"أنا لا ألوم الذين لا يعملون، ولكنني ألوم الذين يحز في أنفسهم أن يعمل الآخرون" تشي غيفارا تفتح اللحظة التاريخية اليوم شهية كبرى للجدل، البعض يقيم طقسا جنائزيا لنهاية السياسة، وبرغم زخم الأفكار المعروضة والقوة الاقتراحية التي تمثلها بعض الآراء المطروحة في الشارع العام، فإنه لابد من الوقوف عند مقاييس نهاية السياسة بالمغرب، هل نحن نعيش لحظة انقراض فصيلة من السياسيين، أم أننا نعيش نهاية السياسة؟ الحق أقول لكم إننا نعيش اليوم نهاية نوع من السياسة، السياسة كما زكتها الممارسة التقليدية، سياسة مانوية تضع التقابل بين التقدمي والرجعي وتصنع التضاد بين الحداثي والتقليدي، وتُقنع أتباعها بأن الصراع السياسي هو بين ملائكة وشياطين، بالأمس كان العدو واضحا: نظام مخزني استبدادي وقوى مجتمعية داعمة لمطامح شرائح عريضة من الشعب، لذلك كان المغرب مبني على سياسة الجُب، كل طرف يريد أن يلقي بالآخر في الجب ويتهم الذئب. بالأمس كانت المرجعية الاستشهادية كفيلة بأن تجعل زعيما حزبيا يسيطر على الأتباع الذين كانوا مستعدين لأن يهبوا أرواحهم لمحرقة الزعيم، الذي حين يهب لخطبتهم، يستحوذ على عقولهم، يضعها في جيبه ويطوف بهم عبر جغرافيا التاريخ، مشدوهين، منبهرين للأسرار الدفينة التي يمتلكها الأب.. كان ذلك أمراً طبيعيا، فكما قال ميشيل فوكو: "في الوقت الذي كانت تظهر فيه الأشياء على حقيقتها، كان المثقف يقول الحق لأولئك الذين لا يرونه بعد وباسم أولئك الذين لا يستطيعون القول كوعي وكبلاغة". اليوم الواقع تغير وأصبح أكثر تعقيدا، لكن ذلك لا يعني نهاية السياسة.. فمع الموجة التي جاءت بزعماء جدد للحكم أو للتربع على عرش أحزاب سياسية وازنة، أخذت النخب المدينية ترى في ذلك نوعا من هجمة العوام والبدو على مراكز المسؤولية، لذلك أعلن بعضهم نهاية السياسة على طريقتهم وأقاموا لها طقوسا جنائزية.. لنغير زاوية النظر، إن اللحظة التاريخية الحالية برغم سمة التيه التي تخترقها، تعتبر إيجابية... لم تنته السياسة بل حدث نوع من الإبدال في التعاطي معها لدى جيل جديد، لم تستطع النخبة المتحصنة وراء قناعاتها الكسولة، تغيير تعاطيها مع واقع متحرك، ولم تنج حتى الأحزاب الأصولية من الدعوة إلى إعادة الاعتبار للسياسة كما دشنتها الحركة الوطنية وامتداداتها، إنه منظور سلفي جديد، إذ لكل سلفه الصالح.. في حين أن ما يحتاج إليه جيل اليوم هو تحويل السياسة من مجال الدوغما إلى فعل منتج في المجتمع، فمطالب المغاربة اليوم أصبحت ترتبط بحاجات ملحة، لقد ملوا من تربية الأمل.. ولم يعودوا قادرين على اليأس أكثر مما يئسوا، والمواطنون أصبحوا يتعلمون الحديث عن مشاكلهم بأنفسهم، إنهم يقولون الكلام الذي ظل محتبسا في حناجرهم، وهنا عمل النخبة الحداثية، وهو مساعدة الناس على تأسيس بلاغتهم الخاصة، إن انهيار المرجعية الاستشهادية له جانب جد إيجابي على العمل السياسي ويتمثل في تنسيب الحقيقة، وتأسيس اختلاف سعيد لا اختلاف متوحش، يجعل من يأتي إلى السلطة يَجُبُّ من وما قبله.. إن تحويل السياسة إلى فعل منتج في المجتمع، يعني إحساس الشعب بمشاركته في تسيير الشأن العام، واقتسامه فوائد التنمية لا أعباءها فقط. فالمؤسف هو أن النخبة الحالية، بمن فيها الإسلاميون المشاركون في الحكم، لا زالت تتعاطى مع مقاييس ازدهار أسهم السياسة في بورصة القيم التقليدية من خلال المشاركة في الانتخابات، الحضور للأنشطة الثقافية والسياسية، الانخراط في الحركات السياسية والنقابية، والحق أقول لكم إن المغاربة لم يكونوا متسيسين أكثر مما هم عليه الآن، لكن علينا أن نفهم سياقات التحول مع جيل الأنترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي، جيل أذواقه وحاجياته تختلف عنا.. وهنا دور النخبة التي استكانت إلى كسلها، ولم تعد قادرة لا على الإبداع ولا على المبادرة، ولم تعد خطاباتها قادرة على إنتاج معرفة تملك كفاية موضوعية لتفسير ما يحدث بيننا. وبيني وبينكم فإن نهاية فصيلة من النخبة بالمغرب، لا تعني موت السياسة، ومن له أذنان للسمع فليسمع وليتأمل الإشارات والرموز التي تعبرنا يوميا من جيل يبدع، ولو ببساطة أشكالا جديدة لمواجهة عالم غامض أو يبدو فاقداً للمعنى.