذي لا يغادر مكتبه،الى الميدان، يتحول إلى مجرد أثاث من أثاث الإدارة. هذه مقدمات مركزة لإجابات يعرف كل واحد منا بحكم "تامغربيت" كيف يثريها. [email protected]