قضى الزميل بيدرو كناليس، سنوات عديدة في المغرب، مراسلا لعدة وسائل إعلام اسبانية، منها جريدة "لاراثون" التي أدركه التقاعد فيها منذ مدة قصيرة، غير أنه لم يضع القلم جانبا، بل التحق بكوكبة مهنية مصطفاة بعناية، أحدثت الموقع الالكتروني غني عن القول، أن الزميل "كناليس" يعتبر واحدا من الصحافيين الأجانب القلائل، الذين يعرفون الكثير عن تعقيدات الوضع المغربي، من مختلف الزوايا، سيما المرتبطة بالمشهد السياسي، وأهم الشخصيات الفاعلة فيه. في الحوار التالي الذي أجريناه معه، يتحدث عن تعقيدات المشهد المذكور، ويُعدد من زاوية نظره، الأخطاء الكبرى، التي ارتكبها محمد السادس، في تدبير العديد من ملفات الشأن العام، منها حقوق الإنسان، والورش الاقتصادي، وقضية الصحراء، والعلاقات الخارجية .. إلخ، والوضع الاجتماعي "الحابل بالعديد من المخاطر" فيما يلي نص حوارنا معه:
س: يعيش المشهد السياسي المغربي، على إيقاع تساؤلات ما إذا كان الملك محمد السادس بصدد إعداد صديقه لتولي منصب الوزير الأول، أو إنشاء حزب يدخل غمار الانتخابات الجماعية المقبلة، هل ترى في ذلك شيئا جيدا بالنسبة للمغرب؟ ج: أظن أن التساؤل عما إذا كان هذا الأمر جيدا أم لا؟ فيه بعض الالتباس، وعلى كل حال فإنني أرى من جانب، أن ذلك سيكون إيجابيا لمسار التنمية بالمغرب، غير أنه سيكون عطبا من منظور دعم المسلسل الديمقراطي المُتحدث عنه في المغرب. س: ماذا تقصد بالعطب؟ ج: أقصد بذلك أن شخص الهمة كان إطارا مُهمّا في وزارة الداخلية، بمعنى أنه ليس شخصية سياسية قطعت مسارا في العمل السياسي، ونسجت علاقاتها مع النقابات والأحزاب وقوى المجتمع المدني، إذن فهو ليس مرتبطا بأمر تنمية المجتمع من موقع ميداني، بل هو إطار تم إعداده من طرف القصر، صحيح إنه يتوفر على تكوين مهم لكنه يظل مرتبطا بجهاز الدولة التنفيذي، وبالتحديد بوزارة الداخلية، وكذلك بمصالح الاستخبارات، إذن بهذا المعنى، يمكن للهمة أن يكون متوفرا على تكوين جيد، ليكونبمستطاعه الاضطلاع بالمهام التي يمكن أن يعهد إليه بها الملك، لكنه ليس إنتاجا لعملية ديمقراطية، أي أنه ليس منتخبا من طرف الشعب المغربي، غير أن هذا لا يمنع من أن يكون وزيرا أول، ما دام أن الدستور لديكم يمنح صلاحية للملك في أن يعين الشخص الذي يريده في منصب الوزير الأول، بغض النظر عن نتيجة الانتخابات، والتشكيلة البرلمانية التي تفرزها. س: هل تعتقد أن هذه الطريقة في تدبير أمور الدولة، التي يعتمدها محمد السادس، أي الاحتفاظ بجميع مقاليد أمور الشأن العام بين يديه، تعتبر مناسبة لبلد يعيش مشاكله السياسية والاقتصادية إلخ، وفي مستهل القرن الواحد والعشرين بخصوصياته وتحدياته إلخ؟ ج: أعتقد أن هذا النوع من التدبير لأمور الدولة في المغرب، يُمكن أن يكون له مفعول إيجابي في الوقت الراهن، وأقصد بذلك أن يجعل الملك صديقه الهمة يتولى الوزارة الأولى، حيث إن هذا الأخير يتوفر على التكوين المناسب، كما أنه مُطََّلِع على الملفات الأساسية لتدبير الشأن العام، والبنيات الداخلية لتسيير الدولة. س: هل تعتقد أن هذا الحل يمكن أن يُستعاض به عن دور الأحزاب السياسية؟ ج: لا.. إن ما قصدته هو أن وصفة تعيين الهمة وزيرا أول، يُمكن أن تكون فكرة عملية في وقت وجيز، لذا فإنها - أي الوصفة - تظل محفوفة بالمخاطر. س: بمعنى؟ ج: أقصد أنه تمت إزاحة الأشخاص الذين ترعرعوا منذ سنوات عقد سبعينيات القرن الماضي، وهم شريحة أساسية يوجد من بينهم مثقفون منتسبون للطبقة الوسطى، ويتوفرون على نسبة من التكوين كافية للمشاركة في عملية تنمية البلاد. س: مَن تقصد بالتحديد؟ ج: أقصد أولئك الأطر الذين شبوا في بعض الأحزاب، وبالتحديد في تنظيماتها الشبيبية والنقابية والمجتمع المدني إلخ، ممن لديهم التكوين المناسب للاضطلاع بأمر تسيير الشأن العام، إن عدم الالتفات إلى هؤلاء سيعني إزاحة مكون أساسي من المجتمع المغربي، وبالتالي ما قلته بشأن المخاطر التي سيأتي بها تعيين الهمة وزيرا أول، حيث سيكون ذلك معناه عزل جهاز الدولة عن باقي مكونات المجتمع. س: عزل لجهاز الدولة مقابل مَن؟ ج: مُقابل هذه الشريحة الواسعة من السياسيين الذين يتوفرون على شرعية العمل السياسي والاجتماعي.. إلخ، والذين يتم تحييدهم من خلال الإلحاح على تعيين الوزير الأول أو وزراء الداخلية من خارج وسطهم السياسي والاجتماعي، لذا فإن ذلك كفيل بخلق فراغ أو هوة بين جهاز الدولة وشريحة واسعة من المجتمع. س: اعتبر الكثيرون غداة تعيين الحسن الثاني للحكومة التي سُميت ب "حكومة التناوب" ربيع سنة 1998 أن ذلك كان خطوة مهمة نحو دمقرطة الحياة السياسية بالبلاد، غير أنه عقب أول انتخابات تشريعية في البلاد، مع عهد حكم محمد السادس، تخلى هذا الأخير عن عبد الرحمان اليوسفي، وعيَّن وزيرا أول تقنوقراطي، هو ادريس جطو في رأيك هل كان ذلك الاختيار مبررا أم شططا في استعمال النص الدستوري؟ ج: أعتقد أن محمد السادس، حين تخليه عن عبد الرحمان اليوسفي، لم يكن يدرك أبعاد وجود هذا الأخير على رأس الحكومة، ومنها فسح المجال لشخصيات سياسية جديدة، أي أناس من الطبقة الاجتماعية الوسطى، الذين كانوا ضمن المعارضة، وضمنهم مهندسون وأطر شابة، كانوا خلف عبد الرحمان اليوسفي، حيث كان هذا الأخير بمثابة البوابة لولوج طبقة سياسية جديدة إلى الشأن العام في المغرب، وما حدث أن مسلسل الانفتاح تم إغلاقه بشكل مفاجئ، وتمت العودة إلى الوراء، والعودة للاستعانة في تسيير الشأن العام إلى النخبة المخزنية التقليدية، واعتقد أن الإبقاء على عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أول كان ضروريا، حيث إن محمد السادس لم يكن حينها قد ضبط مقاليد الأمور، وبالتالي إمكانية وضع شبكته الخاصة في مواضع التسيير المتقدمة، لذا أعتقد أنه كان ضروريا الاحتفاظ باليوسفي، سيما أن حزب هذا الأخير كان قد حصل على أكبر عدد من المقاعد في الانتخابات التشريعية سنة 2002، فقد كان من شأن ذلك منح الانطباع، بأن هناك نوعا من الاستمرارية السياسية. وبالتالي وضع نوع من التراكم بصدد التناوب السياسي على السلطة. س: أليس من المفارق، أن يتم القول في بداية تولي محمد السادس الحكم، بأنه سيكون هناك "عهد جديد" والتخلي عن خدمات أقوى رمز للسلطة في شكلها المخزني، عبر إزاحة وزير الدولة في الداخلية السابق إدريس البصري، وفي ذات الآن احتفاظ الملك بكامل سلطاته الرمزية والتنفيذية؟ ج: لست أدري ما الذي حدث حينها في دواليب تسيير شؤون الدولة، لكنني أعتقد أن الرغبة في الدفع بالأمور في اتجاه إيجابي كانت حقيقية، لكن واقع الأمور كشف أشياء أخرى. س: تقصد أن نوايا الإصلاح لم تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الواقع، أو كانت على جهل بها؟ ج: نعم تماما، وأعتقد أن الملك كانت لديه رغبة فعلية في تحديث البلاد. س: وفي هذه الحالة هل أفهم من كلامك أنه لم تكن لدى محمد السادس معرفة حقيقية بالواقع المغربي؟ ج: نعم، وأظن أن ما حدث هو أنه حينما وصل إلى الحكم، وفتح أدراج تسيير شؤون السلطة بالبلاد، اكتشف حقائق الأمور كما هي عليه، والصعوبات الموجودة بكل تعقيداتها المحلية والدولية إلخ، وفي تلك اللحظة اتخذ قراره بشأن نموذج الحكم الذي سيعتمده، أي انه اختار الإبقاء على بنيات الحكم كما هي لضمان استمرار التحكم في النظام، غير أن هذا لا يمنع من القول، أنه كانت لديه في البداية، نية تغيير الأمور في اتجاه ديمقراطي، مثل تحديث بنيات الإنتاج في بعض المجالات الحيوية، لجعل البلاد تعيش العصر الحالي، أي بداية القرن الواحد والعشرين. س: ألا ترى أن ترك الناس يعتقدون في البداية بأن الأحوال ستتبدل نحو الأفضل، ثم الانتباه بعد الاطلاع على واقع الأمور كما قُلتَ، إلى صعوبة التنفيذ، وبعدها العودة إلى الوراء، معناه ركوب مخاطر عديدة أقلها اكتساب صور سيئة، وخيبات أمل لدى المعنيين بالأمر؟ ج: نعم إن هذا صحيح، حيث تكون هناك عواقب سلبية على المستوى الأخلاقي وأحاسيس خيبة أمل لدى الناس، حيث يكون هناك مجال في البداية لدى الناس لعدم مبالاة، ثم نوع من المقاومة ثم العداء، ويكون ذلك انعكاسا لعدم تحقق الوعود، غير أنني أعتقد أن ما حدث لم يتم بشكل مُتعمد، حيث يجب أن نأخذ بعين الاعتبار عمق الأزمة، والتعقيدات التي كانت عليها ملفات الشأن العام، مثل المشاكل الاقتصادية الحقيقية في البلاد، لذا أظن أن محمد السادس لم يكن على معرفة تامة، بما كانت عليه الأوضاع في البلاد، عند بداية تسلمه لمقاليد الحكم. س: عين محمد السادس السيد حفيظ بنهاشم محافظا عاما للسجون، ويُعتبر الرجل أحد الأطر السابقين الأساسيين في الإدارة الأمنية التي كان قد وضعها وزير الدولة في الداخلية سابقا إدريس البصري، هل يُمكن اعتبار ذلك التعيين بمثابة عودة إلى رجال المخزن القدامى المحسوبين على حقبة البصري والحسن الثاني؟ ج: لنتساءل أولا: أليس هناك إطارا واحدا ضمن المحيط المباشر للملك، أو في باقي الدواليب الأساسية لتسيير الدولة، ليس محسوبا على نمط إدارة وتدبير البصري، وذلك بدءا بفؤاد علي الهمة نفسه؟ ومعنى هذا أن كل هؤلاء تلقوا تكوينهم في وزارة الداخلية زمن إدريس البصري، وبالتالي فإن استعانة الملك بالسيد حفيظ بنهاشم مرده إلى مستوى تكوينه وتجربته، سيما أنه كان على رأس الإدارة العامة للأمن، وبالتالي فهو مِهني مهم في مجاله، وذلك بالنظر إلى واقع الملف الذي دُعي للإشراف عليه، وفي الحقيقة لست أدري ما هي الأسباب التي دعت إلى الاستعانة به من جديد، غير أنني أعتقد أن الملك يعرف أن بحاجة إلى أطر من عيار وتجربة حفيظ بنهاشم لتدبير بعض ملفات الدولة المعقدة. س: غير أن هذا لا يخدم "المفهوم الجديد للسلطة" الذي كان قد نادى به محمد السادس من قبل؟ ج: نعم، لكن الأمر يتعلق بمفهوم أخلاقي يفترض التوفر على رجال سلطة جدد غير مورطين في ملفات الماضي، ولديهم منهجية عمل جديدة، وأساليب أخرى مبتكرة إلخ، وهذا غير متوفر باستثناء مجالات عمل محدودة. س: هل تقصد أن إطلاق مفهوم أخلاقي لا يكفي لتسيير أمور الدولة؟ ج: بالضبط، فحينما يتعلق الأمر بمناصب حساسة لتسيير الدولة يفرض الأمر اللجوء إلى الكفاءات المهنية. س: هل تعتقد أنه من الممكن تسيير أمور الدولة، مع عدم أخذ مثل هذه الأمور الأساسية بعين الاعتبار؟ ج: لست أدري كم عدد ونوع الأشخاص الذين يتوفر عليهم الملك محمد السادس للقيام باختياره للرجال في المراكز الأساسية لتسيير الشأن العام، مثل الداخلية والأمن ... إلخ، وعلى كل حال فإنه ليس من المعقول أن تتم إزاحة كفاءة شخص معين ووضع آخر مكانه لمجرد أن هذا الأخير يتوفر على خاصية الإخلاص، علما بأن هذه النوعية الأخيرة من الناس تكون في الغالب ضمن الحاشية الطيعة، التي تتقن تنفيذ الأوامر أكثر من أي شيء آخر. وللأسف فإن اختيار هذا النوع من الأشخاص يكون مضرا بملفات الشأن العام، حيث يكون مطلوبا الكفاءة والتجربة والمِهنية. س: انطلاقا من سنوات عملك الطويلة كمراسل صحافي في المغرب، وتتبعك لخاصيات المشهد السياسي المغربي، ما هي في نظرك أكبر الهفوات التي ارتُكِبت في العهد الجديد؟ ج: يصعب إيجاز هذه الأخطاء، غير أنني اعتقد أن أهمها يرتبط بإيقاف المسلسل الديمقراطي، المتمثل في الإصلاحات التي كانت مطلوبة في المغرب، ومنها إصلاح شكل ومضمون الحكم الملكي، لقد قام محمد السادس بإيقاف هذا المسلسل، ربما لأنه لم يجد ما يكفي من الأشخاص والوسائل للذهاب بعيدا في تنفيذ الإصلاحات الضرورية، وبالتالي انغلاق المؤسسة الملكية على نفسها، وتسجيل تراجعات على أكثر من مستوى، سيما في مجال الاعلام حيث تمت مواجهة الصحافة المستقلة والتضييق عليها بمختلف الأشكال. س: ألا ترى أن التفجيرات الإرهابية ليوم 16 ماي 2003 كانت سببا في التراجعات التي تم تسجيلها؟ ج: نعم، هذا صحيح، حيث دفعت تلك الأحداث الملك إلى الشعور بالخوف، وهذا راجع إلى أن محمد السادس لم يكن يعرف حينما كان وليا للعهد واقع البلاد، أما حينما أصبح ملكا فوقف على ما يعتمل في طنجرة الضغط المُقفلة، وبالتالي رد فعله المفاجئ بالتراجع ولانغلاق، وبالمقابل فإن الحسن الثاني كان على معرفة جيدة بالواقع الأمني للبلاد، وبالتالي توفره على طريقة التحكم فيه، وهي التجربة التي لا تتوفر لولي عهده، لذا فقد تفاجأ هذا الأخير بما حدث يوم 16 ماي 2003، وكذلك ببعض التطورات التي حدثت في الدولة والمجتمع، حيث بدأ يتردد، ثم شرع في التراجع عن الانفتاح الجزئي الذي شهده مستهل حكمه، بدلا من دعم القوى الديمقراطية في المجتمع، والذهاب في التجربة الفتية بعيدا، هذا في نظري كان خطأ كبيرا، سيتم أداء ثمنه غاليا على المدى الطويل. س: ما هي باقي الأخطاء الأساسية في نظرك؟ ج: هناك الأخطاء المُرتكبة في إدارة بعض المشاكل مع دول الجوار، إذ باستثناء الموقف المرن من التطورات المهمة التي حدثت في موريتانيا، فإن محمد السادس لم يستطع إيجاد تدبير جيد للملفات المعقدة في العلاقات مع الجزائر وإسبانيا، بل وحتى مع البرتغال، مع أنه كان يتوفر في بداية حكمه على تأييد دولي ملحوظ، غير أنه لم يستطع الاستفادة منه لنسج علاقات جيدة ومتينة مع دول الجوار. س: وكيف تفسر ذلك؟ هل مرده إلى عجز؟ ج: يعود ذلك، في جزء كبير منه، إلى جماعات مصلحية في النظام. س: تقصد أن مصالحها لا تتماشى مع الانفتاح على الخارج؟ ج: بكل تأكيد، حيث هناك جماعات أكثر نزوعا نحو باريس وأخرى نحو مدريد إلخ، وبالتالي لا يرغبون في تسوية العديد من الملفات العالقة في العلاقة مع دول الجوار. س: هل تقصد الجماعات المستفيدة من العلاقات التقليدية مع فرنسا، ومصالح هذه الأخيرة؟ ج: نعم، وما دام أن اتحاد المغرب العربي يوجد في وضع الميت، فإن تلك الجماعات المتناقضة المصالح والأهواء، تتنازع فيما بينها، حول ملفات العلاقات الخارجية، ولم يستطع محمد السادس إدارة تلك التناقضات على النحو الأمثل. نظرا لافتقاده للمرونة الكافية لحل المشاكل مع الجزائر وإسبانيا وفرنسا إلخ بما يكفل المصالح الحيوية للمغرب.